الخلوةُ مع اللهِ-29-5-1441هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري
محمد بن سامر
1441/05/29 - 2020/01/24 19:37PM
الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وليُ الصالحينَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُه الأمينُ، عليه وآلهِ الصلاةُ وأتمُ التسليمِ.
"يا أيها الذينَ آمنوا اتقوا اللهَ حقَ تقاتِه ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون".
أما بعد: فيا أحبابي الكرام:
ذَكَرَ رسُولُ اللَّهِ-صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسَلَّمَ-فِي السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظلُّهُ: "ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ"، خاليًا فهو لم يبكِ ليراهُ النَّاسُ، ولا لأنَّه رأى غيرَه يبكي فبكى معه، إنما هو مجلسٌ ليسَ فيه إلا هو واللهُ تعالى-.
الخلوةُ مع اللهِ-تعالى-، عبادةٌ عظيمةٌ، ومجالسُ مُباركةٌ، كانتْ حاضرةً في سيرةِ النَّبيِّ-صلى اللهُ عليه وآلِه وسلمَ-قبلَ الوحيِ وبعدَه، تَقولُ أمُنا الطاهرةُ عَائشةُ-عليها من اللهِ الرضوانُ والسلامُ- وهِيَ تتَحدَّثُ عن النَّبيِّ-صلى اللهُ عليه وآلِه وسلمَ-قبلَ الوحيِ إليه: "ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، فكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ–يتعبدُ-فِيهِ اللَّيَالِىَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ"، وأما بعدَ نزولِ الوحي والهُدى والخَيرِ، فتَقولُ: "إنَّ النَّبيَّ-صلى اللهُ عليه وآلِه وسلمَ-كَانَ يَعتكفُ العَشرَ الأواخرَ من رَمضانَ حتَّى تَوفَّاهُ اللهُ"، أيامٌ وليالٍ يخلو بنفسِه مع ربِّه-سبحانه-ويتركُ النَّاسَ، ووَقتُه أثمنُ وقتٍ، يَتفكَّرُ في نعَمِ اللهِ التي أَعطاهُ، ويُحاسبُ نفسَه على ما قدَّمَ في دنياه لأُخراه، ويتعبَّدُ بتلاوةِ القُرآنِ، ودُعاءِ الرحمنِ، والذِكرِ، والصلاةِ، فكيفَ بنا نحنُ؟، ما أجملَ أن تكونَ لنا خلوةٌ مع اللهِ، نُجدِّدُ بها العهدَ والميثاقَ، ونَروي منها ظمأَ المُشتاقِ؟، وننظرُ فيها إلى خطواتِنا، ونقدمُ فيها لحياتَنا الأخرى، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ"، كَانَ حبيبٌ العابدُ يَخلو في بيتِه، ويَقولُ مناجيًا اللهَ-تعالى-: "من لم تَقَرَّ عينُه بِكَ، فلا قرَّتْ، ومن لم يأنسْ بكَ، فلا أَنِسَ".
هذه الخلوةُ مع اللهِ، هي أُنسُ المُتَّقينَ، وربيعُ المؤمنينَ، مُناجاةٌ ودُعاءٌ، في صِدقٍ وصفاءٍ، يترقى الإنسانُ بها من الإسلامِ إلى الإيمانِ، حتى يَصلَ بها إلى منزلةِ الإحسانِ، قالَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلِه وسلمَ-: "الإحسانُ أن تَعبدَ اللهَ كأنَّكَ تَراهُ، فإن لم تكنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ"، هناكَ تُحطُّ الرِّحالُ وتُناخُ المطايا، ويرى العبدُ من اللهِ واسعَ الجودِ وجزيلَ العطايا.
يا من مَددتُم إلى الرَّحمنِ أيديَكُم*لقد وقفتُم بمن لا يُغلقُ البابا
ستَبلغونَ أمانيكُم بقُدرتهِ*هذا هو اللهُ، من ناداهُ ما خابا
نحتاجُ أن نبتعدَ بين حينٍ وآخرَ عن ضجيجِ اللِّقاءاتِ، وكَثرةِ الاجتماعاتِ، ومُخالطةِ الأصحابِ، ومنادمةِ الأهلِ والأحبابِ، لنخلوَ باللهِ: بذكرِه ودعائِه ومناجاتِه، وتلاوةِ آياتِ كتابِه، قالَ مسلمُ بنُ يَسارٍ-رحمَه اللهُ-: "ما تَلذَّذَ المُتلذِّذونَ بمثلِ الخلوةِ بمناجاةِ اللهِ-عزَّ وجَلَّ-".
بِكَ لا بغيرِكَ تَفخرُ الأبياتُ*وتتيهُ في أوزانِها الكلماتُ
والرَّوحُ إن ذَكرْتَكَ في خَلواتِها*طَابتْ بطيبِ حَديثِكَ الخَلواتُ
نحتاجُ أن نخلوَ باللهِ-سبحانه-فنبتعدَ عن هذه الأجهزةِ الذكيةِ التي تسمَّرتْ الأعينُ في شاشاتِها، وانشغلتْ الأصابعُ في تقليبِ صفحاتِها، فأصبحُ كثيرٌ من الناسِ مُدمنينَ لها، لا يستطيعُونَ الابتعادَ عنها، ولو نسوها أو انتهى شحنُها أصبحوا كطُّيورِ محبوسةٍ في قفصٍ، ترفرفُ بأجنحتِها تبحثُ عن مخرجٍ، يبحثون عن شاحنٍ، أو أحدٍ يتحدثون معه لقطعِ الوقتَ، أصبحت أرواحُهم وأجسامُهم أعداءً، لا يأنسون بلحظاتِ الصَّفاءِ!
هناكَ من يخلو مع اللهِ-تعالى-عندَ وضعِ الرَّأسِ على وِسادةِ النَّومِ، فيسترجعُ شَريطَ أحداثِ اليومِ، فيتحسرُ على ما أضاعَ من الأوقاتِ، ويتداركُ ما فاتَ قبلَ المماتِ، يَقولُ محمدُ بنُ واسعٍ-رحمَه اللهُ-: "لقد أَدركتُ رِجالًا، كَانَ الرَّجلُ يَكونُ رَأسُه مع رَأسِ امرأتِه على وِسادةٍ وَاحدةٍ، قَد بلَّ ما تحتَ خَدِّهِ من دُموعِه، لا تَشعرُ به امرأتُه، ولقد أَدركتُ رِجالًا يَقومُ أَحدُهم في الصَّفِّ فتَسيلُ دُموعُه على خَدِّهِ ولا يَشعرُ به الذي إلى جَانبِه".
وَمَا أبْصَرتْ عَينَايَ أَجمَلَ مِنْ فَتًى*يَخَافُ مَقامَ اللهِ فِي الخَلَواتِ
وهناكَ من يخلو بقلبِه مع اللهِ-تعالى-وهو بينَ النَّاسِ، جسدُه بينَهم وقد طارَ قلبُه في ملكوتِ السَّماواتِ، يذكرُ اللهَ-سبحانه-في نفسِه، فيذكرُه اللهُ-تعالى-في نفسِه، قَالَ اللهُ-عَزَّ وَجَلَّ-فِي الحَدِيثِ القُدُسيِّ: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي"، مَشغولٌ بالتَّأمُّلِ في نِعمِ اللهِ وآياتِه، ورؤيةِ آثارِ رحمتِه، وبَديعِ صُنعِه، مُتدبِّرٌ في قُدرتِه وقوَّتِه في نَصرِ المؤمنينَ، ومتفكرٌ في مكرِه وبَطشِه في إهلاكِ الظَّالمينَ، على مرِّ القرونِ والسِّنينَ.
لقدْ رفعَ اللهُ ذكرَ الإمامِ الجليلِ عبدِ اللهِ بنِ المباركِ-رحمَه اللهُ-وأعلى منزلَتَه عندَ الناسِ؛ لنَقاءِ سَريرتِه وخلوتِه، وخَفاءِ طَاعاتِه وبُكائه، يَقولُ أَحدُ تَلاميذِه: "سَافرتُ مع عَبدِ اللهِ بنِ المباركِ فرَأيتُه في السَّفرِ، فقلتُ-في نفسي-: سُبحانَ اللهِ يُصلي كصلاتِنا، ويَقرأُ كقراءَتِنا، ويَصومُ كصيامِنا، فلماذا رفعَ اللهُ له الذِّكرَ الحسنَ في النَّاسِ، ومكانتَه في العَالمينَ؟ فدخلنا حُجرةً ونحنُ مُسافرونَ فانطفأَ السِّراجُ عَلينا، فذهبنا نَلتمسُ سِراجًا نَستضيءُ به، فأَتينا ابنَ المباركِ بعدَ سَاعةٍ بالسِّراجِ، فإذا هو في الظَّلامِ يَبكي ودُموعُه تَتَحدَّرُ من رأسِ لحيتِه، قلنا: مَالكَ يا أبا عبدِ الرحمنِ؟، قالَ: واللهِ لقد ذَكرتُ القبرَ بهذهِ الغُرفةِ المظلمةِ الضَّيقةِ فكيفَ بالقَبرِ؟ هذا هو السِّرُّ.
أستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمين...
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:
فهناكَ خَلوةٌ باللهِ-تعالى-تكونُ كلَّ ليلةٍ، عندما تهدأُ الخُطواتُ، وتسكتُ الأصواتُ، يَقُولُ الرسولُ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلِه وسَلَّمَ-: "ينزل رَبُّنَا-تَبَارَكَ وَتَعَالَى-كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ"، حِينَها يستيقظُ المحبونَ للهِ طَمعًا في اللِّقاءِ، ويتسللونَ مِن مراقدِهم في خَفاءٍ، يَقولُ ثَابتُ البُنانيُّ-رَحمَه اللهُ-: "كَابدتُ نَفسي على قِيامِ اللَّيلِ عِشرينَ سَنةً، وتَلذَّذتُ بِه عِشرينَ سَنةً".
فما هو حديثُهم وخِطابُهم؟ "يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ"، حِينَها ينبغي على كلِّ واحدٍ مِنَّا أن يُخرجَ أشجانَه، ويبُثَّ أحزانَه، فتنفرجَ الكروبُ، وتنجليَ الخطوبُ.
وإذا قالَ: "مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ"، أجبناه بالدَّمعاتِ، والنَّدمِ على ما فاتَ، راجينَ ما وعدَ في الآياتِ، "إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ"، فأينَ نحنُ من هذه الخَلواتِ؟، وهذا الخيرِ والحَسناتِ؟، أينَ نحنُ من هذه العباداتِ؟.
اللهمَّ يا مُفرجَ الكُرباتِ، وغَافرَ الخَطيئاتِ، وقَاضيَ الحاجاتِ، وإلهَ الأرضِ والسمواتِ، يا مَن عليه وَحدَه المُتَّكلُ، يا من إذا شَاءَ فَعلَ، يا من لا يُبرمُه سُؤالَ من سَألَ، خُذنا من أنفسِنا إليكَ، وأَحي قلوبَنا بذكرِك، وارزقنا الثَّباتَ على طاعتِك، وافتح لنا الطَّريقَ إلى هدايتِكَ، اللهم أصلِح أحوالَ المسلمينَ في كلِّ مكانٍ، اللهم احفظ دينَهم وأمنَهم، اللهم صُنْ أنفسَهم وأموالَهم وأعراضَهم.
اللهم اهدنا والمسلمينَ لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ، واصرفْ عنا والمسلمينَ سيِئ الأخلاقِ والأعمالِ، اللهم أصلحْ ولاةَ أُمورِنا وولاةَ أُمورِ المسلمينِ، وارزقهمْ البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ، ووفقهمْ لما تحبُ وترضى، وانصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالمينَ غانمينَ، اللهم اغفرْ لنا ولوالدينا وللمسلمينَ، أسألُك لي ولهم من كلِّ خيرٍ، وأعوذُ وأُعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، اللهم اشفنا واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعلنا والمسلمينَ ممن نصرَك فنصرْته، وحفظَك فحفظتْه، اللهم عليك بأعداءِ المسلمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اكفنا واكفِ المسلمين شرَّهم بما شئتَ يا قويُ يا عزيزُ.