الخَطَابَةُ.. ومُهِمَّةُ التّأثير .. أ. ياسر السليّم
الفريق العلمي
بِحُكمِ تَجربتي البسيطَة؛ فقد سَأَلَني مَنْ أُحِبُّ عَن الخَطَابة، واسْتَنْصَحَني مَنْ أَحْسَنَ بيَ الظنَّ حولَ أبرَزِ ما يُمكِنُ لَفْتَ نَظَرِهِ إليه، وقَد أقبَلَ على مُهِمَّتِه الرَّسمِيَّة؛ خَطِيبًا للجُمُعَةِ.. فآثَرْتُ أنْ أكتُبَ لنفْسِي أولاً، ولَهُ ثانِيًا، ولكلِّ مُهتَمٍّ؛ بعضَ ما ينفَعُنا حِيَالَ هذهِ الـمُهِمَّة الجَلِيلة.
تَـزَيَّـــنْ!
كانَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يَخطُبُ على جِذْعِ شَجَرة، لا تبدو عليهِ فنونُ النَّقْش، ولا روعةُ التلوين، ولا تَكْتَنِفُه قُبَّة، لكنَّه صنَعَ الرِّجَالَ، وغيَّرَ العالَم، واستجابَتْ له القلوب، وأحْدَثَ التأثير.. وهذهِ هي وَظِيفَةُ المنبر، ومسؤوليَّةُ الخَطيب.
وبِمَا أنَّ الخطَابةَ عمليةٌ اتّصاليةٌ؛ فالخُطبَةُ (رسالةٌ) يَبْعَثُها الخطيبُ (الـمُرسِل) إلى الـمُتَلقّي (الـمُرسَل إليه)؛ فالجَديرُ بِبَاعِثِ الرِّسالةِ أنْ يَتفقَّدَ ذاتَه، فيُزَيِّن مَخْبَرَهُ كما يُزَيِّن مَظْهَرَه، ويُطَهِّر قلبَه مِنْ أدواءِ الحقدِ والحسد، والبَحثِ عن الشُّهرةِ وثناءِ الناس، كما يُراجِع أخلاقَهُ وتعاملاتِه مع الآخرين، ويَعمَل عملاً صالحِا.. وقد قال عثمانُ -رضي الله عنه-: "ما عَمِلَ رَجُلٌ عمَلاً إلاَّ ألبسهُ اللهُ تعالى رِدَاءَه، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشَرَّ"؛ فمهما تزيَّن الخطيبُ ظاهرًا؛ فلن تُؤثِّرَ رسالَتُه في الناسِ ما دامَ لم يُعالِجْ في نَفْسِه هذا الشُّعور، ولم يُزيِّن محلَّ نَظَرِ الله.
فصَحِّحْ نيَّتَك وقصْدَك، ولا تلتفِتْ لِشَهْوةِ النَّفْس، ونَظْرَةِ الناس، ووسَاوِسِ الشيطان؛ فإن انتظرتَ كلماتِ المديح، وتَشَوَّفْتَ لرسائل الثناء؛ فلا تتعنَّى، فأنت خاسِر، وقد بارَتْ تِجارَتُك!.
وإذا تَبِعَكَ أحدُهم فنصَحَك فاقبَلْ نُصْحَه، ولْيَكُنْ فَرَحُكَ بالنَّصَائِح، أكثرَ مِنْ فَرَحِكَ بالمدَائح.
حَــضِّــرْ!
قيلَ: أنَّ الخطيبَ كالـمُجَاهِد، والـمُجاهِدُ لا يَخوضُ حَرْبًا بلا دِرع، ولا يَلِجُ المعركةَ بلا تُرْس، بل يلبَسُ لها لأْمَتَها، ويُعِدُّ لها عُدَّتَها.. وكذلك الخطيب، فيتهيَّأ لِخُطبتِه، ويَستَعِدّ لإلقائها بين يدي الناس، ويُحضِّر لذلك الموقف مِن كلِّ النواحي.
ومهما بلَغَ الخطيبُ من القُدرةِ الخَطَابيَّة، والحصيلةِ العِلْميةِ، والمخزونِ اللغوي؛ فإنَّ ذلك لا يُغنيهِ عن التَّحضير، وقد قالَ عمرُ -رضي الله عنه- يومَ السَّقِيفَةِ: "وكنتُ قد زوَّرْتُ مقالَةً أعجبتني أريدُ أنْ أُقدِّمَها بين يديّ أبي بَكْرٍ"، ومعنى "زوَّرتُ مقالةً": أي هيَّأتُها وصوَّرتُها في نفسي.. ومهما بَلَغْتَ فلَنْ تكونَ كالفاروقِ الـمُلْهَمِ -رضي الله عنه-.
وقد قيل: "رأسُ الخَطَابةِ الطَّبْع، وعَمُودُها الدُّرْبَة"؛ لذلك اجتَهِدْ في الإعدادِ لمحتوى الخُطبة، وتدرَّبْ على إلقائها، وتمكَّنْ من أفكارِها وألفاظِها؛ فالتَّحضيرُ للخُطبةِ يَمْنَحُك ثقةً في نفسِكَ، ويَظْهَرُ أثَرُ ذلك لدى المتلقّين، فيَلْحَظُونَهُ في هُدوئكَ وثباتِك، ونجاحِكَ في إيصالِ المقصودِ بالطريقةِ الصحيحةِ، وعَرْضِكَ للخُطبة في أكملِ صورة.
لا تتكلَّف!
الاستعدادُ للخُطبة والتحضيرُ لها؛ لا يعني التكلُّفَ في شيءٍ مِنْ مَراحِلِها إعدادًا وإلقاءً، فلن تكونَ خطيبًا بَارِعًا إذا انتقيتَ أصعبَ الألفاظ، ولن تكونَ خطيبًا مِصقَعًا إذا تَصَنَّعْتَ المشَاعِرَ في قسَمَاتِ وجْهِكَ، ونبَرَاتِ صَوْتِكَ، فليس هذا شأنُ الخطيبِ الـمَطْبُوع؛ بل كُنْ على سَجِيَّتِك، وَدَعْ لسانَكَ يُتَرْجِمُ عن قلبِك، واترُكْ فؤادَكَ يتوقَّد، وعاطِفَتَك تتوهَّج، دون اصطِنَاعٍ منك.
وحَسْبُكَ مِن ذَمِّ التكلُّفِ أنَّ الله سبحانه أمَرَ رسولَهُ صلَّى الله عليه وسلَّم بالتَّبرؤ منه فقال: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)[ص:86].
وليس معنى ذلك أنْ تُقَصِّرَ في تحسينِ خُطبَتِك، أو أنْ تَهُذُّها هَذًّا، وتَسْرُدَها سَرْدًا، بل اعتنِ بنبراتِ الصَّوت، وتَطويرِ الأداء، وتصويرِ المعاني، والبُعْدِ عن الرَّتابة، فإنَّ ذلك يُعطي اللفظَ حياةً تَسْتولي بها على الـمُسْتَمِعين. كما أنَّ التكلُّفَ من أعظَمِ ما يُصِيبُ الخطيبَ بالفُتورِ، ويُضْعِفُه في مُهِمَّتِه.
الارتباك، وهيبةُ المنبر!
كانَ فقيهُ الأُدَباءِ الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- قد اعتادَ الخطَابةَ أكثرَ مِنْ ثلاثين عامًا، لكنَّه قال في ذكرياتِه: "على أنّي لا أكتُمُكم، بل أعْتَرِفُ لكم بأنّها تمرُّ بي الدقائقُ الأخيرةُ قبل أنْ أشْرَعَ بالخطبة ثقيلةً، وأنّي ربّما استشعرتُ الهيبةَ أحيانًا، فإذا بدأتُ الكلامَ ذَهَبَ هذا كلَّه.."(الذكريات 2-67).
فشعورُ الهيبةِ للمنبرِ قد يُلازِمُك أعوامًا عديدة، وبالاستعانِةِ بالله، ودعائهِ أن يُلْهِمَك التوفيقَ والإعانة، ثم بالحرصِ على الأسبابِ الشَّرعيةِ والمهاريَّة؛ يتلاشى هذا الشعورُ ويضمَحِل -بإذن الله-.
وتَذَكَّرْ أنَّك في مَقَامٍ كريم، وأنَّ الله اختارَكَ لتَدْعو إليه، وتَدُلَّ الناسَ عليه، وتَقِفَ مكانَ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم-؛ فهو سَيِّدُ الخُطباء، وإمامُ الدُّعاة.. فاقتدِ به وبالأنبياءِ الكرام (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ) [الأحزاب: 37-39].
ومن الغَبْنِ أنْ ترى أهلَ الباطِل يُجاهِرُون بباطِلِهم دونَ خجَلٍ، وأنتَ في خيرِ مُهِمَّةٍ، تَدْعو إلى الله، ويَتَعبَّدُ الناسُ بالإنصاتِ إليك؛ فكُنْ قويًّا بالحقِّ، وقد اسْتَعاذَ عُمَرُ -رضي الله عنه- بالله من "جَلَدِ الفَاجِرِ وعَجْزِ الثِّقَة" والمؤمنُ القوي خيرٌ من المؤمنِ الضعيف.. واعلَمْ بأنَّ هُدوءَكَ في كلامِكَ، وتَمَهُّلَكَ في مَنْطِقِكَ؛ علامةٌ على سُكُونِ نَفْسِكَ، ورَبَاطَةِ جَأْشِك.
لن تُصلِح الدنيا بخُطبةٍ واحدة!
يُخطِئ مَنْ يَظُنُّ أنَّه بخطبةٍ واحدةٍ سيُصلِحُ الناسَ أجمعين.. هذه النَّظرةُ الخاطئةُ تَحُول دونَ مُراعاةِ أحوالِ الناس، ومُخاطَبتِهم بما يُناسِبُهم؛ فالإصلاحُ يأتي خُطوةً بخُطوة، والتَّدَرُّجُ خير، ولن يحصُلَ الكمَالُ بين ليلةٍ وضُحاها.
والخطيبُ حين يَظُنُّ ذلك؛ فإنَّه يخوضُ في كلِّ واد، يَنتَقِلُ مِن موضوعٍ لآخر بُخطَبٍ مُتمَاثِلَةٍ تَكَادُ تَنْعَدِمُ ثمَرَتُها، فيُلقي ما لديهِ دونَ أنْ يَستوِعَبَ السَّامِع طَرَفًا مما يَقولُ الخَطيبُ.
وممّا استفدتُه مِن شيخِنا الشيخ د. عبدالعزيز بن محمد السّدحان -حفظه الله- ألاّ أجمَعَ في الخطبة الوَاحِدة كلَّ ما ورَدَ في الموضوع، وأنَّه بالإمكان تقسيمُ الموضوع في أكثرِ من خُطبة والحديثُ عنه مِنْ جِهَاتٍ مختلفة؛ فموضوعُ الصلاة مثلاً فيه عناصِر كثيرة (صلاة الجماعة، الخشوع في الصلاة، سنن الصلاة، وغيرها...) فلا تجمَعْ ذلك كلَّه في خُطبةٍ واحدة؛ فإنَّ ذلك أدعَى لحصُولِ الفائدة، وأَخْذِ العِبرَة.
"واعلم أنه قَلَّمَا يستطيعُ الخَطِيبُ أنْ يتناولَ الموضوعَ مِنْ أوَّلِه إلى نهايته دَفْعَةً واحِدَة، فإنْ هو كَلَّفَ عَقْلَه ذلك أرْهَقَهُ ضَجَرًا، ولاسِيَّمَا عند تَشَعُّبِ الموضوع وكثْرَةِ المعاني فيه، فيَكادُ ييأسُ مِنَ المقدِرَةِ عليه؛ إذْ تَلُوح له مَعَانٍ كثيرةٌ فَيَرُوعُه انتشارُها ولا يَدْري كيف يَبْتَدِئُها"(أصول الإنشاء والخطابة؛ لابن عاشور ص:55).
التطويل والإسهاب!
جعَلَ النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قِصَرَ الخطبةِ وطولَ الصلاةِ علامةً على فِقْهِ الإمام، وقال سَمُرة رضي الله عنه: "كنتُ أُصَلِّي مع النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فكانَتْ صَلاتُه قَصْدًا، وخُطْبَتُه قَصْدًا"(رواه مسلم).
قال الشيخ عبدالله البسام -رحمه الله- في كتابه (توضيح الأحكام): "إنَّ قِصَرَ الخُطبة، وإطالةَ الصلاةِ دليلٌ على فِقْهِ الخطيبِ والإمام، فإنَّه استطاعَ أنْ يأتي بمعاني الخُطبةِ بألفاظٍ قليلة، وبوَقْفةٍ قصيرة، أما تَشْقِيقُ الكلامِ وتطويلُه فهو دليلٌ على العِيِّ والعَجْزِ عن الإبَانةِ، فخيرُ الكلامِ ما قلَّ ودلَّ".
وقد وقفتُ على خُطَبٍ صوتية لمفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- لا تكاد تتجاوز 8 دقائق تقريبًا، وبالإمكان الوصول إليها في "يوتيوب".
قال الشيخُ علي الطنطاوي -رحمه الله-: "وهذه خُطَبُ الرَّسول المأثورة، وخُطَبُ الصحابة، منها ما هو صفحةٌ واحدة، أو أقل من ذلك... وأنا أخطبُ في مسجدِ جامعةِ دمشق فلا تَمُرُّ ثلثُ ساعةٍ، أو خمسٌ وعشرون دقيقة، على أذانِ الظُّهر، حتى تكونَ قد انتهت الخُطبة والصلاة"(فصول إسلامية: ص86).
والخطيبُ كالطبيب؛ يَصِفُ للناس الدَّواءَ بالقَدْرِ الذي يَحصُل به المقصود، ومهما كان الخطيبُ بارِعًا فإنَّ الإطالةَ تُورِثُ السَّآمةَ وإعراضَ السَّامع، وفي الناسِ المريضُ والكبيرُ والضعيفُ وعابرُ السبيل وذو الحاجة وغيرهم.. والكلامُ إذا طالَ أَنْسَى آخِرُهُ أوَّلَهُ.
متفرِّقات:
الزَم الرَّحمَة، وانصَحْ بتَلَطُّف، وإذا وعَظْتَ الناسَ فخَاطِبْ نفسَكَ معهم؛ فلستَ مُبرّأً من العَيْبِ، وإذا أشْرَكْتَ نفسَك في الخِطَاب كانَ ذلك أدَعى لتَقَبُّلِ النصيحَة، وكما قيل: "مَنْ أجرَاكَ مَجْرى نَفْسِهِ ما ظَلَمَك".. لا تَتَقَيَّد بـ"كليشات" مُكرَّرة، وألفاظِ مُرَدَّدة، ولا تُلْزِمْ نفسَكَ ما لم يُوجِبُه اللهُ ورسولُه.. اعْرِفْ حالَ الـمُصلّين، وخَاطِبْهُم بما يُناسِبُهم؛ فجامعُ السُّوق ليس كجامعِ الحيّ.. زِد مِنْ ثقافَتِك واطِّلاعِك.. واتقِن الإعْرَابَ وتجنَّب اللحْنَ.. تعرَّفْ على صَوْتِك، واستَخْدِمْهُ بلا إجْهادٍ أو تَكَلُّف، ابْدَأ الخُطبَةَ بهدوء، واخْتِمْهَا كذلك، واسْألِ اللهَ أن يُعينَك على الإخلاص ويمنحَك التوفيق ويُمِدَّك بالعونِ والتسديد.