الخَطَأُ يجبُ إنكارُه

سليمان بن خالد الحربي
1442/08/15 - 2021/03/28 18:27PM

 

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستَعينُه ونستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِنْ شُرور أنفسِنا وسيِّئَاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هادِيَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومَنْ سارَ على نَهْجِه، واقْتَفى أثَرَهُ إِلَى يومِ الدِّينِ، وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا، أَمَّا بعْدُ:

فاتقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ- {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70]، {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]. 

معاشِرَ المصَلِّينَ، لم يَمْنَعْ ذاك الكَهْلَ اليهوديَّ وُقُوعُه في الخطأ والخوفُ مِن شَبَحِ السؤالِ الذي لا يُجدِي: لِمَ تَفعلُ هذا إذن؟ بأن ينصحُ ولدَه ويُوجِّهُه إلى الصوابِ، وإن كان هو لم يفعلْ ما وجَّه إليه.

تأملوا ما رواه البخاريُّ في صحيحِه مِن حَدِيثِ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ». فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ» ([1]).

انظروا إلى شجاعةِ الأبِ كيف قامِ بِمَحْضِ النصيحةِ في أمرٍ ليس كأيِّ أمرٍ، ولم يَلْتَفِت إلى تَهَكُّم الناسِ عليه، وانظروا إلى الابنِ كيفَ تَقَبَّلَ النصيحةَ دُونَ أن يُشَوِّشَ عليها وُقوعُ أبيه في الخطأ.

إن هذا الموقفَ يُؤَصِّلُ فينا سُلوكًا إيجابيًّا، وهو أنَّ الخطأَ خطأٌ، فلا تَجْعَلْ مُقَارَفَتَنا للخطأ سببًا في اهتزازِ قَنَاعَاتِنا، أو طَريقًا لِتَبْرِيرِ مَواقِفنا الخاطئةِ.

إن تحذيرَ الوالدِ لولدِه، أو الصَّديقِ لِصَدِيقِه مِن ممارساتٍ مُحَرَّمَةٍ، وإن كان الناصحُ مُزَاوِلًا لهذا الخطأ دليلُ نُضْجٍ ووَعْيٍ وخَوْفٍ مِن اللهِ جل وعلا. فكَم تسمعُ مَن يُحَذِّرُ مِن الدُّخَانِ، مثلًا وهو يَشْرَبُه أو يُحَذِّرُ مِن إهمالِ الدراسة، وهو مُتَكَاسِلٌ، وتَأَمَّلُوا هذه الآية العظيمةَ التي تُضِيءُ لنا تأصيلَ هذا الأصلِ، وهو قول الله -جل وعلا-: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].

فتَأَمَّلْ قولَه: {عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ}، قال أبو محمد بن عطية -رحمه الله- في تفسيره ([2]): «قال حُذَّاقُ أهلِ العِلمِ: وليسَ مِن شرطِ الناهي أن يكون سَلِيمًا عن معصيةٍ، بل يَنْهِي العُصاةُ بعضُهم بَعْضًا، وقال بعضُ الأُصوليين: فَرْضٌ على الذين يَتَعَاطَوْنَ الكُئوسِ أن يَنْهَى بعضُهم بعضًا، واستدلوا بهذه الآية، قالوا: لأن قوله: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} يقتضي اشتراكَهُم في الفِعل، وذَمَّهُم على تَرْكِ التَّنَاهِي».

قال ابنُ حَزْمٍ -رحمه الله-: «ولو لم يَنْهَ عن الشَّرِّ إلا مَن ليس فيه شيءٌ منه، ولا أمَرَ بالمعروفِ إلا مَن استَوْعَبَه لما نهى أحدٌ عن شَرٍّ، ولا أمَرَ بخيرٍ بَعْدَ النبيِّ»([3]).

وقال النَّوَوِيُّ -رحمه الله-: «وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْآمِرِ وَالنَّاهِي أَنْ يَكُونَ كَامِلَ الْحَالِ مُمْتَثِلًا مَا يَأْمُرُ بِهِ، مُجْتَنِبًا مَا يَنْهَى عَنْهُ، بَلْ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَإِنْ كَانَ مُخِلًّا بِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَالنَّهْيُ، وَإِنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِمَا يَنْهَى عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْئَانِ أَنْ يَأْمُرَ نَفْسَهُ وَيَنْهَاهَا وَيَأْمُرَ غَيْرَهُ وَيَنْهَاهُ فَإِذَا أَخَلَّ بِأَحَدِهِمَا كَيْفَ يُبَاحُ لَهُ الْإِخْلَالُ بِالْآخَرِ»([4]).

وقال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: «لو كان المرءُ لا يأمرُ بالمعروفِ، ولا ينهى عن المنكرِ حتى لا يكونَ فيه شيءٌ ما أَمَرَ أحدٌ بمعروفٍ، ولا نهى عن مُنكرٍ»([5]).

قال الإمامُ مالكٌ مُعلقًا على قولِ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ: «ومَن هذا الذي ليس فيه شيءٌ» ([6]).

وَقَالَ الْحَسَنُ لِمُطِّرِفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: عِظْ أَصْحَابَكَ، فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَقُولَ مَا لَا أَفْعَلُ، قَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ! وَأَيُّنَا يَفْعَلُ مَا يَقُولُ! وَيَوَدُّ الشَّيْطَانُ أَنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِهَذَا، فَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ مُنْكَرٍ ([7]).

وقد يُشكِل على خاطِرِك قولُ الله -سبحانه وتعالى-: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]، فيتركُ التوجيهَ والنصيحةَ بسبب هذه الآية، وهذا تصورٌ خاطئٌ لمعنى الآيةِ، فالمسلمُ بين واجبين: تركُ المنهيِّ، أو فِعلُ الواجبِ، والثاني أمرُ الناسِ بالبِرِّ، ونهيُهُم عن الشَّرِّ، فتركُ أحدِ الواجبين ليس مُسَوِّغًا لتَرْك الآخَر، والذمُّ الواردُ في النصوصِ إنما هو لِتَرْكِ المعروفِ، لا للأمرِ بالمعروفِ.

قال القُرْطُبِيُّ -رحمه الله-: «اعْلَمْ -وَفَّقَكَ اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّ التَّوْبِيخَ فِي الْآيَةِ بِسَبَبِ تَرْكِ فِعْلِ الْبِرِّ، لَا بِسَبَبِ الْأَمْرِ بِالْبِرِّ»([8]).

بَاركَ اللهُ لي ولَكُم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سمِعْتُم، وأَستغفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولَكُم ولِسائر المسلمين مِن كُلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاسْتغفِرُوه وتُوبوا إليْهِ؛ إنَّه هو الغفور الرَّحيمُ.


الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكر له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهَدُ ألا إله إلا اللهُ؛ تعظيمًا لشانِه، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه الدَّاعي إلى جنَّته ورِضوانِه، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه، أَمَّا بعْدُ:

إِخْوَتي فِي اللهِ، لِنَمْلِك الشجاعةَ التي تُخَوِّلُنا لِنَقْدِ أنفُسِنا وتَصَرُّفَاتِنا فإذا مَلَكْنا هذه القُوَّةَ، فإنه باستطاعتِنا أن نُزاوِلَ هذا الأصلَ، وهو النصيحةُ والتوجيهُ، ولو كان في شيءٍ قد نَقَعُ فيه.

معاشِرَ المصَلِّينَ: إن مَن يقومُ بالتوجيهِ مع وُقوعِه بالخطأ، وفي قَلبِه قناعةٌ بخطئه، واعترافٌ بِذَنْبِه، وهو مُبغِضٌ لحالِه، ويَتَمَنَّى زَوالَ هذا الذنْبِ عنه، إنَّ هذا مقامُه أَعْلَى وأَكْبَرُ ممن يحاولُ تبريرَ الخطأ لنفسه، أو الوقيعةَ ممن ينهى عن هذا الخطأ، أو الوقوفَ أمامَ مَن يحاولُ إصلاحَ هذا الخطأ.

فإنَّ مَن كان هذا حالُه -أعني المعترفَ المقَصِّرَ الراجِيَ زوالَ هذا العيبِ، وهو يسألُ اللهَ أن يغفرَ له- حَرِيٌّ بأن يُوَفَّقَ ويُهدَى إلى الخير.

بل قال ابنُ تَيْمِيَّةَ -رحمه الله- كلاما عظيما أنقله بنصه: «وَأَمَّا الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ عَلَى وَجْهِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ مِنْ غَيْرِ إقْلَاعٍ عَنْهُ، فَهَذَا فِي نَفْسِ الِاسْتِغْفَارِ المجَرَّدِ الَّذِي لَا تَوْبَةَ مَعَهُ وَهُوَ كَاَلَّذِي يَسْأَلُ اللَّهَ -تعالى- أَنْ يَغْفِرَ لَهُ الذَّنْبَ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ، وَهَذَا يَأْسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَا يُقْطَعُ بِالمغْفِرَةِ لَهُ، فَإِنَّهُ دَاعٍ دَعْوَةً مُجَرَّدَةً... فَمِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ قَدْ تَحْصُلُ مَعَهُ المغْفِرَةُ وَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ صَرْفُ شَرٍّ آخَرَ أَوْ حُصُولُ خَيْرٍ آخَرَ فَهُوَ نَافِعٌ كَمَا يَنْفَعُ كُلُّ دُعَاءٍ»([9]). فالمعترفُ بالذنبِ لا يُمنَعُ أن يكونَ مُوجِّهًا ناصحًا.

وكَمْ كانت النصيحةُ سببًا لتَرْكِ المحرماتِ، ومُعينًا قويًّا لفعلِ الواجباتِ، ولهذا قال شُعيبٌ عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88].



([1]) أخرجه البخاري (2/94، رقم 1290).
([2]) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/224).
([3]) رسائل ابن حزم (1/413).
([4]) شرح النووي على مسلم (2/24).
([5]) موطأ مالك (1/262).
([6]) المصدر السابق.
([7]) تفسير القرطبي (1/367).
([8]) تفسير القرطبي (1/366).
([9]) مجموع الفتاوى (10/320).

المشاهدات 631 | التعليقات 0