الخصائص العشر لليلة القدر
ماجد بن سليمان الرسي
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله)، فاتقوا الله تعالى واحذروه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أن الله فضل بعض الأزمنة على بعض، حكمة منه سبحانه وتعالى، فَـفَـضَّل عشر ذي الحجة على أيام السنة، وفَـضَّل يوم عرفة منها على سائر أيام العام، وفَـضَّل رمضان على سائر الشهور، وفَـضَّل ليلة القدر منه على سائر ليالي رمضان، وليلة القدر لها خصائص عشرة:
· الأولى: أنها ليلة اختصها الله لبدء تنزيل القرآن، قال تعالى (إنا أنزلناه في ليلة القدر)، ففي هذه الليلة نزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل مفرقا على النبي صلى الله عليه وسلم بحسب الأحداث.
· وليلة القدر سميت بذلك لِعِظم قَدرها، كما يقال (فلان عظيم القدر) فتكون إضافة الليلة إليه من باب إضافة الشيء إلى صفته.
· وقيل إنها سميت بذلك لأنه يُقَـــدَّر فيها ما يكون في تلك السنة، أي التقدير السنوي، أو الحولي، لقوله تعالى (فيها يفرق كل أمر حكيم). قال ابن القيم: (وهذا هو الصحيح)[1].[2]
فيُقدَّر في هذه الليلة ما يكون في السنة إلى مثلها في السنة المقبلة، بمعنى أن الله يُظهر للملائكة ما سيكون فيها، ويأمرهم بفعل ما هو من وظائفهم، بالتفصيل والإيضاح لجميع ما يقع في تلك السنة إلى ليلة القدر من السنة الجديدة، فتبين لهم في ذلك الآجال والأرزاق، والفقر والغنى، والخصب والجدب، والصحة والمرض، والحروب والزلازل، وجميع ما يقع في تلك السنة.[3]
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يُكتب من أم الكتاب[4] في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر، حتى الـحُجَّاج يقال: يَـحُج فلان ويَـحُج فلان.[5]
· الخصيصة الثانية لليلة القدر أن الملائكة تتنزل فيها إلى الأرض، قال تعالى (تنزل الملائكة والروح فيها)، والروح هو جبريل، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحلق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدقٍ تعظيماً له. انتهى.
· الخصيصة الثالثة لليلة القدر أن الله وصفها بأنها مباركة، قال تعالى في نزول القرآن (إنا أنزلناه في ليلة مباركة).
· الخصيصة الرابعة لليلة القدر أن الله وصفها بأنها سلام حتى مطلع الفجر، أي سالمة من كل آفة وشر، وذلك لكثرة خيرها، حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر.
· الخصيصة الخامسة لليلة القدر أن من قامها، أي أحياها بالصلاة، إيمانا بما أعد الله تعالى من الثواب للقائمين في هذه الليلة العظيمة، واحتساباً للأجر وطلب الثواب؛ غُفِر له ما تقدم من ذنبه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه.[6]
· الخصيصة السادسة لليلة القدر أن إحياءها بالصلاة خير من قيام ألف شهر، أي ما يزيد على ثلاث وثمانين سنة، قال تعالى (ليلة القدر خير من ألف شهر).
وقال (صلى الله عليه وسلم): أتاكُم رَمضان، شَهرٌ مبارَك، فرَضَ اللَّهُ عزَّ وجَلَّ عليكُم صيامَه، تُفَتَّحُ فيهِ أبوابُ السَّماءِ، وتُــــغَلَّقُ فيهِ أبوابُ الجحيمِ، وتُغَلُّ فيهِ مَرَدَةُ الشَّياطينِ، للَّهِ فيهِ ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شَهرٍ، مَن حُرِمَ خيرَها فقد حُرِم.[7]
قال ابن سعدي رحمه الله: وهذا مما تتحير فيه الألباب، وتندهش له العقول، حيث مَنَّ تبارك وتعالى على هذه الأمة بِـــلَــــيلَــةٍ يكون العمل فيها يقابِــل ويزيد على ألف شهر، عُمرُ رجل مُــــعَـــمَّــرٌ عمرًا طويلًا، نَـــيِّــــفًا[8] وثمانين سنة. انتهى باختصار يسير.
· الخصيصة السابعة لليلة القدر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها تحريا لها، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره.[9]
وعنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجَـدَّ وشد مِئزره.[10]
وقولها "وشد مئزره" كناية عن الاستعداد للعبادة والاجتهاد فيها زيادة على المعتاد، وقيل هو كناية عن اعتزال النساء وترك الجماع.
· الخصيصة الثامنة لليلة القدر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان في المسجد تحريا لها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده.[11]
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني اعتكفت العشر الأُوَل التمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أُتيت فقيل لي إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف[12].
· عباد الله، وهذا الاجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم يدل على خصوص اهتمامه بطاعة ربه في الأزمنة الفاضلة، فينبغي على المسلم الاقتداء به، فهو الأسوة والقدوة، وعليه بالجِدّ والاجتهاد في عبادة الله، وألا يضيّع ساعات هذه الأيام والليالي، فإن المرء لا يدري لعله لا يدركها مرة أخرى باختطاف هادم اللذات ومفرق الجماعات، فحينئذ يندم حيث لا ينفع الندم.[13]
· الخصيصة التاسعة لليلة القدر تخصيصها بطلب العفو والمغفرة من الله، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: يا نبي الله، أرأيت إن وافقت ليلةَ القدر، ما أقول؟ قال: تقولين: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني.[14]
· الخصيصة العاشرة من وجوه تعظيم ليلة القدر أن الله تعالى أنزل في شأنها سورة تتلى إلى يوم القيامة، فعظَّم من شأنها، وبيَّـــن سبب تعظيمها وهو إنزال القرآن فيها، وذَكر نزول الملائكة فيها إلى الأرض، وذَكر ثواب من أحياها بالصلاة والعبادة، وذَكر مبتداها ومنتهاها، فالحمد لله على تلطفه لعباده بمواسم الخيرات.
· نسأل الله تعالى أن يوفقنا لصوم رمضان على الوجه الذي يرضيه، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
· بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه كان للتوابين غفورا.
الخطبة الثانية
· الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد، فاعلموا رحمكم الله أن الله أخفى ليلة القدر لحكمة منه جل وعلا، وهي أن ينشط المؤمن في تحريها كل العشر، فيعظُم أجره، بخلاف ما لو كانت معلومة، لعمِل لتلك الليلة فقط.
· ثم إن ليلة القدر لو كانت معلومة لما اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم العشر كلها يتحراها، وأرشد أمته إلى تحريها، بل لاعتكف ليلة القدر بعينها.
· عباد الله، وليلة القدر حرية أن تقع فيها أكثر من ليالي الأشفاع، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَان.[15]
· عباد الله، والقول الذي تدل عليه النصوص أن ليلة القدر تتنقل وتختلف من سنة إلى أخرى، ولكنها لا تتجاوز العشر الأخيرة.
· فعلى المؤمن أن يشغل نفسه بالعبادة في العشر كلها، ويدع ما يتناقله الناس في وسائل التواصل وغيرها من الكلام في تحديد ليلة القدر، الأمر الذي يؤدي إلى إضاعة الوقت، والتثبيط وترك العمل.
· عباد الله، ينبغي للمؤمن أن يجتهد في العمل في أواخر الشهر أكثر من أوله لسببين: أحدهما: لتحري ليلة القدر، والثاني: لوداع شهر لا يَدري هل يعود عليه من قابل أم لا.[16]
· ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، الأئمة الحنفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
· اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين.
· اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلهم هداة مهتدين.
· اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم كتابك، وإعزاز دينك، واجعلهم رحمة على رعاياهم.
· اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
· اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
· اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، وعاف مبتلانا.
· اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
· ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
· عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان إيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولَذِكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
أعد الخطبة: ماجد بن سليمان الرسي، في الخامس والعشرين من شهر رمضان لعام 1442، في مدينة الجبيل، في المملكة العربية السعودية، واتس: 00966505906761
[1] «شفاء العليل»، (1/110)، ط مكتبة العبيكان – الرياض.
[2] انظر القولين في «أحاديث الصيام»، ص 140 ، للشيخ عبد الله الفوزان، وهما قولان مشهوران عند المفسرين.
[3] انظر تفسير قوله تعالى (فيها يُفرق كل أمر حكيم) من سورة الدخان من «أضواء البيان» للشنقيطي رحمه الله.
[4] أي اللوح المحفوظ.
[5] رواه ابن جرير الطبري وغيره عنه في تفسير الآية الكريمة ، واللفظ لابن جرير.
[6] رواه البخاري (1901)، ومسلم (759).
[7] رواه النسائي (2106( عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني رحمه الله.
[8] نَـــيِّــــفًا أي زائدا بواحد إلى ثلاثة، وأما ما زاد من الأربعة إلى التسعة فيقال فيه (بِضع)، كقول: بِضع وثلاثين.
[9] رواه مسلم (1175).
[10] رواه البخاري (2024) ومسلم (1174)، واللفظ لمسلم.
[11] رواه البخاري (2026) ومسلم (1172).
[12] رواه مسلم (1167).
[13] بتصرف يسير من كلام للشيخ محمد صالح المنجد، حفظه الله، نقلته من موقعه.
[14] رواه أحمد (6/171) وغيره، وصححه محققو «المسند» (42/236).
[15] رواه البخاري (2017).
[16] قاله ابن الجوزي رحمه الله في كتابه «التبصرة»، بتصرف.
المرفقات
1711593277_خطبة مختصرة عن الخصائص العشر لليلة القدر.docx
1711593277_خطبة مختصرة عن الخصائص العشر لليلة القدر.pdf