الخشوع ... لُبٌ الصلاة وجوهرها

مريزيق بن فليح السواط
1433/04/08 - 2012/03/01 20:04PM
إن الحمد لله ....

للصلاة في الإسلام منزلة رفيعة، ومكانة عالية، فهي الصلة بين العبد وربه، وهي أول ما يحاسب عنه إذا وقف بين يديه، أمر الله بإقامتها، وجعل لها مظهرا ومخبرا، فمظهرها أدئها كاملة بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها، ومخبرها الخشوع: وهو سكون القلب وحضوره، ومايترتب عليه من سكون الجوارح وطمئنانها. فالخشوع روح الصلاة وجوهرها، وأساسها ولُبُها امتدح الله عباده به، وجعله أول صفة لهم، وحكم لأهله بالفلاح قال تعالى: "قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون" أي خائفون ساكنون، قال علي رضي الله عنه: الخشوع في القلب، وأن تُلين للمرء المسلم كنفك، ولا تلتفت، وعن الحسن البصري رحمه الله قال: كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك البصر، وخفضوا الجناح، فهم في صلاتهم متذللون لله، خاضعون له، منكسرة قلوبهم بين يديه، وإذا خشع القلب، خشع السمع والبصر والرأس وسائر الاعضاء، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه في الصلاة: "خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي" ولما رأى حذيفة رضي الله عنه رجلا يعبث بيده في الصلاة قال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.

عباد الله :
غياب الخشوع في الصلاة ظاهرة خطيرة، وداء يستحق الوقوف عنده، ويستوجب العلاج، ذلك أن الصلاة ميزان لقبول الاعمال وردها، وهي أول مايحاسب عليه العبد يوم القيامة، فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله، والمرأ ليس له من صلاته إلا ماعَقَل منها قال ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له إلا نصفها أو ثلثها أو ربعها حتى بلغ عشرها" . فهل يرضى عاقل أن يرد عمله، بسبب عدم إصلاح صلاته، وهل يكفيه أن يُكتب لك من صلاته ربعها أو ثمنها أو عشرها.

أيها المصلون:
إذا علم وجوب الخشوع في الصلاة أدركنا مدى تفريطنا وتهاوننا في أداء هذه الفريضة الواجبة، وقلة خشوعنا فيها، ومن ذلك كثرة الحركة في الصلاة دونما فائدة كتحريك الأرجل والأيدي، وتسوية الملابس، وتسريح الشعر، والنظر في الساعة أو الجوال، وفرقعة الأصابع، ونحو ذلك من مظاهر الإخلال بالخشوع، والإنشغال عن لُب الصلاة، وكذلك الإلتفات في الصلاة، وتقليب البصر يمينا وشمالا، وهو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

عباد الله:
الصلاة صلة بين العبد وربه، ينقطع فيها الانسان عن شواغل الحياة، ويتجه بكيانه كله الى الله، فيستمد منه الهداية والعون والتوفيق، فليست الصلاه التي يريدها الإسلام مجرد أقوال يلوكها اللسان، وحركات تؤديها الجوارح، بلا تدبر من عقل، ولا خشوع من قلب، فالصلاة في الإسلام واحة روحية، يفئ إليها المسلم، فيجد فيها علاجا لمشكلاته النفسية، ويتخلى بها عن هموم الحياة اليومية، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتبرها راحة النفس وقرة العين "حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة" وكان إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة وقال: "أرحنا بها يا بلال" ذلك أن الصلاة مناجاة بين العبد وربه جل وعلا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه فلينظر بما يناجيه" وهذا هو السبب العظيم الجالب للخشوع، وحضور القلب: استحضار عظمة الله، منذ الدخول في الصلاة حتى الفراغ منها، وإجلال الله حال الوقوف بين يديه، وتدبر معاني الايات والاذكار الواردة في الصلاة، وتحريك الشفتين بالتلاوة والذكر، وأداء الصلاة مع جماعة المسلمين، فهي أسباب جالبة للخشوع، على المصلي استحضارها، لينتفع بصلاته، "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" ويسهل عليه أدائها "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة ألا على الخاشعين". ويفوز بجنات النعيم "والذين هم على صلاتهم يُحافظون. أولئك في جنات مكرمون". ويسلم من ردها، وعدم قبولها قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن صلى الصلاة لغير وقتها فلم يسبغ وضوءها ولم يتم لها خشوعها ولا ركوعها ولا سجودها خرجت وهي سوداء مظلمة تقول ضيعك الله كما ضيعتني حتى إذا كانت حيث شاء الله لفت كما يلف الثوب الخلق ثم ضرب بها وجهه"، قال أبو هريرة رضي الله عنه: أن الرجل ليصلي ستين سنة ولا يتقبل منه صلاة، فقيل له كيف ذلك؟؟ فقال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا قيامها ولا خشوعها، وقال الإمام أحمد: يأتي على الناس زمان يصلون وهم لا يصلون!! فكيف لو نظر الإمام أحمد إلى صلاتنا، وتفريطنا بها، وعدم خشوعنا فيها "ألم يأن للذين أمنوا أن تخشع قلوبُهُم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتابَ من قبلُ فطالَ عليهمُ الأمدُ فقستْ قلوبُهُم وكثيرٌ منهم فاسقون".

الحمدالله على أحسانه ..
عباد الله:
مما يدعو للخشوع في الصلاة التأمل في حال السلف الصالح، واهتمامهم بالخشوع وحضور القلب، وعدم إشتغال الفكر يغير الصلاة مهما كان ثمنه، بل محاسبة أنفسهم عند شعورهم بالتفريط فيها، والتصدق بأموالهم، التي فتنوا بها عن أعظم قربة لربهم، فهذا أبو طلحة الانصاري رضي الله عنه كان يصلي في بستان له، فطارد دِبْسيّ -طائر حسن اللون- فطفق يتردد يلتمس مخرجا بين أغصان الأشجار الكثيفة، فأَعجب أبو طلحة ذلك، فجعل يُتبعُه بصره ساعة، ثم رجع إلى صلاته فإذا هو لايدري كم صلى!! فقال رضي الله عنه: لقد أصابني في مالي هذا فتنة، فجاء الى الرسول صلى الله عليه وسلم فذكر له الذي أصابه في بستانه من الفتنة، والتي أشغلته عن صلاته، وقال يارسول الله: "هو صدقة الله فضْعُه حيث شئت". تصدق بكل بستانه، وخرج من كل ماله، مقابل ساعة أنشغل فيها عن صلاته، وهذا رجل من الأنصار كان يصلي في بستانه في زمن الثمر والنخل قد ذُلٍلت - أي نضج ثمرها، ومالت عراجينها من الثقل - فأَعجبه مارأى من ثمرها، ثم رجع إلى الصلاة فإذا هو لايدري كم صلى!!! فقال: "قد أصابني في مالي هذا فتنة" فجاء الى عثمان وهو يومئذ الخليفة فذكر له ذلك وقال: هو صدقة لله، فاجعله في سبيل الخير، فباعه عثمان رضي الله عنه بخمسين ألف درهم. فانظروا إلى تضحية الصحابة بأموالهم في سبيل المحافظة على دينهم، فليس من اليسير على الانسان أن يتصدق ببستان كامل دفعة واحدة، مقابل انشغاله به عن صلاة واحدة، فما أعظم قدرالصلاة في نفوسهم، وما أعمق نظرتهم الى الحياة الاخرة، وما أهون الدنيا في قلوبهم .

أيها المصلون:
جماع الخير في المحافظة على الصلاة، وإقامتها كما أراد الله، والخشوع فيها، واستحضار القلب حال أدائها، ولن يتم هذا ألا حين يخلعُ المصلي الدنيا من نفسه مع خلع حذائه عند باب المسجد، ذكر ابن الجوزي رحمه الله: أن فأرة رأت جملا فأعجبها، فجرت خطامه فتبعها، فلما وصلت إلى باب بيتها، وجرت الجمل بخطامها ليدخل معها، نادها بلسان حاله فقال لها: إما أن تتخذي دارا تليق بمحبوبك، أو تتخذي محبوبا يليق بدارك!!! خذ من هذا إشاره إما أن تصلي صلاة تليق بمعبودك أو تتخذ معبودا يليق بصلاتك.
فهم عامر بن عبد قيس ما داربين الفأرة والجمل فكان يقول: والله لئن تختلف الأسنة -الرماح- في جوفي أحب إلي ان أذكر الدنيا في صلاتي. وسئل عبيد الحمصي عن سبب عدم سهوه في الصلاة؟؟ وقد أمَّ أهل حمص ستين سنة فقال: ما دخلت من باب المسجد قط وفي نفسي غير الله. هذا والله واقع من عرف الله حق معرفته، وأدى الصلاة كما يجب عليه، ولهذا قال حماد بن سلمة رحمه الله: ما قمت إلى صلاه ألا مُثّلت لي جهنم،

يا من له تعنو الوجوه وتخشع
ولأمره كل الخلائق تخضعْ
أعنو إليك بجبهة لم أُحنها
إلا لوجهك ساجدا أتضرعْ

قال بكر المزني: إذا أردت أن تنفعُك صلاتُك فقل: لعلي لا أصلي غيرها، وقال منصوربن المعتمر: لو رأيت سفيان وهو يصلي لقلت يموت الساعة، وقال ابن وهب: رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب صلى ثم سجد سجده فلم يرفع رأسه حتى نودي للعشاء، وكان ابراهيم التميمي إذا سجد كأنه جِذمُ حائط تنزل على ظهره العصافير، وقال عبيد الله بن سليمان عن جده عبيد الله بن الوزير قال:أبلى جدي سجادتين، وشرع في الثالثة، وأُبليى موضع ركبتيه ووجهه ويديه من كثرت الصلاة، وكان له كل يوم كَرُّ دقيق يتصدق به، فلما وقع الغلأ تصدق بكرين، فلم يكن يشغلهم عن الصلاة شاغل، ولم يكن يحول بينهم وبين الله حائل، انظروا إلى حالنا اليوم بما تحدتنا أنفسنا في الصلاة، الخواطر والهواجس تتدافع بكثرة في صلاتنا، هذا يبيع ويشتري، والآخر يسافر إلى أقصا الدنيا ويعود، وهو واقف بين يدي الله. ولو كان واقفا بين يدي أمير أو وزير!! لوجدت قوة التركيز، وشدة الإنصات، وسكون النفس، فلا تفوته كلمة، ولا تغيب عنه شاردة ولا واردة، والأدهى من ذلك أن البعض ترد عليه الأفكار الشيطانية في صلاته، فيعصي ربه وهو ساجد بين يديه، قال الغزالي رحمه الله: أن الرجل ليسجد السجدة يظن أنه يتقرب بها إلى الله سبحانه، ووالله لو وزع ذنب هذه السجدة على أهل بلدة لهلكوا !!! فقيل له كيف ذلك؟؟ فقال: يسجد بين يدي مولاه وهو منشغل باللهو والشهوات وحب الدنيا.
ثم صلوا وسلموا رحمكم الله على نبي الرحمة والهدى....
المشاهدات 3617 | التعليقات 3

ولأمره كل الخلائق تخضعْ

القافية مضمومة ياشيخ .. أي تخضعُ ، أتضرعُ .. وهكذا

نفع الله بك خطبة طيبة ، وموضوع مهم .


بارك الله فيك


الأحية الكرام : أحمد السويلم و أبو مها
بارك الله فيكم، وتقبل منا ومنكم