الخشوع في الصلاة بتاريخ  2-4-1441هـ

أ.د عبدالله الطيار
1441/04/07 - 2019/12/04 09:58AM

الخطبة الأولى:

إنّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ، ونعوذ باللهِ منْ شرورِ أنفسنَا ومنْ سيئاتِ أعمالنا منْ يهدهِ اللهُ فلَا مُضلّ لهُ ومنْ يُضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ بعثهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقوا اللهَ أيها المؤمنونَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} [آل عمران:102].

عبادَ اللهِ: الصلاةُ أعظمُ عبادةٍ، وأجلُّ طاعةٍ، يكسوها الجلالُ والجمالُ، ويحيطُ بها الضياءُ والبهاءُ، وحلاوةُ المنظرِ وحسنُ الأداءِ، فيها الانكسارُ والذلُّ والمناجاةُ، والدعاءُ، والذكرُ، والرجاءُ. هي علاقةُ العبدِ الفقيرِ بالملكِ جلَّ جلالُه، والتي يشعرُ فيها العبدُ بحلاوةٍ لا تُضَاهيهَا حلاوةٌ، فهي قرةُ عينهِ، وسعادةُ قلبهِ، وراحةُ نفسهِ، وانشراحُ صدرِهِ. يتقلبُ فيها بين التعظيمِ والإجلالِ، والحبِّ والجمالِ. ولو خُيَّر بينَ أن يعطَى الدنيا بما فيها، أو أن يسجدَ لمولاهُ سجدةً لاختارَ السجدةَ لما يجدُ فيهَا من نعيمٍ ولذةٍ، وفرحٍ وسرورٍ، وعزٍّ وشرفٍ وسؤددٍ.

يقولُ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ: فَالصَّلَاة قُرَّة عُيُون المحبين فِي هَذِه الدُّنْيَا لما فِيهَا من مُنَاجَاة من لَا تقر الْعُيُون وَلَا تطمئِن الْقُلُوب وَلَا تسكن النُّفُوس إِلَّا إِلَيْهِ والتنعم بِذكرِهِ والتذلل والخضوع لَهُ والقرب مِنْهُ وَلَا سِيمَا فِي حَال السُّجُود وَتلك الْحَال أقرب مَا يكون العَبْد من ربه فِيهَا.

عبادَ اللهِ: وهذهِ العبادةُ العظيمةُ كانَ رسولُنَا صلى الله عليه وسلم يُحبُّها حبًّا عظيمًا، ويحرصُ عليهَا أشدَّ الحرصِ في حضرِهِ وسفرِهِ، وفي قعودِهِ وجهادِهِ، وصحتِهِ وسقمِهِ، وكان يقولُ عنهَا: تشريفًا لهَا وتعظيمًا:(وجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ)(رواه النسائي) وكان يقول (أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ)(رواه أبو داود)، وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبهُ أمرٌ بادرَ إلى الصلاةِ، كمَا فعلَ ذلكَ يومَ بدرٍ، لمّا قامَ بين يدَيْ ربِّهِ يناجيهِ ويناديهِ ويستغيثُ بهِ لينصرَهُ على المشركينَ، فكانَ يومئذٍ النَّصْرُ والتَّأْييدُ.

وكانتْ وصيَّتُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في آخرِ حياتِهِ:(الصَّلَاةُ، الصَّلَاةُ، ومَا ملكتْ أيمانُكُم) (رواه أبو داود وصححه الألباني).

أيها الراكعونَ السّاجدونَ: كان صحابةُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّم أشدَّ الناسِ حبًّا وتعظيمًا لصلاتِهِمْ، وأَحْرَصَ على الخشوعِ فيهَا، فكانوا إذا قاموا في الصلاةِ أقبَلُوا عليهَا بقلوبِهِمْ وجوارحِهِم، وخفضُوا فيها أبصارَهُم، وعلِمُوا بمقامِهِمْ بينَ يديْ ربِّّهِمْ جلَّ وعلا، وأنَّهُ تعالى مُقبلٌ عليهِمْ، وقريبٌ منهمْ، ويعلمُ ما تُكِنُّ صُدُروُهُم.

فهذا أبو بكرٍ الصديق رضيَ اللهُ عنهُ كانَ إذَا دخلَ في صلاتِهِ بَكَى حتَّى لا يكاد يسمعُ الناسُ قراءتَهُ.

وهذا عمرُ رضيَ اللهُ عنهُ من شدَّةِ خشوعِهِ في صلاتِهِ، وكثرةِ قيامِهِ بالليلِ لمناجاةِ ربِّهِ جلَّ وعَلَا أصبحَ في وجهِهِ خطَّانِ أسودانِ مِنْ كَثْرَةِ الْبُكَاءِ.

وعن القاسمِ بنِ محمدٍ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: غَدَوْتُ يومًا وكنتُ بدأتُ بعائشةَ رضيَ اللهُ عنهَا أُسَلِّمُ عليهَا فإذَا هيَ تُصَلِّي الضُّحَى وتَقْرَأُ {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]، وتبكي وتدعو وتردّدُ الآيةَ، فقمتُ حتى مللتُ وهي كما هي، فلما رأيتُ ذلك ذهبتُ إلى السوقِ فقلتُ أفرغُ من حاجتي ثمَّ أرجعُ ففرغتُ من حاجتِي ثم رجعتُ وهي كما هي تردّدُ وتبكي وتدعو.

وقد سارَ التابعونَ على طريقهِمْ فكانَ ابنُ الزُّبيرِ رضي الله عنهُ إذا قامَ في الصلاةِ فكأنَّهُ عودٌ من الخشوعِ، وكانَ يسجُدُ فتنزِلُ العصافيرُ على ظهرِهِ لا تَحُسَبُهُ إلَّا جِذْعًا أوْ حائطًا أو خشبةً منصوبةً لا تتحرَّكُ.

وكانَ مسلمُ بن يسارٍ رحمهُ اللهُ لا يلتفتُ في صلاتِهِ، ولقدْ انهدمتْ ناحيةٌ من المسجدِ ففزِعَ لهَا أهلُ السوقِ فمَا التفتْ.

وكانَ عليُّ بنُ الحسينِ إذا فرغَ من وضوئِهِ للصلاةِ، أخذتْهُ رعدةٌ ونفضةٌ، فقيلَ لهُ في ذلكَ، فقالَ: وَيْحَكُمْ أتدرونَ إلى منْ أقومُ ومنْ أريدُ أنْ أُنَاجِي؟  وهذا أبو بكر بن عياشٍ رحمهُ اللهُ يقولُ عن حبيبِ بنِ أبي ثابتٍ رحمهُ اللهُ: فلو رأيتَهُ قلتَ ميتٌ، -يعني من طولِ السُّجُودِ-.

وكانَ الإمامُ البخاريُّ رحمهُ اللهُ يصلّي ذاتَ ليلةٍ، فلسعهُ الزنبورُ سبعَ عشرةَ مرةً، فلما قضى الصلاةَ قالَ: انظروا كَمْ آذانِي.

أرأيتمْ أيُّهَا المؤمنونَ حالَهُم، فمَا هيَ حالُنَا؟

إنّ بينَ صلاتِنَا وصلاتِهِمْ كمَا بينَ أوقاتِنَا وأوقاتِهِم. عرفوا طريقَ النجاةِ، فَوَقَعوا على قدمِ الأدبِ في المناجاةِ، فنالَ كلٌّ منهم مَا رجاهُ، فلهم عندَ ربِّهم أعظمُ قدرٍ وجاهٍ.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قال جلَّ وعَلَا: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ • الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (المؤمنون: 1-2).

بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ على إحسانِهِ، والشكرُ لهُ على توفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ أن لَا إِلَهَ إلّا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ تعظيمًا لشأنِهِ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ، صلّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابهِ وإخوانِهِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا، أمَّا بعدُ:

فاتَّقُوا اللهَ عبادَ اللهِ واعلموا أنَّ حُسنَ الأدبِ والخشوع في الصلاةِ دليلٌ على تعظيمِ اللهِ جلَّ وعلَا، وعكسُ ذلك دليلٌ على إعراضِ القلبِ وانصرافِهِ عن ربِّهِ ومولاهُ.

أيُّهَا المؤمنونَ: ومن أسبابِ الخشوع ِفي الصلاةِ:

1- سماعُ الأذانِ وترديدهِ، والدعاءُ بعدهُ، وإحسانُ الوضوءِ، واستعمالُ السِّوَاكِ، ولبسُ أحسنِ اللباسِ وأنظفِه، والتبكيرُ لهَا، والمشيُ إلى المسجدِ بسكينةٍ، وأداءُ سنَّةِ تحيةِ المسجدِ والراتبةِ، والدعاءُ بين الأذانِ والإقامةِ.

2- عِلْمُ العبدِ بقدرِ الصَّلاةِ وأهميتِهَا، وعظمِ شأنِهَا، وأنَّهَا أحبُّ عبادةٍ إلى اللهِ، وأنَّهَا أولُ مَا يُسألُ عنهُ يومَ القيامةِ، وأنَّهَا إذَا قُبِلَتْ قُبِلَ سائرُ العملِ.

3- استحضارُ عظمةِ مَنْ يَقِفُ بينَ يديهِ، وعلمِهِ بقربِهِ منهُ، وأنَّهُ جلَّ وعلَا يراهُ ويسمعُ كلامَه ودعاءَه.

4- تدبّرُ كلامِ اللهِ تعالى الذي يقرأهُ فيها، وكذلكَ تدبّرُالأدعيةِ والأذكارِ الواردةِ.

5- أداؤُهَا كما كانَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يؤدِّيهَا، والطمأنينةُ عندَ أداءِ أركانِهَا وواجباتِهَا وسننِهَا.

6- تذكُّر الموتِ وأنَّهَا رُبَّما تكونُ آخرَ صلاةٍ في حياتِهِ.

7- دفعُ الموانعِ والشواغِلِ التي تصرفُ عن الخشوعِ وتكدِّرُ صفوَه مثلُ الصلاةِ أمامَ مَا يشغلُه من الصورِ والملهياتِ، أو الصلاةِ وهو حاقِنٌ أو حاقبٌ، أو يغلبُهُ النعاسُ، أو يصلي بحضرةِ طعامٍ، إلى غيرِ ذلكَ ممَّا يُذهِبُ الخشوعَ فيهَا، ويتأكَّدُ تركُ الالتفاتِ فيهَا، وعدمُ رفعِ البصرِ إلى السماءِ، وإغلاقُ أجهزةِ الجوالاتِ.

فحريٌ بمنْ دخلَ فِي صلاتِهِ، واتَّصَلَ باللهِ جلَّ وعَلَا أنْ يخرجَ منهَا بقلبٍ زادَ نورُهُ، وإيمانُهُ، وامتلأَ فرحًا، وسرورًا، وضياءً، وراحَةً، وأنسًا.

هَذا وصلُّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى والنبيّ المجتبى محمد بن عبد الله فقد أمركم الله بذلك فقال جلَّ من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:٥٦).    

الجمعة:   2-4-1441هـ

المشاهدات 862 | التعليقات 0