الخروج للنزهة البرية حِكَمٌ وأحكام
محمد بن عبدالله التميمي
الخروج للنزهة البرية حِكَمٌ وأحكام
الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء، وأنزل رحمته المطر فأحيا الأرض وسقى أنعاما وأناسِيّ، وجعل في ذلك معتبرا لمن كان له قلب حي، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولم يكن له من الذل وليّ، وأشهد ان محمدًا عبده ورسوله أفضل نبي، وأتقى وليّ، استسقى ربه فسُقِي، ونسب المطر لربه بفضله ورحمته وهو سبحانه الولي، صلى الله عليه وسلم عليه وعلى آله وصحبه وكل تابع مَيْتٍ وحي، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، بتحقيقِ توحيده، والتحقُّقِ بفعل أمره رجاءَ جميلِ وَعْدِه، واجتنابِ نهيه حذرَ أليمِ وعيده، فإنكم عن قريب ميتون، وبأعمالكم مَجْزِيُّون، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقَلَبٍ ينقلبون {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}.
عباد الله.. ما أسرع تَقَلُبَ قلوبِ البَشَر من الإبلاس إلى الاستبشار، والخروج إلى البَرِّ نظرا إلى أثر رحمة الله، والاعتبار بقدرته، فأنزل عزَّ وجل من السماء الماء، فاهتزت الأرض ورَبَت وأَنبتت، كذلك يُحيي الله الموتى بما يُنزل من المطر فيَنْبُتُ الناس ويُبعثون، والله على كل شيء قدير.
وإن الخروج للرحلات البرية لغرض النزهة مطلب تحتاجه النفس البشرية، فالنفس تحتاج إلى دفع الملل وعناء الالتزامات والرتابة المدنية، والأصل في ذلك الحل والإباحة إلا إذا اقترن بها فعل محظور أو ترك واجب أو تضييع حق، وقد أمر الله بالنظر إلى أماكن السيل والربيع؛ وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يذهب إلى التلاع، فعَنِ المِقْدامِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ أبِيهِ قالَ: سَألْتُ عائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ البَدْوِ قُلْتُ: وهَلْ كانَ النَّبِيُّ ﷺ يَبْدُو؟ فَقالَتْ: نَعَمْ، كانَ يَبْدُو إلى هَؤُلاءِ التِّلاعِ، وقال سلمة بن الأكوع رضي الله عنه إني سمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ابْدُوا يَا أَسْلَمُ، فَتَنَسَّمُوا الرِّيَاحَ، وَاسْكُنُوا الشِّعَابَ»، وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأمصار أن مُروا الناس في أيام الربيع بالخروج إلى الصحراء؛ لينظروا إلى النور إلى آثار رحمة الله، هذا وقد جاء عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وسلفنا الصالح الترغيبُ في الاستجمام؛ قال عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه: "أَجِمُّوا هَذِهِ الْقُلُوبَ، وَاطْلُبُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِ؛ فَإِنَّهَا تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ"، وقال التابعي الزُّهْري رحمه الله تعالى: "الْأُذُنُ مَجَّاجَةٌ وَالنَّفْسُ حَمْضَةٌ، فَأَفِيضُوا فِي بَعْضِ مَا يَخِفُّ عَلَيْنَا"، فطبيعة النزهة فيها ترويح وتخفيف، فلا يكون الواحد فيها مكلِّفًا نفسَه ومُثْقِلًا على رُفقته، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: "التَّصاوُن" وفي لفظ: "الوقار في النُزْهة سُخْفٌ".عباد الله.. وأَوْلَى النَّاسِ بذلك التَّنَزُّه: الوالدان، فإِنَّهُمَا بِذَلِك يَأْنَسَان، لِمَا يَجِدَان مِن قُرْبِ وَلدهما، مَع الفُرْجَةِ والبَهْجَة، وتَنَسُّمِ الهَوَاءِ وخِلْوِّ الجوِّ والصَّفَاء، فتِلْكَ صُحْبَةٌ لَهُمَا هُمَا بِهَا أَوْلَى، فَفِيْ الصَّحِيْحَين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ»، ثم المرءُ بحُسْنِ العِشْرَةِ لِأَهْلِهِ وَوَلَدِه مَأْمُور، فيُدخِلُ عليهمُ البِشْرَ والسُّرور، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي»، وفي ذلك توثيقٌ لِرَابِطَةِ الأُسْرَة، وبثِّ المحبةِ والأُلْفَة، وقُربِ الأبِ من أولاده مشاركةً لهم، وتَبَسُّطًا معهم، وتعليمًا لهم لِمَا يَقْتَضِيه التَّنَزُّهُ مِنْ اختيارٍ للمَكَانِ المناسبِ -خاصةً للعوائل-، واقتصادٍ في استعمالِ الماء، والتيممِ إذا كان حاجةٌ من شُحِّ الماءِ والضَّرَرِ بالظَّمَأِ أو لِشِدَّةِ البَرْدِ الذِي يُخْشَى معه الضرر، ومَمَّا يَقتضيه التَّنَزُّهُ: الخشونةُ للشَّبَابِ، والتَّعَرُّضُ للشمسِ ونحو ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذٍ رضي الله عنه: «إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ؛ فَإِنَّ عِبَادَ اللهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ»، وقال عمرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه: «إِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ وَزِيَّ الْعَجَمِ، وَعَلَيْكُمْ بِالشَّمْسِ فَإِنَّهَا حَمَّامُ الْعَرَبِ، وَاخْشَوْشِنُوا».
ومما يلزم في النزهة: حسنُ اختيار المكان؛ بأن يكون آمنا من الأخطار والأضرار كمجاري السيل، فذلك تعريضٌ بالنفس للهَلَكة، خاصة عند جريانها أن يُراد قطعها، وكذلك الطرق تُجتنب فذلك تَعرُّضٌ للأخطار، إنها حق المارّ، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ» متفق عليه، كما أن الطرق مأوى الهوام ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فَاجْتَنِبُوا الطَّرِيقَ، فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ، وَمَأْوَى الْهَوَامِّ بِاللَّيْل»، ومع تحري المكان المناسب اتقاءً للهوامّ، فإنه يُشرَع ذكر نزول المنزل أول وصوله، كما في صحيح مسلم من حديث خولة بنت حكيم رضي الله عنها أنها سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ»، ومن حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَدَغَتْ عَقْرَبٌ رَجُلًا، فَلَمْ يَنَمْ لَيْلَتَهُ، فَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ فُلَانًا لَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ، فَلَمْ يَنَمْ لَيْلَتَهُ، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّهُ لَوْ قَالَ حِينَ أَمْسَى: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، مَا ضَرَّهُ لَدْغُ عَقْرَبٍ حَتَّى يُصْبِحَ»، مع أهمية المحافظة على عموم الأذكار المشروعة تَقَرُّبًا لله مع تحصيل الحفظِ والحصنِ الحصين، كأذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم، وعند نزول المطر، وهبوب الرياح ونحو ذلك.
ومن المهمات في الرحلات: المحافظة على الصلوات، وذلك في أوقاتها، بعد تحقيق شروطها، من كمال الطهارة المائية إن كان ماءٌ موجودٌ ولا خوفَ من الهَلَكة بالوضوء به، أما إن كان خوف هلكة بألا يكون شيء للشُرب، أو كان بَردٌ شديد، ونحو ذلك فتيمم، وشرطُ الوقت بأن تُصلَّى كل صلاة في وقتها ولو في آخر الوقت، وإذا كان محل الرحلة يُعَدُّ سَفَرًا قد أبعد فيه الإنسان عن آخر عمران بلده 80 كيلو فيُشرع قصر الرباعية، أما الجمع فعند الحاجة، ثم شرط استقبال القبلة، فيجب الاجتهاد في تعيين جهة القبلة بالسؤال أو معرفة العلامات، أو باستصحاب الآلات الحديثة.
كما ينبغي المحافظةُ على رفع الأذان إظهارا للشعيرة وطلبا للأجر، ففي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ، جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ، إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ»، والمتقرر وجوبها للجماعة إذا كانوا بمكان لم يُرفَع فيه الأذان.
ويشرع الصلاةُ في النعال، فإنها من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وربما لا يتهيأ تطبيقها إلا في مثل تلك الرحلات.
هذا وينبغي عباد الله.. المحافظة على البيئة بعدم إفساد الأشجار والأعشاب ومراعاة الأنظمة المقررة في هذا الجانب والتي تحقق المصلحة العامة، كما يَحْسُنُ وَضع مكان مهيأ لجمع القمامة ثم التخلص منها آخر الرحلة، ولا تُترَك تفسد الأرض وتقتل البهائم إذا هي أكلت منها، وفي البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ» قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ»، وفي مسلم أيضا من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ».
الخطبة الثانية
الحمد لله ولي المؤمنين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وتفكروا حين تَنَزُّهِكم في عظيم خلق الله، تفكرا في آيات الله في السماء والأرض، مما لا يتيسر إدراكه كما يكون في الـمـُدُن، ففي البرية من المشاهد الكونية ما تتجلى فيه قدرةُ الله، وسعةُ علمه، وإحكامُ خَلْقِه، فيَشعر المؤمن بالرهبةِ والخشيةِ والخشوعِ والإجلالِ، لرب العزة والجلال، فلْيتأمل الذاهبُ إلى البر في ضياء الفجر، وما يعقبه من مشهد شروق الشمس، ثم أُفولها وغروبها شيئا فشيئا، وليقلب ناظريه فيما حوله من الجبال والرمال، والسهول والتلال، ومجامع المياه وزهور الرَّبيع ونبات الأرض، وإذا عسعس الليل وأقبل، فاعْلُ بنظرك إلى السماء وتأمل، زينةَ السماء بالمصابيح، والقمرَ نورا، وما أعظم وأحسن سكونَ الليلِ وهَدْأتِه {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
المرفقات
1671622319_الخروج للنزهة البرية حِكَمٌ وأحكام نسخة مصغَّرة.docx
1671622319_الخروج للنزهة البرية حِكَمٌ وأحكام نسخة مصغَّرة.pdf