الخبيئة الصالحة وحاجتنا إليها. 1440/10/18هـ

عبد الله بن علي الطريف
1440/10/18 - 2019/06/21 06:54AM
الخطبة الأولى: ـ

الحمد لله الذي جعل عبادة السر أحب العبادات إليه، ووفق من شاء من عباده إليها ليقربه إليه، واستبشر بهم وباها بهم ملائكته المقربون إليه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً أما بعد... أيها الإخوة: اتقوا اللهَ حقَ التقوى واستَمسِكُوا من الإسلامِ بالعروةِ الوثقى، وخذوا بتوجيه نبيكم تفلحوا؛ فَعَنْ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَبْءٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ» أخرجه الخطيب البغدادي في التاريخ، والضياء في الأحاديث المختارة، والشهاب في مسنده. وصححه الألباني. والخَبْءُ: أَيْ: شيءٌ مَخْبُوء، أي: مُدَّخَر، وكلٌ يستطيعُ ذلك فالموفقُ من ادخرَ له عملًا صالحاً لا يطلعُ عليه أحدٌ، حتى أقربَ الناسِ إليه، ويُسمى كذلك بالخبيئة الصالحة: وهي أن يجعل العبد بينه وبين الله تعالى طاعة أو عبادة من غير الفريضة، أو عملاً صالحاً لا يطلعُ عليه أحد حتى أهلَه إلى أن يلقى اللهَ تعالى.

الخبيئة الصالحة أيها الإخوة: هي زينةُ العبدِ في خلوتِه، وزادُه لآخرتِه.. بها تُفرَجُ الكُربات وتسمُو الدرجات وتُكفرُ السيئات.. دافعُها الإخلاص، ويزينُها الصدق، يلفُها الكتمان.. يفعلُها العبد بعيداً عن العيون والأنظار، في موقفٍ إيمانيٍ صافي لا يشوبه طلَبُ سمعةٍ ولا شهرةٍ، ولا تعلّقٍ بمدحٍ وثناء ولا دافعِ رياء.

وهي كنزٌ من كنوزِ الحسنات، يُوفِقُ اللهُ لها بعضَ عِبادِه الصالحين الذين أخلصتْ قلوبُهم للهِ تعالى، فلا يستطيعُها المنافقون ولا المراؤون.. رغَّبَ فيها الإسلام لتكون للمؤمنِ فرجاً عند الكُرباتِ، وطَوقاً للنجاةِ من النيران، وغَرساً طَيباً في فسيحِ الجنان.. حثَّ عليها سيدُ الأنامِ ورتبَ عليها عظيمَ الأجرِ والإكرام..

من ذلك حثه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صدقةِ السر وأنها تُطْفِئُ غضب الرب سبحانه وتعالى الذي تُسببُهُ السيئات، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ» رواه الطبراني في المعجم الكبير وحسنه الألباني. أي أنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تكون سبباً لذلك فينبغي لِمَنْ أَغضَبَ ربَهُ بمعصيةٍ أن يتداركَ ذلك بصدقَةٍ في السر..

أيها الإخوة: وجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدداً من أعمال السرِ سبباً في أن يظلَ اللهُ من عملها بظلِه يوم لا ظلَ إلا ظلُه فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ وَذَكَرَ مِنْهُم: رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» رواه البخاري ومسلم فالعفةُ عن دعوةٍ للزنا من ذات مقام رفيع وشكل بديع في الخفاء، وإخفاء الصدقة وذكرُ الله في الخفاء مع البكاءِ من خشيتهِ كلها أسباب من أسباب إظلال الله في ظله في يومٍ كان مقدارُه خمسين ألف سنة، عندما تدنو الشمسُ من الناسِ على قدر ميل ويعرق الناس عرقاً شديداً يلجم بعضهم إلجاماً.. هنا.. هنا يتميز الأخفياء في تعبدِهم فيظلهم الله في ظله الوارف بظله.. أما عموم الخلق فهم في ضح الشمس ولهيبها.. ولو تأملنا الأعمال المذكورة بالحديث لوجدنا أن الصفة الجامعة لها هي الخفاء، فاللهم اجعلنا من الأخفياء وارزقنا عبادة تكون سبباً في إظلالنا بظلك..

أيها الأحبة: وأخبرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله يحب من أخفى صدقته ومَنْ قامَ الليلَ بالخفاء.. وهو في قوم يصعب معهم الاختفاء، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللهُ وَذَكَرَ منهم: «رَجُلٌ أَتَى قَوْمًا فَسَأَلَهُمْ بِاللهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ بِقَرَابَةٍ بَيْنَهُمْ فَمَنَعُوهُ، فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ بِأَعْقَابِهِمْ فَأَعْطَاهُ سِرًّا لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلَّا اللهُ وَالَّذِي أَعْطَاهُ، وَقَوْمٌ سَارُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ، نَزَلُوا فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ فَقَامَ يَتَمَلَّقُنِي وَيَتْلُو آيَاتِي».أي قام يصلي ويتهجد.. رواه أحمد والحاكم وصححه الذهبي والأرنأوط عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ..

وأخبرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللهَ عَزَ وَجَلَّ يُحِبُّ ثَلَاثةٌ وَيَضْحَكُ إِلَيْهِمْ، وَيَسْتَبْشِرُ بِهِمْ، وَذَكَرَ منهم: «الَّذِي لَهُ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ، وَفِرَاشٌ لَيِّنٌ حَسَنٌ، فَيَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَذَرُ شَهْوَتَهُ، فَيَذْكُرُنِي وَيُنَاجِينِي [أي الله] وَلَوْ شَاءَ لَرَقَدَ».. رواه أحمد والبيهقي عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وحسنه الألباني.

ومما أخبرَ به النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رَبَّنَا «عَجِبَ مِنْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٍ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ مِنْ بَيْنَ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي، ثَارَ عَنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ مِنْ بَيْنَ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي..» رواه أبو داود وابن حبان عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وحسنه الألباني..

أيها الإخوة: هل فكرنا بخبيئةِ عملٍ صالح نتاجر بها مع الله.؟ هل تأملنا الأجورَ الكبيرة والربح والفلاح والرضوان.؟. إذاً: هيّا.. هيا إلى دوحات البر والخير، من صلاةٍ في دُجى الليلِ والأهلُ نيام.. أو لتلاوةِ كتاب الله بتأملٍ وخشوعٍ وخضوعٍ.. أو لمناجاة لله بالأسحار باستغفارٍ وتسبيحٍ.. ودعاءٍ بقلبٍ حاضرٍ مقبلٍ خاشعٍ.. تتسابق فيه دموعُ الخوف والرجاء.. أو لصيامٍ لا يعلمُه إلا الله.. أو لتفريجِ كربة لمكروب.. أو إغاثةِ ملهوفٍ مَكْلُومٍ.. أو لصدقةِ في السرِ تطفئُ غضبَ ربنا.. نعم بمثل ذلك تكون لنا خبيئة صالحة ندّخرها ليوم فقرنا وذُلّنا.. ليوم تشخصُ فيه الأبصار.. وتعرض على الخلق الجنة والنار.. وتُبْلى فيه السرائر.. وليس لنا قوة ولا ناصر.. يومٌ لا ينفعُ فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى اللهَ بقلبٍ سليم.. ولتكن تلك الخبيئة مغلّفة بالصدق، معطّرة بالإخلاص، محاطة بالكتمان، حتى لا تفقد أجرَها وثوابَها.

أيها الإخوة: هنيئاً للأخفياء محبة الله لهم فَعَنْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ» المراد بالغنى هنا غني النفس فهو الغني المحبوب.. باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآَنِ العَظِيْمِ ونَفَعَني وَإِيَاكُم بِمَا فِيهِ مِنْ الآَيَاتِ والذِكرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ قَولِي هَذَا وأَستَغفرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُم وَلجميعِ الـمُسلِمَينَ مِنْ كُل ِذَنْبٍ وَخَطِيئةٍ فاسْتَغْفِرُوه إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَحِيمُ..

الثانية:

أيها الإخوة: هذه المنزلةُ العظيمةُ والمكانةُ العليةُ الرفيعةُ تحتاج لبلوغها لمن يرومها،  عِدَةُ أشياء أهمها الدعاء وينبغي أن يتحرى به ساعات الإجابة، والمداومة عليه والإلحاح فيه، ولا تملّ ولا تكلّ، ومما ينبغي أن ندعو به هذا الدعاء فَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؟» قَالَ: «قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ» رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.

 أيها الأحبة: احفظوا هذا الدعاء وكرروه كثيراً، واسألوا الله بصدق أن يرزقكم الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال.

ومما يعين على التوفيق لعبادة الخفاء تدبر معاني الإخلاص لله سبحانه، وتذكيرُ النفسِ به دائمًا بها، وهو الدافعُ الأولُ على عملِ السرِ.. ذلك إن الباعثَ على عمل السر هو أن يكون العملُ لله وحده وأن يكون بعيدًا عن رؤية الناس..

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ: رَأَيْتُ أَبَا أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَى عَلَى رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ سَاجِدٌ يَبْكِي فِي سُجُودِهِ، وَيَدْعُو رَبَّهُ، فَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: «أَنْتَ، أَنْتَ، لَوْ كَانَ هَذَا فِي بَيْتِكَ» الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد.. وأعظم مُعين على اعتياد عمل السر صدقة السرء، ذلك أنها تطبيق عملي له، والإكثار منها يُعَود الإنسان نفسه على أعمال السر حتى يتشربها قلبه وتركن إليها نفسه.. ومما يعين كذلك صلاة النوافل في البيت فَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «..صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاَةِ صَلاَةُ الـمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا المَكْتُوبَةَ» رواه البخاري.. ومما يعين عليها في البيت اتخاذ مكان لصلاة النوافل في البيت يهيئه لها، فقد كان من عادة السلف، قال ابن رجب في فتح الباري "وقد كان من عادة السلف أن يتخذوا في بيوتهم أماكن معدة للصلاة فيها." فينبغي لمن يبتغي تعويد نفسه على الإسرار بالعبادة أن يتخذ في بيته مكاناً يعده للصلاة فيه.

أسأل الله أن يجعلنا من الأخفياء الأصفياء وصلوا وسلموا... 

المشاهدات 1938 | التعليقات 1

أعتذر فقد قمت بإضافة معلومات أثناء إلقاء الخطبة شفوياً أحببت إثباتها

وقمت بتصحيح بعض الأخطاء المطبعية