الخبيئات من الأعمال الصالحات
عبدالرحمن السحيم
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا عزّ إلا في طاعته، ولا سعادة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في ذكره، الذي إذا أُطيع شَكر، وإذا عُصي تاب وغفر، والذي إذا دُعي أجاب، وإذا استُعيذَ به أعاذ. أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا مزيدا. أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللَّهَ –عباد الله- حَقَّ التَّقْوَى، فَأَعْمَارُكُمْ تَمْضِي، وَآجَالُكُمْ تَدْنُو (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) . (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)
عباد الله: لئن كانت ذنوب الخلوات من أعظم مفسدات القلب؛ فإن الأعمال الصالحات في الخلوات من أعظم أسباب صلاحه، ولهذا كان السلف يوصون ويتواصون بهذا النوع من الأعمال، يقول الزبير -رضي الله عنه-: "من استطاع أن تكون له خبيئةٌ مِنْ عملٍ صالحٍ فليفعل" ويقول عبد الله بن داود: "كانوا يستحبون أَن يَكُون للرجل خبيئة من عمل صَالِح لا تعلم بِهِ زوجته، ولا غيرها". وكان السلف يثنون على الرجل بهذه الخصلة العزيزة النادرة، فهذا ابن المبارك يذكر الإمام مالك -رحمة الله عليهما-، فيقول: "ما رأيت رجلاً ارتفع مثل مالك بن أنس! ليس له كثير صلاة ولا صيام، إلا أن تكون له سريرة". أيها المسلمون: إن أعمال السر الصالحة ترجمةٌ حقيقية للعبودية الباطنة؛ ذلك أن العبدَ عليه عبوديتان: عبوديةٌ باطنةٌ، وعبوديةٌ ظاهرة، وعمل القلب هو روح العبودية ولبّها، فإذا خلا عملُ الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح.
وإذا كان هذا هو موقع أعمال القلوب؛ فخليق بالمؤمن أن يكون له نصيب منها، ومن تلك الأعمال، بل من أجلها، وعنها تثمر عبادات كثيرة:
1- توحيد الله ومعرفته وتعظيمه والتعبد له -تعالى- بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، خاصة تلك التي تدل على سعة العلم، والاطلاع والخبرة -كالعليم، والسميع، والبصير، والباطن، والقريب، وغيرها- فالعبدُ حين يتعبد لله بها يتذكر إِحاطة الله بالعوالم كلها، ويستشعر قربَ الله منه، وأن ما أخفاه فهو ظاهر معلوم كله لله -سبحانه-، وأنه لا يخفى عليه شيء من سريرته، فإن هذا يُعيْن العبد على تطهير سريرته، التي هي عند الله علانية، ويُصلِح له غيبته، فإِنها عند الله شهادة، ويزكِّي باطنه؛ فإِنه عند الله ظاهر .ومن جملة الأمثلة التطبيقية لهذا المعنى: ما أشار إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله عن أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظلّه: "ورجلٌ ذَكرَ الله خالياً ففاضت عيناه" متفق عليه. تفيض عيناه إما محبةً وشوقاً إلى لقاء الله، أو تفيض خوفاً من المقام بين يديه سبحانه إذا تحرك داعي المعصية.
إِذا ما خَلَوتَ الدَهرَ يَوماً فَلا تَقُل خَلَوتُ وَلَكِن قُل عَلَيَّ رَقيبُ
وَلَا تَـحْـسَـبَـنَّ اللـهَ يَـغْـفُـلُ سَاعَةً وَلَا أَنَّ مَـا تُخْـفَـي. عَـلَـيْه يَغِيبُ
2- ومن عبادات السرائر: مناجاة الله، والتضرع إليه، خصوصاً في الأسحار، ووقت هجوع العيون، فهذا القرآن يحدثنا عن أهل الجنة: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).
3- ومن أجلّ الأعمال التي يتحرك بها القلب في حال الخلوات: محبّة الله -عز وجل-: "فهذه المحبة هي التي تلطّف وتخفِّف أثقال التكاليف، وتروّضُ النفس، وتطيبُ الحياة على الحقيقة، وهذه المحبة هي التي تنّور الوجه، وتشرح الصدر، وتحيي القلب"
4- ومن عبادات الخلوات: صدقة السرّ، التي يجتهد العبدُ في إخفائها، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمنيه".كان زين العابدين يَعوْل عشرات البيوت في المدينة، ويوصل الصدقة لهم ليلاً، فلم يُعرف ذلك عنه إلا بعد موته؛ من سوادٍ وجدوه في ظهره عند التغسيل.5- ومن أجلّ عبادات الخلوات: الإخلاص لله -تعالى-، يقول أبو سليمان الداراني -رحمه الله- لما سئل عن أقرب أحوال العبد من الله؟ فقال: "أن يطّلع على قلبك وأنت لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو"."فالمعوَّل على السرائر، والمقاصد، والنيات، والهمم؛ فهي الإكسير الذي يقلب نحاس الأعمال ذهباً، أو يردها خبثاً" عباد الله : إن مَن وُفّق لعبادات الخلوات؛ فسيجني ثمراتها في الدنيا والآخرة، فمن هذه الثمرات:
1- أنها أحد أسباب دخول الجنة: ففي قصة بلال -رضي الله عنه- لما قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حدثنى بأرجى عمل عملتَه في الإسلام، فإني سمعت دفّ نعليك بين يدي في الجنة؟!" قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهورا في ساعةِ ليلٍ أو نهارٍ إلا صليتُ بذلك الطهور ما كُتب لي أن أصلي) متفق عليه. ففيه دليل أن الله يعظم المجازاة على ما ستر العبد بينه وبين ربه، مما لا يطّلع عليه أحد، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعرف عمل بلالٍ حتى سأله عنه". 2- أن أعمال الخلوات من أسباب حسن الختام: فإذا كانت دسائس السوء -والعياذ بالله- سبباً في سوء الختام، كما ثبت في قصة الذي كان يقاتل مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأَخبر أنه من أهل النار؛ لدسيسة سوء في قلبه، فإن السرائر الصالحة من أسباب حسن الخاتمة -نسأل الله من فضله-.3- ومن ثمراتها الجليلة: أنها علامة على أن العبد ممن وفّق للإخلاص، الذي هو من أعظم أسباب النجاة يوم القيامة، والمخلِصون هم أسعد الناس بشفاعته صلى الله ومن المؤكد: أن العامل إذا اعتاد على أعمال الخفاء ما أمكن؛ فإنه يتربى على الراحة من مجاهدة نفسه على الإخلاص، فيبقى عليه مجاهدتها على دفع العُجب، ومن استعان بربه كفاه وآواه. وهي من أمارات صدق العبودية: يقول مطرّف -رحمه الله-: "إذا استوت سريرةُ العبد وعلانيته، قال الله -عز وجل-: "هذا عبدي حقاً". ومن الثمرات أنها سبب للرفعة، وحسن الذِّكر في الدنيا، قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "والله! لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت، ويتخشع في نفسه ولباسه، والقلوب تنبو عنه! وقدْره في النفوس ليس بذاك! ورأيتُ من يلبس فاخر الثياب، وليس له كبير نفل، ولا تخشع، والقلوب تتهافت على محبته، فتدبرت السبب، فوجدته السريرة! فمن أصلح سريرته فاح عبيرُ فضله، وعبقت القلوبُ بنشر طيبه، فالله الله في السرائر؛ فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر". 6- ومنها: أن أعمال الخلوات: من أسباب الرفعة والنجاة يوم القيامة: تأمل في قوله تعالى: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) "وفي التعبير عن الأعمال بالسر لطيفة؛ وهو أن الأعمال نتائج السرائر الباطنة، فمن كانت سريرتُه صالحة كان عملُه صالحاً، فتبدو سريرته على وجهه نوراً وإشراقاً وحياء، ومن كانت سريرته فاسدة كان عمله تابعاً لسريرته، لا اعتبار بصورته؛ فتبدو سريرته على وجهه سواداً وظلمة وشَيناً، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته، فيوم القيامة تبدو عليه سريرته ويكون الحكم والظهور لها" [قاله ابن القيم -رحمه الله-) يقول الإمام مالك -رحمه الله-: "مَن أحب أن يَفْتَحَ له فُرجةً في قلبه، وينجو من غمرات الموت، وأهوال يوم القيامة؛ فليكن في عمله في السر أكثر منه في العلانية". وتأمل في قائل هذه الكلمة، إنه الإمام مالك الذي أثنى عليه ابنُ المبارك بأن مالكاً كان صاحب سريرة، أصلح الله سرنا وعلانيتنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم....
الخطبة الثانية: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأتباعه إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أمّا بعدُ: فاتَّقوا اللهَ عِبادَ الله حقَّ تقوَاه، وسَارِعوا دائمًا إلى مَغفرتِه ورِضاه، فقَد فَاز وسَعدَ من أقبَلَ على مولاَه، وخَابَ وخسِر مَن اتَّبَعَ هَواه وأعرَض عَن أُخراه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
عباد الله: إن الإنسان الناصح لنفسه، حين يسمع ثمرات عبادات السر؛ فخليق به أن يجتهد في البحث عن الأسباب التي تعينه عليها، ولعل من أبرزها: 1- تقوية العلم بالله وبأسمائه وصفاته: قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28].فكلما زاد العلم المبارك المُزكّى، فينبغي أن يكون أثَرُه أكثر، خصوصاً في حال الخلوة. 2 – الإلحاح في الدعاء: فما دُعي رب العزة بمثل سؤال الله -تعالى- الإعانة على ذِكره، وإجلاله في الخلوات. 3- كتم ما يعمله الإنسان في السرّ ولو قلّ. 4- القراءة في سير الصالحين المخلصين أو سماع قصصهم؛ فإن لذلك أثراً معروفاً في شحذ الهمم وتزكية النفوس. 5- التوبة سريعاً إذا حصل هتكٌ لستر الخلوات، وتكرار التوبة كلما زلت القدم، مع أهمية الاستتار بستر الله وعدم المجاهرة: يقول الربيع بن خثيم -رحمه الله- موصياً تلاميذه: "السرائر السرائر اللاتي يخفين على الناس، وهي عند الله بواد؛ التمسوا دواءهن! قيل: وما دواؤهن؟ قال: أن تتوب ثم لا تعود". اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، واجعلنا ممن رُزق الخوف من مقامك يوم نلقاك.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي المصطفى فإنه من صلى عليَّه صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً. اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وجودك يا أكرم الأكرمين..
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين. اللهم انصر إخواننا في فلسطين وفي كل مكان، اللهم اشف مريضهم وداوي جريحهم وتقبل قتيلهم وأمنّ خائفهم وأطعم جائعهم، وانصرهم على عدوهم.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، واهد ضال المسلمين، وأصلح أحوالهم.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات،
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا،واجعل عملهم في رضاك.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار..
عباد الله! اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
1707993487_الخبيئات من الأعمال الصالحات.docx
1707993524_الخبيئات من الأعمال الصالحات.pdf