الخبْءُ مع اللهُ-15-2-1437ه-حامد إبراهيم-الملتقى-بتصرف
محمد بن سامر
1437/02/14 - 2015/11/26 20:56PM
[align=justify]أمابعد:فيا أيها الإخوة: قالَ النبيُ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-: "مَنِ استطاعَ منكمْ أنْ يكونَ لَهُ خَبْءٌ مِنْ عمَلٍ صالِحٍ فلْيَفْعَلْ".
الخبءُ: هو عملٌ صالحٌ مُخَبَّأٌ، يعملُهُ المسلمُ في السرِ، ولا يعلمُهُ أحدٌ ولا يطلِّعُ عليهِ إلا اللهُ-سبحانهُ وتعالى-.
وعملُ السرِّ منْ أعظمِ ما تتقربُ بهِ إلى الله بعدَ الفرائضِ، فهو كنزٌ عظيمٌ من الحسناتِ، تجدُه في الدنيا سعادةً وراحةً، وطمأنينةً وسكينةً، وتجدُهُ في الآخرةِ مُفَرِّجًا ومُنَجِّيًا من كُرَبِ يومَ القيامةِ، فلا تغفلْ عنهُ واعقدِ العزمَ من الآنَ على أنْ يكونَ لكَ خبْءٌ: عملٌ صالحٌ في السرِّ بينَك وبينَ اللهِ.
وسنذكرُ رجالًا صالحينَ، كانَ لكلِّ منهم خبْءٌ مع اللهِ، كانَ سببًا في قربِهِ منَ اللهِ، وفوزِهِ برضاهُ.
الأولُ: ولدٌ بارٌ بوالديه بِرًا أدهشَ العقولَ وحيرَّ الألبابَ، بلغَ بِرُّهُ المتميزُ لوالديهِ الذي لمْ يسبقْه إليه أحدٌ، أنَّه لا يَسقي أحدًا قبلَهما، حتى لو كانَ أولادَه الصغارَ، الذينَ يبكونَ عندَ قدميْهِ مِنْ شِدةِ الجوعِ، وهو يحملُ إناءَ الحليبِ على يديِه، ليلةً كاملةً ينتظرُ استيقاظَهما، فقبلَ اللهُ عملَه، واستجابَ دعاءَه، وفرجَّ عنه به، ذكرَهُ الرسولُ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ- في حديثِ أصحابِ الغارِ فقالَ: "انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوُا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَقَالُوا إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمُ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لاَ أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلاً وَلاَ مَالاً-الغَبوقُ حليبٌ يُحْلَبُ ويُشربُ في المساءِ، يعني: لا أقدِمُ أحدًا على والديَّ في طعامٍ ولا شرابٍ ولا شيءٍ، فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا- ابتعدتُ بغنمي لأجدَ لها المرعى الخصْبَ، الكثيرَ العشبِ-، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا-آتِ في المساءِ-حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، أكرهُ أنْ أوقظَهُما من نومِهما، وأكرهُ أن أسقيَ الصبيةَ-الأولادَ-قبلَهما، والصبيةُ يتضاغون-يبكونَ-عند قدمي، فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ-إناءُ الحليبِ-عَلَى يَدَيَّ، أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ".
أمَّا الرجلُ الثاني: فرجلٌ عفيفٌ نظيفٌ، جوادٌ كريمٌ، تركَ معصيةَ اللهِ: الزنا شهوةَ الفرجِ الحرامِ، بل وتَصَدَّقَ بما يملكُ مِنْ ذهبٍ على ابنةِ عمِهِ الفقيرةِ المحتاجةِ، التي أرادَ أنْ يزنيَ بها، فعل ذلك خشيةً مِنَ اللهِ، وخوفًا منه، وابتغاءَ عفوِهِ ورحمتِهِ، وصلةً لرَحِمِهِ، فقبلَ اللهُ عملَه، واستجابَ دعاءَه، وفرجَّ عنه به، قَالَ الرسولُ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-: "وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا-يعني: أن يزنيَ بها-، فَامْتَنَعَتْ مِنّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ-أصابها الفقرُ والحاجةُ-، فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِئَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا-أن يزنيَ بها-، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ: لاَ أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا-خفتُ من الإثمِ-، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهْىَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِى أَعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا".
أما الرجلُ الثالثُ: فأمينٌ أمانةً لم يماثلْه فيها أحدٌ، عملَ عندهُ عاملٌ عملًا، ورفضَ العاملُ أخذَ أُجْرَتِهِ، فتاجرُ الرجلُ الأمينُ بها، وكثرَّها للعاملِ، ثمَّ اشترى له بها كثيرًا منَ العبيدِ والإبلِ والبقرِ والغنمِ، فلما عادَ إليهِ لأخذِ أجرتِهِ، أعطاهُ أجرتَه وكلَّ ما تاجرَ له بها، فقبلَ اللهُ عملَه، واستجابَ دعاءَه، وفرَّج همَّه، فَخَرَجَ هو وأصحابه يَمْشُونَ، هذا جزاءُ الدنيا، وأجرُ الآخرةِ أكبرُ وأبقى، قَالَ النَّبِيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-: "وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ، غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ-كَثَّرْتُهُ-حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَىَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ: مِنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ-العبيدِ-فخذهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَسْتَهْزِئْ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ".
أما الرجلُ الرابعُ: فمُزارعٌ صالحٌ، متصدقٌ منفقٌ في سبيلِ اللهِ، كُلمَّا باعَ شيئًا من ثمرِ مزرعتِه، أخذَ المالَ فتصدقَ بثُلثِه على الفقراءِ والمساكينِ، وأنفقَ ثُلُثَهُ على نفسِهِ وأهلِهِ وعيالِهِ، وأعادَ ثُلُثَه للمزرعةِ؛ لتبقى وتستمرَ، فتقبلَ اللهُ منه، وأثابَهُ، وباركَ لهُ في مزرعتهِ، فأرسلَ إليهِ سحابًا محملًا بماءٍ مباركٍ، يسوقُه الملَك إلى مزرعتهِ، ويرفعُ اسمَهُ ومنزلتَهُ، فيأمرُ السحابَ بصوتٍ مسموعٍ: أن اسقِ مزرعةَ فلانٍ-الرجلِ الصالحِ-دونَ غيرِهِ من المزارعِ، قَالَ النَّبِيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-: "بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاَةٍ-صحراءَ-مِنَ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرْجَةٌ-الشرجةُ: حُفرةٌ تُفرَشُ بجلدٍ؛ ليحفظَ الماءَ الذي يُصب فيها؛ لسقيِ الأرضِ والماشيةِ-فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ-احتوتْ-ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ-الرجلُ الذي سمعَ الصوتَ-الْمَاءَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ، يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ. مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلاَنٌ، لِلاِسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِى هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاِسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذَا قُلْتَ هَذَا، فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ".
أما الرجلُ الخامسُ: فهو بلالُ بنُ رباحٍ-رضيَ اللهُ عنهُ-خبْؤهُ-عملهُ السريُ بينه وبين اللهِ سهلٌ ميسورٌ، ولكنْ قليلٌ مَنْ يفعلُه ويَفْطِنُ إليه، ركعاتٌ يصليها دائمًا بعدَ كلِّ وُضوءٍ، في أيِ وقتٍ من الليلِ أو النهارِ، فقبلَ اللهُ عملَه، ورضيَ عنه، وجعلَه من السابقينَ إلى جنتِه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلمَّ- لِبِلاَلٍ عِنْدَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ: "يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَي عَمَلٍ عَمِلْتَهُ عِنْدَكَ فِي الإِسْلاَمِ مَنْفَعَةً، فَإِنِّي سَمِعْتُ اللَّيْلَةَ خَشْفَ نَعْلَيْكَ-صوتَ مَشْيِك-بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ بِلاَلٌ مَا عَمِلْتُ عَمَلًا فِي الإِسْلاَمِ، أَرْجَى عِنْدِي مَنْفَعَةً، مِنْ أَنِّى لاَ أَتَطَهَّرُ طُهُورًا تَامًّا فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلاَ نَهَارٍ إِلاَّ صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كَتَبَ اللَّهُ لِي أَنْ أُصَلِّيَ".
[/align]
الخبءُ: هو عملٌ صالحٌ مُخَبَّأٌ، يعملُهُ المسلمُ في السرِ، ولا يعلمُهُ أحدٌ ولا يطلِّعُ عليهِ إلا اللهُ-سبحانهُ وتعالى-.
وعملُ السرِّ منْ أعظمِ ما تتقربُ بهِ إلى الله بعدَ الفرائضِ، فهو كنزٌ عظيمٌ من الحسناتِ، تجدُه في الدنيا سعادةً وراحةً، وطمأنينةً وسكينةً، وتجدُهُ في الآخرةِ مُفَرِّجًا ومُنَجِّيًا من كُرَبِ يومَ القيامةِ، فلا تغفلْ عنهُ واعقدِ العزمَ من الآنَ على أنْ يكونَ لكَ خبْءٌ: عملٌ صالحٌ في السرِّ بينَك وبينَ اللهِ.
وسنذكرُ رجالًا صالحينَ، كانَ لكلِّ منهم خبْءٌ مع اللهِ، كانَ سببًا في قربِهِ منَ اللهِ، وفوزِهِ برضاهُ.
الأولُ: ولدٌ بارٌ بوالديه بِرًا أدهشَ العقولَ وحيرَّ الألبابَ، بلغَ بِرُّهُ المتميزُ لوالديهِ الذي لمْ يسبقْه إليه أحدٌ، أنَّه لا يَسقي أحدًا قبلَهما، حتى لو كانَ أولادَه الصغارَ، الذينَ يبكونَ عندَ قدميْهِ مِنْ شِدةِ الجوعِ، وهو يحملُ إناءَ الحليبِ على يديِه، ليلةً كاملةً ينتظرُ استيقاظَهما، فقبلَ اللهُ عملَه، واستجابَ دعاءَه، وفرجَّ عنه به، ذكرَهُ الرسولُ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ- في حديثِ أصحابِ الغارِ فقالَ: "انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوُا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَقَالُوا إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمُ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لاَ أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلاً وَلاَ مَالاً-الغَبوقُ حليبٌ يُحْلَبُ ويُشربُ في المساءِ، يعني: لا أقدِمُ أحدًا على والديَّ في طعامٍ ولا شرابٍ ولا شيءٍ، فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا- ابتعدتُ بغنمي لأجدَ لها المرعى الخصْبَ، الكثيرَ العشبِ-، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا-آتِ في المساءِ-حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، أكرهُ أنْ أوقظَهُما من نومِهما، وأكرهُ أن أسقيَ الصبيةَ-الأولادَ-قبلَهما، والصبيةُ يتضاغون-يبكونَ-عند قدمي، فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ-إناءُ الحليبِ-عَلَى يَدَيَّ، أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ".
أمَّا الرجلُ الثاني: فرجلٌ عفيفٌ نظيفٌ، جوادٌ كريمٌ، تركَ معصيةَ اللهِ: الزنا شهوةَ الفرجِ الحرامِ، بل وتَصَدَّقَ بما يملكُ مِنْ ذهبٍ على ابنةِ عمِهِ الفقيرةِ المحتاجةِ، التي أرادَ أنْ يزنيَ بها، فعل ذلك خشيةً مِنَ اللهِ، وخوفًا منه، وابتغاءَ عفوِهِ ورحمتِهِ، وصلةً لرَحِمِهِ، فقبلَ اللهُ عملَه، واستجابَ دعاءَه، وفرجَّ عنه به، قَالَ الرسولُ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-: "وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا-يعني: أن يزنيَ بها-، فَامْتَنَعَتْ مِنّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ-أصابها الفقرُ والحاجةُ-، فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِئَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا-أن يزنيَ بها-، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ: لاَ أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا-خفتُ من الإثمِ-، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهْىَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِى أَعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا".
أما الرجلُ الثالثُ: فأمينٌ أمانةً لم يماثلْه فيها أحدٌ، عملَ عندهُ عاملٌ عملًا، ورفضَ العاملُ أخذَ أُجْرَتِهِ، فتاجرُ الرجلُ الأمينُ بها، وكثرَّها للعاملِ، ثمَّ اشترى له بها كثيرًا منَ العبيدِ والإبلِ والبقرِ والغنمِ، فلما عادَ إليهِ لأخذِ أجرتِهِ، أعطاهُ أجرتَه وكلَّ ما تاجرَ له بها، فقبلَ اللهُ عملَه، واستجابَ دعاءَه، وفرَّج همَّه، فَخَرَجَ هو وأصحابه يَمْشُونَ، هذا جزاءُ الدنيا، وأجرُ الآخرةِ أكبرُ وأبقى، قَالَ النَّبِيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-: "وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ، غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ-كَثَّرْتُهُ-حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَىَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ: مِنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ-العبيدِ-فخذهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَسْتَهْزِئْ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ".
الخطبةُ الثانيةُ
أما الرجلُ الخامسُ: فهو بلالُ بنُ رباحٍ-رضيَ اللهُ عنهُ-خبْؤهُ-عملهُ السريُ بينه وبين اللهِ سهلٌ ميسورٌ، ولكنْ قليلٌ مَنْ يفعلُه ويَفْطِنُ إليه، ركعاتٌ يصليها دائمًا بعدَ كلِّ وُضوءٍ، في أيِ وقتٍ من الليلِ أو النهارِ، فقبلَ اللهُ عملَه، ورضيَ عنه، وجعلَه من السابقينَ إلى جنتِه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلمَّ- لِبِلاَلٍ عِنْدَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ: "يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَي عَمَلٍ عَمِلْتَهُ عِنْدَكَ فِي الإِسْلاَمِ مَنْفَعَةً، فَإِنِّي سَمِعْتُ اللَّيْلَةَ خَشْفَ نَعْلَيْكَ-صوتَ مَشْيِك-بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ بِلاَلٌ مَا عَمِلْتُ عَمَلًا فِي الإِسْلاَمِ، أَرْجَى عِنْدِي مَنْفَعَةً، مِنْ أَنِّى لاَ أَتَطَهَّرُ طُهُورًا تَامًّا فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلاَ نَهَارٍ إِلاَّ صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كَتَبَ اللَّهُ لِي أَنْ أُصَلِّيَ".
[/align]
المرفقات
الخبْءُ مع اللهُ-15-2-1437ه-حامد إبراهيم-الملتقى-بتصرف.docx
الخبْءُ مع اللهُ-15-2-1437ه-حامد إبراهيم-الملتقى-بتصرف.docx