الخارجون من السجن 14/ 7/ 1442هـ

عبدالله حمود الحبيشي
1442/07/12 - 2021/02/24 14:31PM

الخارجون من السجن 14/ 7/ 1442هـ  

الخطبة الأولى ..

 

إنِ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، ..

 

عباد الله .. ما تقولون في من كان في سجنٍ أربعين أو سبعين أو تسعين سنه ثم خرج منه .. أي فرحته ، وأي سعادة ، وأي سرور يكون فيه .. هكذا هو المؤمن حين يخرج من سجن الدنيا .. وهي والله سجن كما قال صلى الله عليه وسلم (الدُّنْيا سِجْنُ المُؤْمِنِ) .. فأعظم بها بشارة حين يخرج المؤمن من هذه الدنيا التي كانت سجنا له ، فيها من الضيق والنكد والكدر ، والعناء والشقاء إلى رحمة رب الأرض والسماء ..

  إنه الموت .. نعم إِنَّهُ المَوتُ ، غَايَةُ كُلِّ مَخلُوقٍ ، وَنِهَايَةُ كُلِّ مَوجُودٍ، وَسُنَّةُ اللهِ المَاضِيَةُ في كُلِّ حَيٍّ ، قَالَ سُبحَانَهُ ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتُونَ﴾ ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا ﴿وَمَا جَعَلنَا لِبَشَرٍ مِن قَبلِكَ الخُلدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالى ﴿ثُمَّ إِنَّكُم بَعدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُم يَومَ القِيَامَةِ تُبعَثُونَ﴾ .   الموت راحةٌ لأهل الإيمان من الفتن والأنكاد .. المَوتُ جَعَلَهُ اللهُ طَرِيقَ نَجَاةٍ لأَولِيَائِهِ الأَتقِيَاءِ ، ومستراح لهم .. صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين رأى جنازة "العَبدُ المُؤمِنُ يَستَرِيحُ مِن نَصَبِ الدُّنيَا" . بل إن المؤمن إذا فارق الحياة يطلب التعجيل والإسراع به .. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ "إِذَا وُضِعَتِ الجَنَازَةُ فَاحتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعنَاقِهِم ، فَإِن كَانَت صَالِحَةً قَالَت : قَدِّمُوني ، قدِّموني" .

 

جَزَى اللَّهُ عَنّا المَوْتَ خَيراً فإِنَّهُ ** أبرُّ بِنا من كلِّ شَيءٍ وأرأفُ

 

يُعَجِّلُ تَخْلِيصَ النُّفُوسِ مِنَ الأذى ** وَيُدْنِي مِنَ الدَّارِ التي هِيَ أَشرفُ

  الموت للمؤمن راحة ، والبداية قبل خروج الروح ، فالملائكة تتنزل عليه تطمئنه ، وتبشره ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ* نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾.

 

فإذا مات المؤمن ، انتقل من حياة التعب والكبد ، إلى حياة البرزخ ، غير فزع ولا مشعوف ، وفي البرزخ يأتيه ملكان يسألانه عن ربه ودينه ونبيه ، فإذا أجاب «فُرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، فَيُقَالُ لَهُ : انْظُرْ إِلَى مَا وَقَاكَ اللَّهُ ، ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ الْجَنَّةِ ، فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا ، وَمَا فِيهَا ، فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا مَقْعَدُكَ ، وَيُقَالُ لَهُ : عَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ ، وَعَلَيْهِ مُتَّ ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ» .

 

وقال صلى الله عليه وسلم «إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ، فإنَّه يُعْرَضُ عليه مَقْعَدُهُ بالغَدَاةِ والعَشِيِّ، فإنْ كانَ مِن أَهْلِ الجَنَّةِ، فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ» .

  فيا نعيم المؤمن حين يفارق هذه الدنيا ، يفرش له من فراش الجنة ، ويلبس من لباس الجنة ، ويأتيه من نسيم الجنة وطيبها ، ويفسح له في قبره ، ويبشر برضوان الله تعالى وجنته ، وينوَّر له قبره وينام نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب الناس إليه ، ولذلك كله فهو يشتاق إلى قيام الساعة .

 

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا حُضِرَ الْمُؤْمِنُ أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ فَيَقُولُونَ : اخْرُجِي رَاضِيَةً مَرْضِيًّا عَنْكِ إِلَى رَوْحِ اللَّهِ ، وَرَيْحَانٍ ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ ، فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ ، حَتَّى أَنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ السَّمَاءِ فَيَقُولُونَ : مَا أَطْيَبَ هَذِهِ الرِّيحَ الَّتِي جَاءَتْكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ، فَيَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحًا بِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِغَائِبِهِ يَقْدَمُ عَلَيْهِ ، فَيَسْأَلُونَهُ : مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟» .

 

﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ .

 

إنها والله الحياة الحقيقية والنعيم الذي يتمناه كل عاقل .. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله : حياة الأرواح بعد مفارقتها الأبدان وخلاصها من هذا السجن وضيقه فإن من ورائه فضاء وروحا وريحانا وراحة .. قال بعضهم : لتكن مبادرتك إلى الخروج من الدنيا كمبادرتك إلى الخروج من السجن الضيق إلى أحبتك والاجتماع بهم في البساتين المونقة ، قال الله تعالى في هذه الحياة ﴿فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ﴾ ويكفي في طيب هذه الحياة مرافقة الرفيق الأعلى ومفارقة الرفيق المؤذي المنكد الذي تنغص رؤيته ومشاهدته الحياة فضلا عن مخالطته وعشرته إلى الرفيق الأعلى الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا في جوار الرب الرحمن الرحيم .

 

قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا ** في الموت ألف فضيلة لا تعرف

 

منها أمان لقائه بلقائه ** وفراق كل معاشر لا ينصف

 

ولو لم يكن في الموت من الخير إلا أنه باب الدخول إلى هذه الحياة وجسر يعبر منه إليها لكفي به تحفة المؤمن" . أ.هـ

 

هذه النظرة إلى الموت ، واليقين بأنه راحة من نكد الدنيا وعنائها ، هذه النظرة هي التي زرعت الشوق في قلوب أهل الآخرة ، هي التي جعلت قدوة الخلق يخير عند موته فيقول "بل الرفيق الأعلى" ، ويقول لابنته "لا كرب على أبيك بعد اليوم" .

 

هي التي جعلت حَرَامُ بنُ مِلْحَانَ رضي الله عنه ، وقد طُعن من خلفه وجعل الدم يفور من أمامه فقالَ : بالدَّمِ هَكَذَا فَنَضَحَهُ علَى وجْهِهِ ورَأْسِهِ، ثُمَّ قالَ : فُزْتُ ورَبِّ الكَعْبَةِ .

 

هي التي جعلت بلالاً رضي الله عنه وقد جلست زوجه بجواره تبكي عند احتضاره وتقول : واحزناه! فيقول لها : "بل، واطرباه! غدًا نلقى الأحبّة ، محمدًا وصحبه " .

 

نسأل الله يختم بالصالحات أعمالنا وبالتوبة آجالنا ويجعل الحياة زيادة لنا في كلِّ خيرٍ ، والموتَ راحةً لي من كلِّ شرٍّ ..

    الخطبة الثانية ..

 

 

الحمد لله ..

 

أما بعد .. عباد الله .. صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ" وفسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحب بلقاء الله بقوله "الْمُؤْمِنَ إِذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ ؛ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ" .

  مما يسلي العبد في فقد حبيب له ما يرجوه له عند الله من الفضل والخير والنعيم .. أُمَّ الرُّبَيِّعِ بنْتَ البَرَاءِ وهي أُمُّ حَارِثَةَ بنِ سُرَاقَةَ أتَتِ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، فَقَالَتْ : يا نَبِيَّ اللَّهِ ، ألَا تُحَدِّثُنِي عن حَارِثَةَ ، وكانَ قُتِلَ يَومَ بَدْرٍ أصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ ، فإنْ كانَ في الجَنَّةِ صَبَرْتُ ، وإنْ كانَ غيرَ ذلكَ ، اجْتَهَدْتُ عليه في البُكَاءِ ، قَالَ: يا أُمَّ حَارِثَةَ إنَّهَا جِنَانٌ في الجَنَّةِ، وإنَّ ابْنَكِ أصَابَ الفِرْدَوْسَ الأعْلَى" .

 

هذا والله هو المستريح .. المستريح بعد الموت هو من رضي بالله ربًا ، وبالإسلام دينًا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولاً .

 

المستريح هو من تخلّص من حقوق العباد واستعدّ ليوم المعاد .

 

المستريح هو من يرحل عن هذه الدار بعد أن أسّس بيتًا قائمًا على التقوى ، وخلّف وراءه صدقة جارية ، أو علمًا ينتفع به ، أو ولدًا صالحًا يدعو له .

 

المستريح هو من دعا إلى الله ، وجاهد في سبيل الله ، وكان من خير الناس للناس ، فعاش سعيدًا ومات حميدًا .

 

المستريح هو من حفظ السمع والبصر والفؤاد عن كل ما يغضب رب العباد .

 

المستريح بعد الموت هو من جعل الآخرة همه ، وخاف مقام ربه ، ونهى النفس عن الهوى.

 

المستريح بعد الممات هي تلك المرأة الصالحة التي تمسكت بحجابها، واعتزت بدينها ، وحافظت على عفافها ، وماتت على ذلك.

 

المستريحون .. الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

 

اللهم احسن ختامنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر

المشاهدات 726 | التعليقات 0