الحياة الزوجية
محمد بن سليمان المهوس
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21]، قَالَ السِّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : «﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ الدَّالَّةِ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعِنَايَتِهِ بِعِبَادِهِ وَحِكْمَتِهِ الْعَظِيمَةِ وَعِلْمِهِ الْمُحِيطِ: ﴿أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ تُنَاسِبُكُمْ وَتُنَاسِبُونَهُنَّ ﴿لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ بِمَا رَتَّبَ عَلَى الزَّوَاجِ مِنَ الأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِلْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ.
فَحَصَلَ بِالزَّوْجَةِ الاِسْتِمْتَاعُ وَاللَّذَّةُ وَالْمَنْفَعَةُ بِوُجُودِ الأَوْلاَدِ وَتَرْبِيَتِهِمْ، وَالسُّكُونُ إِلَيْهَا؛ فَلاَ تَجِدُ بَيْنَ أَحَدٍ فِي الْغَالِبِ مِثْلَ مَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ يُعْمِلُونَ أَفْكَارَهُمْ وَيَتَدَبَّرُونَ آيَاتِ اللهِ وَيَنْتَقِلُونَ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ» انْتَهَى.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَقْدَ الزَّوْجِيَّةِ مِيثَاقًا غَلِيظًا يَجِبُ عَلَى الطَّرَفَيْنِ الاِلْتِزَامُ بِهِ؛ وَذَلِكَ لِقُوَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 20-21]، وَلأَهَمِّيَّةِ هَذَا الْعَقْدِ الْعَظِيمِ وَالْمِيثَاقِ الْغَلِيظِ فِي بِنَاءِ أُسْرَةٍ مُسْلِمَةٍ؛ أَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ بِالْوَفَاءِ بِهِ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، وَجَعَلَ الشَّرْعُ الْحَكِيمُ حُقُوقًا لِلزَّوْجِ وَأُخْرَى لِلزَّوْجَةِ، وَحُقُوقًا مُشْتَرِكَةً بَيْنَهُمَا، وَجَعَلَ أَسَاسَ الْحُقُوقِ: الْمُعَاشَرَةَ بِالْمَعْرُوفِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 19]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة : 228].
وَأَوْصَى مَعَاشِرَ الرِّجَالِ بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى فِي نِسَائِهِمْ، فَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- : «اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ ...» الحديث. [رواه مسلم].
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي» [رواه الترمذي، وصححه الألباني]، وَمِنْ جَمِيلِ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فِي شَأْنِ الإِحْسَانِ إِلَى الزَّوْجَةِ، أَنَّ إِطْعَامَ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ، وَوَضْعَ اللُّقْمَةِ فِي فَمِهَا، يَنَالُ بِهِ صَدَقَةً، فَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ» [رواه البخاري ومسلم].
وَرَتَّبَ الشَّرْعُ الْحَكِيمُ الأَجْرَ الْعَظِيمَ عَلَى طَاعَةِ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَصَّنَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ» [صححه الألباني].
وَفِيِ حَدِيِثٍ آخَرَ ، قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلاَ تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا بِمَا يَكْرَهُ» [رواه النسائي، وصححه الألباني].
وَمَعَ أَنَّ مِنْ ثِمَارِ هَذَا الْعَقْدِ الْمُبَارَكِ حُصُولَ الْمَحَبَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْوِئَامِ، إِلاَّ أَنَّ النَّسِيمَ لاَ يَهُبُّ عَلِيلاً دَاخِلَ الْبَيْتِ عَلَى الدَّوَامِ! فَقَدْ يَتَعَكَّرُ الْجَوُّ وَتَثُورُ الزَّوَابِعُ، وَقَدْ يَتَطَوَّرُ الأَمْرُ وَيَزْدَادُ لِيَصِلَ إِلَى التَّفْكِيرِ فِي الطَّلاَقِ!
فَنَقُولُ: صَبْرًا جَمِيلاً -أَيُّهَا الزَّوْجُ الْمُبَارَكُ-؛ فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ أَسَاءَتْكَ فَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يَجْعَلَ الْمَوَدَّةَ فِيمَا تَسْتَقْبِلُهُ مِنْ أَيَّامِكَ، أَوْ أَنَّ اللهَ يُخْرِجُ مِنْهَا ذُرِّيَّةً صَالِحَةً تَقَرُّ بِهَا عَيْنُكَ، وَيَهْنَأُ بِهِمْ قَلْبُكَ.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: الأَصْلُ فِي الطَّلاَقِ الْحَظْرُ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْهُ قَدْرُ الْحَاجَةِ.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ قُلُوبَنَا وَأَعْمَالَنَا وَأَحْوَالَنَا، وَاجْعَلْنَا مِنَ الصَّالِحِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ علَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ، وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ».
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاحْذَرُوا عَدُوَّكُمُ الشَّيْطَانَ وَمَصَائِدَهُ وَكَيْدَهُ، وَالَّذِي يَسْعَى فِي إِفْسَادِكُمْ وَهَلاَكِكُمْ وَخَرَابِ بُيُوتِكُمْ؛ فَالشَّيْطَانُ يُفْرِحُهُ الطَّلاَقُ وَالْفِرَاقُ، وَيَسُوؤُهُ الاِجْتِمَاعُ وَالْوِفَاقُ، وَكَذَلِكَ شَيَاطِينُ الإِنْسِ عَبْرَ طُرُقِهِمُ الْمُتَنَوِّعَةِ فِي هَذَا الزَّمَنِ، وَالَّتِي مِنْ أَشَدِّهَا وَسَائِلُ التَّوَاصُلِ؛ حَيْثُ الشَّرُّ الْوَاصِلُ مَا بَيْنَ فِتَنٍ وَشُكُوكٍ، وَتَخْبِيبٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَتَرْوِيجٍ لِدَعَاوَى الْخُلْعِ وَالْفَسْخِ وَالطَّلاَقِ ؛ وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا لأَنَّهُ وُجِدَ فِي الْمُجْتَمَعِ مَنْ يَتَسَرَّعُ بِاتِّخَاذِ قَرَارِ الطَّلاَقِ لأَتْفَهِ الأَسْبَابِ، خُصُوصًا الشَّبَابُ حَدِيثِي الزَّوَاجِ الَّذِينَ لَمْ يَتَعَوَّدُوا عَلَى الأَجْوَاءِ الزَّوْجِيَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنْ قُيُودٍ وَتَحَمُّلٍ وَمَسْؤُولِيَّةٍ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].
المرفقات
1668568987_الحياة الزوجية.doc
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق