الحياء
عبدالله القاضي
أيها المسلمون!
حديثي إليكم عن خلق من أخلاق القرآن، بل عن صفة من صفات الرحمن!
عن (خلق الحياء) أُحدّثكم؛ فاستمعوا إلى ما قال الرسول:
قال ﷺ: «الحياء شعبة من الإيمان».
«الحياء كله خير».
«الحياء لا يأتي إلا بخير».
«إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فافعل ما شئت».
«الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار».
«الْحَياء والإيمان قُرِنا جَميعًا، فإذا رُفِع أحدهما رُفِع الآخر».
أسمعتم يا عباد الله؟!
بل أفضل البشر وإمام الأنبياء كان أكمل الناس حياء، نعم، فالحياء لا ينافي قوة الشخصية، ولا يعارض الرجولة، قال أبو سعيد الخدري t: كان النبي ﷺ أشدّ حَياء مِن العَذْراء في خِدْرِها. وقال أنس t: كان النبي ﷺ شديد الحياء.
بل الحياء صفة من صفات الله تعالى، قال ﷺ: «إنَّ الله حيي سِتِّير يحب الستر والحياء»، وقال: «إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً خائبتين»؛ فالمتصف بالحياء قريب من الله، حبيب له. قال ابن القيم -رحمه الله-: «من وافق الله في صفة من صفاته قادته تلك الصفة إليه، وأدخلته على ربه، وقربته من رحمته، وصيرته محبوبا، فإنه سبحانه رحيم يحب الرحماء، كريم يحب الكرماء، عليم يحب العلماء، قوي يحب المؤمن القوي، حيي يحب أهل الحياء».
أيها المسلمون:
من قصص الحياء في القرآن: قصة تلك الفتاة الحيية، التي قصها الله تعالى في خبر موسى u: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾.
هل رأيتم الحياء؟ الذي رآه الله تعالى، وخلده في القرآن:
(امرأتين تذودان) أي تمنعان أغنامهما عن الماء، قال موسى (ما خطبكما)؟ ما شأنكما لا تسقيان؟ (قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء) أي حتى يرجع الرعاة من سقيهم خوف مزاحمة الرجال.
ثم قالتا: (وأبونا شيخ كبير): أي لولا عجز أبينا عن السقي ما خرجنا، فأينهن عمن يزاحمن الرجل بلا حاجة؟!
ثم (جاءته إحداهما تمشي على استحياء)، ثم انظر إلى أدبها وحيائها إذ قالت: (إن أبي، يدعوك) فنسبت الدعوة إلى أبيها، حياءً وبُعدا عن التُهمة وسوء الظن.
فلا جرم أن اختارها الله تعالى لتكون زوجة لأحد أولي العزم من الرسل، إنها زوجة نبي الله موسى u: ﴿الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن.
----
الخطبة الثانية
أيها المسلمون!
أخلاق القرآن هي المعيار إذا تلوّثت الفطر، وساد الشواذّ في العالم، وتغلّب السَقَط والتافهون؛ فالحياءَ الحياءَ أيها المسلمون.
وضد الحياء: الوقاحة.
وليس من الحياء: أن يسكت الإنسان على الباطل، ولا أن يجبُن عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا أن يداهن ويجاري أهل الفساد، ولا أن يضعف عن المطالبة بحقّه، ولا أن يسكت عن السؤال وطلب العلم، بل هذا ضعف وخور وعجز، إنما الحياء كما قال العلماء: خلق يكُفّ عن ارتكاب الرذائل، ويحثّ على فعل الجميل، ويمنع من التقصير في حق صاحب الحق.
أيها المسلمون!
من أمراض هذا العصر: قلة الحياء، يظهر هذا المرض في المجاهرة بالمعاصي، ونشر الفضائح، وموت الغيرة عند الرجال، وفي تبرج النساء وجرأتهن.
وإن زوال الحياء لنذير شر، نسأل الله العافية منه.
ولحفظ الحياء في نفوسنا ونفوس أهلينا أختم بثلاثة أصول تحفظ الحياء:
أما الأصل الأول: فهو زيادة الإيمان، فكل ما يزيد الإيمان يزيد الحياء ويحفظه؛ لأن الحياء من الإيمان، كما قال النبي ﷺ، فإذا أحببت أن ترى الحياء في نفسك، في زوجتك، في أبنائك وبناتك فاعتنِ بكل ما يزيد إيمانهم: من إقامة الصلاة، وأداء الفرائض، وتجنّب المعاصي، والتزود من النوافل، وقراءة القرآن بالتدبّر والفهم.
وأما الأصل الثاني من أسباب حفظ الحياء: فهو العلم النافع، أعني: علم الكتاب والسنة، ففيه التعريف بصفات الله، ومن عرف الله تعالى استحيى منه، وفيه الترغيب في الحياء، وبيان حدود الأدب، وضوابط التعامل، فهذه معايير الكتاب والسنة، مزوّدة بقوة التأثير النفسي، وهي ثابتة لا تتغير، بخلاف التقاليد والعادات الاجتماعية، والذوق العامّ في المجتمعات، فهي قابلة للتغيّر، إما إلى رقيّ وإما إلى نزول.
وأما الأصل الثالث من أصول حفظ الحياء: فهو تجنّب مفسدات الحياء.
أيها المسلمون! الحياء فطرة، وغريزة طبيعية، ولكن هذه الفطرة -كغيرها- يمكن أن تضعف وتضمحل.
إن مخالطة المرأة للرجال الأجانب بلا حاجة، لمما يُضعف حياءها وحياء الرجل أيضا، والرب العليم الحكيم يقول: ﴿وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب﴾ لماذا؟ ﴿ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن﴾، وإن كثرة خروج المرأة من بيتها بلا حاجة شرعية لمما يَذهب بحيائها وحياء الرجل أيضا، فالخالق الحكيم الرحيم يقول ﴿وقرن في بيوتكن﴾.
الذهاب للسياحة في أماكن يظهر فيها المنكر، وتألف فيها النفس مشاهدة العورات -ولو قيل إنها بلاد إسلامية- بلا حاجة حقيقية، لا غرابة في أن يعود منها الإنسان وقد فقد جزءا من إيمانه، نعم، لأنه بتلك المشاهدات نقص حياؤه، وتسبب في نقص حياء أهله.
إطلاق النظر في الحُرُمات، في الشاشات والقنوات، ملوّث للقلب، منقص للحياء.
عباد الله!
لنحفظ الحياء في نفوسنا؛ فإن الحياء من الإيمان، وإن الحياء لا يأتي إلا بخير.