(الحياءُ لا يأتي إلا بخيرٍ)
محمد بن مصطفى بن الحسن كركدان
الحمد لله الذي خلق فسوى، وأعطى كُلَّ شيءٍ خَلْقه ثم هدى، أحمده سبحانه وأشكره، وأستعينه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا وإمامَنا وقُرَّةَ عيونِنَا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، وصفيُّه من خلقه ومختارُه وخليلُه، أشهد بأنَّه قد بلغ الرسالة، وأدَّ الأمانة، ونصح الأُمَّة، وكشف الله جلَّ وعلا به الغُمَّة، وتركنا على المحجَّة البيضاء ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وتسليماته وتبريكاته عليه وعلى آل بيته الطيِّبين الطاهرين، وعلى صحابته نجوم الدين، وعلى من تبعهم من المسلمين بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله، أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله تعالى، فاتقوا الله أيها المسلمون حقَّ التقوى، وراقبوه في السرِّ والنجوى، وكونوا عباد الله من الصادقين، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[2].
أما بعد معشر المسلمين، أقفُ وإياكم اليوم مع جملةٍ من وحي السنة، وكلماتٍ من مشكاة النبوة، جملة تحمل النور والخير، وشرعنا لا يأمر إلا بخير، جملة لها ثمرات عديدة، وخيرات كثيرة، جملة تحمل النفس على التحلي بالفضائل، وتجنب الرذائل، جملة تُجَمِّل الإنسان بكل وصف مليح، وتبعده عن كل فعل قبيح، ودونكم الخبر، أخرج الشيخان في صحيحهما من حديث عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ -رضي اللهُ عنه- قال، قال رسولُ الله -صلى اللهُ عليه وسلم-: (الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ)[3].
نعم أيها المؤمنون، خُلُقُ الحياءِ كلُّه خيرٌ، ولا يحمل المسلم إلا على فعل الخير، فهو "خُلُقٌ يبعثُ على فعلِ الحَسَنِ، وتَرْكِ القبيحِ"[4]، وهذا لعَمْري من أهم ما نحتاجه في حياتنا، فالمسلم الموفق هو: من وُفِّقَ لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وخُلُق الحياء يحمل الإنسان إلى هذا المعنى العظيم.
أيها المؤمنون، كم نحتاج إلى إحياء خلق الحياء في قلوبنا، كم نحتاج إلى إحيائه في بيوتنا، وأهلنا، وأولادنا؛ لما يترتب عليه من آثار عظيمة في نفوسنا، فالمتخلق بخلق الحياء قد ساهم برفع مستواه الإيماني، وارتقى ارتقاءً عظيمًا في الجانب الأخلاقي، قال النبي -صلى اللهُ عليه وسلم-: (الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ)[5].
فأخبر النبي -صلى اللهُ عليه وسلم- أن الحياء من الإيمان؛ لأنه يدفع المسلم لعمل الصالحات، واجتناب السيئات[6]، وخصَّه النبي -صلى اللهُ عليه وسلم- بالذكر؛ لأنه كالداعي إلى باقي الشعب؛ ولأن صاحب الحياء يخشى على نفسه من مخالفة الشرع، ومخالفة الآداب والسلوك الحسن، فحياؤه يحفظه من فضيحة الدنيا والآخرة، فيأتمر المسلمُ الـمُتَّبِعُ بأمر الله، وينزجر بزجره [7]، وهذا من أعظم الخير الذي يحوزه الإنسانُ.
ولكن إذا نُزِعَ الحياءُ من قلب المسلم، ولم يستحِ من خالقه، فلن يَصُدَّه رادعٌ عن معصيته! فيعصي العبدُ ربَّه، ولا يرى حرجًا في فعله، المهم أن يقضيَ حاجتَه وشهوتَه، ولكن ما يَعْقُب ذلك لا يفكر فيه ولا يتذكره؛ لأنه يعيش في غَفْلَةٍ وموتٍ للقلب والله المستعان! جاء في الأثر عن أمير المؤمنين عمرَ -رضي اللهُ عنه-: "وَمَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ!" [8].
وقِلَّةُ الحياءِ، وموتُ القَلْبِ معدودانِ من علامات الشَّقاء والتَّعاسة في الحياة الدنيا! قال الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ: "خمسٌ من علاماتِ الشقاءِ: القسوةُ في القلب، وجمودُ العين، وقِلَّةُ الحياء، والرغبةُ في الدنيا، وطُولُ الأمل"([9]).
ومن الخذلان الذي يُصيبُ من قلَّ حياؤه، أو انفسخ عن خُلُق الحياءِ ومات قلبُه: مجاهرتُه وتفاخُرُه بمعصيته لخالقه -جَلَّ جلاله- نسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ!
إذا لـم تخـــشَ عاقبــةَ الليـــــالي .. ولـم تستــحِ فافعــلْ ما تشـــاءُ
فــلا واللهِ مـا في العَيْشِ خَيْرٌ .. ولا الـــــدُّنْيَا إذا ذهـبَ الحَيَــــــاءُ
يعيشُ المرءُ ما استحيا بخيرٍ .. ويبقى العُودُ ما بقي اللِّــــحَاءُ[10]
إن الإنسان إذا قلَّ حياؤه قلَّ احترامُه، وزالتْ مكانتُه، وذهب ماءُ وجه، فأصبح لا قَدْر له ولا وزن، قد ألحقه الناسُ بالبهائم، وأدخلوه في عِدَادِهَا، والعياذ بالله!
إذا قَلَّ ماءُ الوجْهِ قَلَّ حياؤه .. ولا خَيْرَ في وجْهٍ إذا قَلَّ ماؤه[11]
إخوة الإيمان، هيبةُ الناسِ من المؤمن على قَدْرِ هَيْبَتِهِ من الله، وحياءُ الناسِ من المؤمن على قَدْرِ حيائه من الله، وحبُّ الناس للمؤمن على قَدْرِ حُبِّه لله -عزَّ وجَلَّ-[12]، قال زيدُ بنُ عليٍّ: "إني لأستحي من عظمته أن أفضيَ إليه بشيء أَسْتَخْفِيهِ من غيره!"[13].
الله أكبر! لقد كانوا يستحون من الله في السر والعلن، ويخافونه أكثر مما يخافون الناس، ويعملون ألف حساب لخالقهم؛ ولذا نالوا العز والشرف في الدنيا والآخرة، وكساهم اللهُ الهيبةَ والنورَ، وجعل لهم المحبَّةَ في قلوب العباد.
أيها المؤمنون، إذا جُبِلَ الإنسانُ على خُلُقِ الحياء: فوالله إنه لفي نعمةٍ عظيمةٍ، وإذا لم يُجْبَلْ عليه: فعليه بمجاهدةِ نفسَهِ على التَّخَلُّق به، فهو خُلُقٌ يُكْتسبُ كما يقولُ العلماءُ[14].
فهنيئًا ثم هنيئًا لمن جَبَلَهُ اللهُ على هذا الخُلُق، وهنيئًا لمن جاهد نفسَه عليه؛ لأن خُلُقَ الحياء كما يقول الإمامُ القيم: "من أفضل الأخلاق وأجلِّها وأعظمها قدرًا وأكثرها نفعًا، بل هو خَاصَّة الإنسانية، فمن لا حياء فيه: ليس معه من الإنسانية إلا اللَّحْم والدَّم وصورتهم الظَّاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شَيْءٌ"[15].
فاللهَ اللهَ بهذا الخلق الباعث على الأخلاق الحميدة، اللهَ اللهَ به، فإنه لا يأتي إلا بخير، ولا يحمل المسلم إلا على الخير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني اللهُ وإياكم بسنة سيد المرسلين، أقولُ ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب عظيم فاستغفروه، وقد أفلح المستغفرون.
الخطبة الثانية.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا وإمامنا وقرَّة عيوننا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه إلى يوم الدين.
أما بعد، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، والحرص على الاستزادة من العلم النافع، والعمل الصالح في دار العمل قبل الانتقال لدار الحساب حيث الجزاء ولا عمل، قال -عزَّ وجَلَّ-: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[16].
أيها المسلمون، أخرج الإمامُ البخاريُّ في صحيحه، عن أبي مسعود عُقْبَةَ بنِ عمروٍ البَدْريِّ -رضي اللهُ عنه- قال: قال النبي -صلى اللهُ عليه وسلم-: (إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ)[17]، وفي روايةٍ عند أحمدَ في مسنده، وأبي داود، وابنِ ماجه في سننهما: (مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى)[18].
إخوة الإيمان، هذا الحديثُ العظيمُ يدلُّ دلالةً واضحةً على أهمية خُلُقِ الحياءِ، فرسولُنَا -صلى اللهُ عليه وسلم- يُخْبِرُنَا أنَّه لم يأتِ نبيٌّ قبل بعثته -صلى اللهُ عليه وسلم- إلا وقد نُدِبَ إلى هذا الخُلُق العظيم، فهو خُلُقٌ ثابتٌ منذُ زمان النبوة الأولى[19]، و"لم يُنْسَخْ فيما نُسِخَ من شرائعهم، ولم يبدلْ فيما بُدِّلَ منها؛ وذلك أنه أمرٌ قد عُلِمَ صوابُه، وبان فضلُه، واتفقت العقولُ على حُسْنِهِ، وما كان هذا صفتُه لم يَجُزْ عليه النَّسْخُ والتبديلُ"[20].
فهكذا كان أنبياءُ الله يُنْدبون إلى هذا الخُلُق العظيم، وهكذا عَلَّمنا نبيُنا -صلى اللهُ عليه وسلم- وأخبرنا أنَّ الحياءَ من الإيمان، وأنَّه لا يأتي إلا بخيرٍ، وهكذا ينبغي أن نُذكِّرَ أنفسنا بهذا الخُلُقِ الرفيعِ، ونوصي به الناسَ ومن نعول.
نداءٌ عباد الله، نداءٌ أوجهه إلى الآباء والأمهات، نداءٌ أوجهه إلى المعلمين والمعلمات وأقول: يا أيها الأب، ويا أيتها الأم، أنتما النَّواة الأولى لنشر خُلُقِ الحياءِ في نفوس أولادكم بالقدوة الحسنة، أنتما الأصل في غرس هذه القيمة العظيمة في قلوب أولادكم، عليكما بالجِدِّ والاجتهاد في تربية أولادكم على خُلُقِ الحياءِ منذُ نعومة أظفارهم، وبيان جماله وآثاره، فهو الأساس لجلب كُلِّ فضيلة، وهو الوقاية من كُلِّ رذيلة.
أيها المعلمون، وأيتها المعلمات، دوركم مهمٌّ في إشاعةِ خُلُقِ الحياءِ، وتوعيةِ من تُعَلِّمون بأهميته ومكانته وأثره على الفرد والمجتمع، فنحن قد أودعنا أولادنا عندكم، ونعلم أن الأمانةَ ثقيلةٌ، والعبءَ عظيمٌ عليكم، وحسبُنا أنكم أهلٌ للتربيةِ والتعليمِ وغرسِ كُلِّ ما هو مفيد في نفوس أولادنا، فجزاكم اللهُ عنَّا خيرًا، وجزاكم اللهُ على صبركم وتحملكم من أجل تربية وتعليم أولادنا، ويكفيكم شرف حديث رسول الله -صلى اللهُ عليه وسلم- القائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ)[21].
فهنيئًا لكم الدعوات جزاءً لعظيم مهنتكم، وشرف وظيفتكم، لا حرمنا اللهُ، ولا حرم أولادنا خيركم.
عباد الله، صلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة والسلام عليه فقال عزَّ من قائلٍ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[22].
[1] آل عمران (102).
[2] التوبة (119).
[3] صحيح البخاري رقم (6117)، صحيح مسلم رقم (37).
[4] الآداب الشرعية لابن مفلح (2/227)، وينظر فتح الباري لابن حجر (1/52).
[5] أخرجه البخاري في صحيحه رقم (9) واللفظ له، ومسلم في صحيحه رقم (35) حديث أبي هريرة t.
[6] ينظر فتح الباري لابن حجر (1/52).
[7] ينظر فتح الباري لابن حجر (1/52)، والمجالس الوعظية للسفيري (1/365).
[8] شعب الإيمان للبيهقي (7/79).
[9] شعب الإيمان للبيهقي (10/182).
[10] الآداب الشرعية لابن مُفْلح (2/227).
[11] الآداب الشرعية لابن مُفْلح (2/227).
[12] ينظر شعب الإيمان للبيهقي (10/185).
[13] شعب الإيمان للبيهقي (10/186).
[14] ينظر فتح الباري لابن حجر (1/52).
[15] مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/277).
[16] سورة البقرة (281).
[17] صحيح البخاري رقم (3483).
[18] مسند أحمد رقم (17098)، سنن أبي داود رقم (4797)، سنن ابن ماجه رقم (4183).
[19] فتح الباري لابن حجر (6/523).
[20] معالم السنن للخطابي (3/102)، وينظر فتح الباري لابن حجر (6/523).
[21] رواه الترمذيُّ في جامعه رقم (2685) وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ".
[22] سورة الأحزاب (56).
المرفقات
لا-يأتي-إلا-بخيرٍ
لا-يأتي-إلا-بخيرٍ