الحياء في حياتنا
عبدالله حمود الحبيشي
الخطبة الأولى ..
أما بعد .. عباد الله .. كان الكلام في الخطبة الماضية عن خلق الإسلام .. الحياء .. خيرٌ كله ، ولا يأتي إلا بخير ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَان ، وهو رأس الأخلاق .
يقول ابن رجب رحمه الله : فإنه يكف عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق ، ويحث على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها ، فهو من خصال الإيمان بهذا الاعتبار .
الحياء في حياتنا يشمل كل جوانبها الدينية والدنيوية .. لا ينفك المسلم عن خلق الحياء مع نفسه ، أو في جماعة .
فالمسلم الحيي يستحي من الله ، ويستحي من الناس أن يروا عليه تقصيرا أو تأخرا عن الخير ، أو تركا لمعروف .
أتى حذيفة رضي الله عنه الجمعة ، فوجد الناس قد انصرفوا ، فتنكَّب الطريق عن الناس ، وقال : لا خير فيمن لا يستحي من الناس .. وذلك لأن الناس لا يعلمون عذره ، فيستحي أن يراه الناس ويعلموا أنه تخلف عن صلاة الجماعة .. فأين من يجلس عند المساجد ، أو يمر بها والصلاة قائمة وكأن شيء لم يكن .. أين جيران المساجد الذين لا يراهم أهل المسجد إلا نادرا .. قال ابن مسعود رضي الله عنه : من لم يستحِ من الناس لا يستحي من الله .
من عنده خلق الحياء لا يكشف شيء من جسده حياء ، فضلا عن عورته .. في حين أننا نرى ومع كل أسف البعض يمشي بين الناس ببنطال قصير في أحسن أحواله يكون عند الركبة وبعضه يكون فوقها .. فأين الحياء .. إن لم يكن حراما فهو من قلة المروءة ومن العيب .
شمس الدين المقدسي عالم من علماء المسلمين يقول : كنت إذا انكشفت ساقي ، وأنا في خلوتي أبادر إلى سترها مع الاستغفار .
ودخل رجل على الإمام الحميدي رحمه الله وظن أنه أَذن له ، ولم يأذن بعد ، فنظر إليه فرأى طرفاً من فخذه فبكى الإمام الحميدي ، وقال : والله لقد نظرتَ إلى موضع لم ينظره أحد منذ عقلت .
وهذا محمد بن يحي لما وضعوه على السرير يغسلونه بعد موته قالت جارية له : خدمته ثلاثين سنة ، وكنت أضع له الماء ليغتسل فما رأيت ساقه قط ، وأنا ملك له .
كشف الساق جائز ولكن الحياء يمنع البعض عن كشفه ولا نستغرب أو نستعظم ذلك فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك حين غطى ساقه لدخول عثمان رضي الله عنه وقال (أَلَا أَسْتَحِي مِن رَجُلٍ تَسْتَحِي منه المَلَائِكَةُ) .. ويقول صلى الله عليه وسلم (إنَّ مُوسَى كانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لا يُرَى مِن جِلْدِهِ شيءٌ اسْتِحْيَاءً منه) إنه الحياء فعل الكرام ولباس العظماء والأشراف .
الموظف صاحب الحياء على خير .. يستحي أن يراه الناس مقصرا في عمله ، أو مهملا في واجباته ، أو متكاسل في أداء وظيفته .. في الوقت الذي نرى موظفا في دائرة خدمية ، ويأتيه المراجعون وهو جالس على صحيفه أو يتحدث مع هذا وذاك بلا خوف من رقيب ولا حياء من الناس .. ناهيكم عن خيانة الأمانة والخروج قبل الوقت والتأخر في الحضور ، وسوء التعامل مع المراجعين ، غاب الحياء عنه فغاب الخير .
إن كان الحياء خير كله فقله الحياء شر وبلاء على صاحبه وعلى من حوله .. التاجر إذا فقد الحياء فقد الأمانة ، وعمت الخيانة ، واستهان بأكل المال بالباطل ، فسلعته الغش ، وبضاعته الكذب ، الحلال ما حل في يده .. أما التاجر الحيي يستحي من الناس لأنه يستحي من الله .. حريصٌ كل الحرص على سمعته ، لا يبيع دينه بعرض من الدنيا مهما كثر .. فحياؤه يمنعه ، وصدق من قال الحياء لا يأتي إلا بخير.
امْرَأَتَانِ في مكة كافرتين تعيشان عيشه الجاهلية التي يَذُمها الجميع كانتا تطوفان عند الكعبة وعند الأصنام تعظيما لها .. فأسمعهم أبو ذر كلاما بذيئا دون أن يكني فماذا فعلتا .. فَانْطَلَقَتَا تُوَلْوِلَانِ ، حياء.. لا ينقضي العجب .. على الكفر وفي الجاهلية والشرك ومع هذا انطلقتا تولولان حياء مما سمعا .. فَاسْتَقْبَلَهُما رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَهُما هَابِطَانِ، قالَ: ما لَكُمَا؟ قالَتَا: الصَّابِئُ بيْنَ الكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا، قالَ : ما قالَ لَكُمَا؟ قالَتَا: إنَّه قالَ لَنَا كَلِمَةً تَمْلأُ الفَمَ .. ما أجملها من كلمة ، تعبر عن قمة الحياء ، وتبين المعنى .. الحياء زينة وجمال ليس لأهل الإسلام فقط بل لكل من اتصف به .
الحياء عند الآباء والأمهات يزيدهم حرصا إلى حرصهم واهتماما لاهتمامهم بأن يكون أبناؤهم خير الابناء وأصلحهم .. يحفظون الأبناء مما يعيب ويشين فضلا عن الحرام والفساد .. الأب الحيي يستحي أن يرى الناس أبناءه أو بناته على أمر منكر أو على معصية .. وفي مقابل ذلك من عُدم الحياء يشتكي الناس من سوء ابنائه وإيذائهم ، وتظهر بناته بغير ستر ولا حجاب ، وحق له أن يفعل ما يشاء لأنه لا يستحي نسأل الله العافية والسلام .
عباد الله .. يقول صلى الله عليه وسلم (كُلُّ أُمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرِينَ، وإنَّ مِنَ المُجاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وقدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عليه، فَيَقُولَ: يا فُلانُ، عَمِلْتُ البارِحَةَ كَذا وكَذا، وقدْ باتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عنْه) .
إنهم عصاة ولكن فرق بينهم الحياء ، فهذا عاصٍ فيه حياء يستحي أن يراه الناس على معصيته فهو يستتر منهم ليس نفاقا ولا رياء بل حياء .. ومن لا يستحي من الناس لا يستحي من الله .. فهذا حري أن يعافيه الله إما من المعصية أو من عقاب المعصية .. كل ذلك بسبب الحياء .. وعكسه عاصٍ بلا حياء كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم يبيت يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه .. ومن قلة الحياء ما نسمعه ممن يتحدثون عن منكرات فعلوها أو أعمال ارتكبوها .. بل منهم من يعدها من المفاخر .. مات حياؤه فمات قلبه .
امْرَأَةً مِنَ الأنْصارِ قالَتْ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : كيفَ أغْتَسِلُ مِنَ المَحِيضِ؟ فأجابها .. فلم تفهم ، فأجابها .. ثُمَّ إنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اسْتَحْيا، فأعْرَضَ بوَجْهِهِ .. تقول عائشة رضي الله عنها فأخَذْتُها فَجَذَبْتُها، فأخْبَرْتُها بما يُرِيدُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
موقف يشع حياء .. وهو درس للمفتين والمصلحين الاجتماعيين ومن يقدمون الاستشارات الأسرية .. فلا يسترسلوا في الحديث ، ولا يتوسعوا في البيان ، وخاصة مع النساء .. النبي وهو النبي صلى الله عليه وسلم وفي مقام الفتيا وتعليم الدين يستحي أن يصرح أو يوضح ، فما بالكم بغيره وفي قضايا أسرية أو مسائل خاصة .
حياء السائقين وسالكي الطريق .. الحيي من السائقين يستحي أن يؤذي الآخرين في طريقه فلا يُضيق عليهم ، ولا ويتجاوز المنتظمين في السير ليكون الأول فيدخل عليهم عنوه دون خوف من حسيب ، ولا حياء من الناس .. صاحب خلق الحياء لا يصنع ذلك أبدا فحياؤه يمنعه .
وللحياء في حياتنا صور أكثر ومساحة أكبر ، فنسأل الله أن يجملنا بالحياء وأحسن الأخلاق ، ويجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه أقول قولي هذا واستغفر الله .
الخطبة الثانية ..
أما بعد .. عباد الله .. للمرأة مع الحياء شأن وأي شأن .. حتى صارت مضرب المثل في الحياء .. لا سلفعٌ ولا صخابة ، ولا ولاجه ولا خراجه .. بعض النساء وإن كانت مع النساء إلا أن لباسها حشمه ووقار وزينه وستر .. لا تكشف شيء من جسمها في حضرة النساء في الوقت الذي كشفت قليلات الحياء بل عديماته كشفن عن كل أجسادهن إلا قليلا منه ، وكأنهن من وصف النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (صِنْفانِ مِن أهْلِ النَّارِ لَمْ أرَهُما) وذكر منهم (ونِساءٌ كاسِياتٌ عارِياتٌ مُمِيلاتٌ مائِلاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المائِلَةِ، لا يَدْخُلْنَ الجَنَّةَ، ولا يَجِدْنَ رِيحَها، وإنَّ رِيحَها لَيُوجَدُ مِن مَسِيرَةِ كَذا وكَذا) ومع كل أسف وقع شيء من ذلك ، وسألوا إن شئتم نساءكم إذا رجعتم بعد الخطبة ليحدثوكم عما يزعج ويؤذي .. وعندها يحق لكم أن تفخروا بنسائكم الحييات المتسترات العفيفات .. نسأل الله أن يحفظ نساءنا وبناتنا من التفسخ والعري وأن يلبسهم لباس الحياء .
المرأة الحيية لا تقبل أن ينكشف أو يظهر شيء من جسمها أمام الناس .. واسمعوا لهذا الخبر .. فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها مهمومه .. هل تعلمون من أي شيء .. تقول لأسماء بنت عميس إني قد استقبحت ما يُصنع بالنساء يُطرح على المرأة الثوب فيصفها -تقصد إذا ماتت وحُملت على النعش يوضع عليها عباءة فهذه العباءة قد تصف شيء من الجسد وهي ميته- فقالت أسماء : يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أريك شيئا رأيته بأرض الحبشة ، فدعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت عليها ثوبا فقالت فاطمة ما أحسن هذا تُعرف به المرأة من الرجل فإذا أنا مت فاغسليني أنت وعلي ولا يدخل علي أحد .. إنه الحياء والعفة والستر ..
فلنتقي الله عباد الله ولنحرص على خلق الحياء سلوكاً ومنهجاً وتربية، وواقعاً نعيش عليه ، وعلينا أن نُربي أبناءنا وبناتنا منذُ الصغر على هذا الخُلق الأصيل .. فيربى الأبناء على العيب .. نعم على العيب والأنفة والترفع عن الدنايا ..
فالصغير يقال له : هذا عيب ، هذا لا يليق ، أيتها البنت استتري ، غطِّ ساقك ، غطي ركبتك ، فضلاً عما هو فوق ذلك ، فتجد هذا الصغير سواء كان ذكراً ، أو أنثى إذا انكشف ساقه ، أو انكشفت ركبته بادر إلى سترها ، وتغير وجهه ، ولربما صدرت منه بعض الحركات التي تنبئ عن امتعاضه لانكشاف هذا العضو الذي قد تعود أنه من الخطأ والعيب أن ينكشف أمام أنظار الآخرين ، بمثل هذا ينمى الحياء ..
اللهم أهدنا لأَحْسَنِ الأخْلَاقِ لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ ، وَاصْرِفْ عَنِّا سَيِّئَهَا لا يَصْرِفُ عَنِّا سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ .
اللهم أرزقنا الحياء وجملنا به .