الحِكَم من إنزال القرآن على سبعة أحرف, وكيف وصلت إلينا القراءات, وما معنى قراءة فلان؟

أحمد بن ناصر الطيار
1437/08/11 - 2016/05/18 07:19AM
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله معاشر المسلمين, واعملوا أنّ القراءاتِ المتواترةَ وحيٌ من الله, مشتملةٌ على الأحرف السبعة التي لم تُنسخ تلاوتها, نقلها الصحابةُ عن النبي صلى الله عليه وسلم مشافهةً وتَلْقِيْنًا.
والأحرف السبعة قرآنٌ منزل من الله تعالى, والله تعالى أخبر - ومن أصدق من الله قيلا-, بأنه قد حفظه, قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.

وهناك حِكَمٌ كثيرةٌ من الأحرف السبعة, منها: التخفيف على الناس, والدليل على ذلك ما ثبت عن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ». متفق عليه
فهذا نصٌّ صريحٌ على أنّ الحكمة من الأحرف السبعة التيسيرُ والتخفيف على الناس, بل إنه أخبر بأنّ أمته لا تُطيق القراءة بحرف واحد, ولا يُتصوّر ذلك إلا في اختلاف النطق بالكلمات.
فما أعظم هذه الشريعة السمحة! وما أرحم هذا النبي الكريم! أبى إلا أنْ يُوسّع على أمَّتِه حتى في طريقة قراءتهم للقرآن, وجعل له أوجهًا تُنساب لهجاتهم وما اعتادوا عليه في النطق!
فأيّ سماحةٍ وتيسيرٍ أعظم من هذا.
قال ابن الجزري رحمه الله: كَانَتِ الْعَرَبُ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهُمْ: لُغَاتُهُمْ مُخْتَلِفَةً, وَأَلْسِنَتُهُمْ شَتَّى, وَيَعْسُرُ عَلَى أَحَدِهِمُ الِانْتِقَالُ مِنْ لُغَتِهِ إِلَى غَيْرِهَا، أَوْ مِنْ حَرْفٍ إِلَى آخَرَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا بِالتَّعْلِيمِ وَالْعِلَاجِ، لَا سِيَّمَا الشَّيْخُ وَالْمَرْأَةُ، فَلَوْ كُلِّفُوا الْعُدُولَ عَنْ لُغَتِهِمْ وَالِانْتِقَالَ عَنْ أَلْسِنَتِهِمْ: لَكَانَ مِنَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ، وَمَا عَسَى أَنْ يَتَكَلَّفَ الْمُتَكَلِّفُ وَتَأْبَى الطِّبَاعُ! ا.ه
ومن الحكم كذلك: إظهارُ عظمةِ القرآن؛ حيث تتنوع القراءات, ولا يُؤدي ذلك إلى التعارض والتناقض.
ومن الحكم كذلك: إظهار بلاغةِ القرآن؛ وذلك أنه يأتي بكلمةٍ واحدة تُؤدي أكثر من معنى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْحُرُوفَ السَّبْعَةَ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا: لَا تَتَضَمَّنُ تَنَاقُضَ الْمَعْنَى وَتَضَادَّهُ , وَكُلُّ قِرَاءَةٍ مِنْهَا مَعَ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ مَعَ الْآيَةِ, يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا كُلِّهَا, وَاتِّبَاعُ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْمَعْنَى عِلْمًا وَعَمَلًا. ا.ه

والقراءات العشر وغيرها, عبارةٌ عن اختيارات القراء المتقنين المشهورين لبعض الأحرف, فقد تكون في قراءتِهم الأحرفُ السبعةُ كلُّها أو بعضُها.
واختيارُهم لا يعني أنهم انفردوا بها عن غيرهم من القراء, بل هي مشهورةٌ عندهم, قرأ بها أشياخهم والناس في بلادهم, ولكن قد لا يكون غيرُهم في البلدان الأخرى يقرؤون بها.
"وكلُّ قراءةٍ نُسبت إلى قارئ من هؤلاء, كان قُرَّاؤُها زمن قارئها وقبله, أكثر من قُرَّائِها في هذا الزمان وأضعافهم".

وأضرب مثالاً لأحد مشاهير القراء: وهو حفص, الذي اعْتمدتْ أغلب البلاد الإسلامية قراءتَه, ولو فتحنا أول المصحف لرأينا اسْمه عليه, فَإِنَّهُ أخذ القراءة عن عاصم بن أبي النجودِ, التابعي الجليل, وعاصمٌ قَرَأَ عَلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ التابعيّ الكبير، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ عاصم: فكنت أَرْجِعُ مِنْ عِنْدِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ, فَأَقْرَأُ عَلَى زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ زِرٌّ قَدْ قَرَأَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ, الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ".
وعاصمٌ اشْتُهر في زمانه بالأمانة والإتقان وعلوّ السند, حيث أخذ القرآن مُشافهةً عن الصحابة وكبار التابعين, فلما ذاع صيتُه, وثبتت أمانتُه, وقوي إتقانُه, أقبلت الأمة في وقته يقرؤون عليه, وكثر تلاميذُه, وانتشروا في أصقاع الأرض, وأقرؤوا الناس بقراءته.
وهكذا بقيّةُ القراء العشرة, أخذوا قراءتهم مُشافهةً عن التابعين أو تابعيهم, وأفنوا حياتهم مع القرآن تعلُّمًا وتعليمًا, ثم اشْتهروا وارتفعوا, وأخذ الناس عنهم جيلاً بعد جيل إلى يومنا هذا, ولا يُجاز القارِئُ حتى يأخذ القرآن من الشيخ, الذي أخذ هو القرآن بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فالقراءةُ التي نُسبت إلى حفصٍ أو غيرِه, لا يعني أنه انفرد واختص بها عن سائر الناس, بل إنما نُسبت إليه لكونه كان من أعلم الناس وأتقنهم.
وإذا قيل: بأن هذا القول في الفقه هو قول الإمام أحمد, لا يعني ذلك بأنّ هذا القول قد انفرد به عن سائر الأمة, بل كان يقول: لا تقل في مسألةٍ بقولٍ ليس لك فيه سلف.
فقراءة القراء هي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ومن بعدهم إلى يومنا هذا.


بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...


الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامْتنانه, وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشأنه, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه (صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه) وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: أمة الإسلام: إنّ القراء من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا, اعتمدوا في حفظ القرآن وضبطِه على التلقّي من أفواه المشايخ, لا على المصاحف المكتوبة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: الصَّحَابَةُ لَمَّا كَتَبُوا الْمَصَاحِفَ كَتَبُوهَا غَيْرَ مَشْكُولَةٍ وَلَا مَنْقُوطَةٍ ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى حِفْظِهِ فِي صُدُورِهِمْ لَا عَلَى الْمَصَاحِفِ, وَهُوَ مَنْقُولٌ بِالتَّوَاتُرِ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ , لَوْ عُدِمَتْ الْمَصَاحِفُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهَا حَاجَةٌ, فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسُوا كَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَعْتَمِدُونَ عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي تَقْبَلُ التَّغَيُّرَ, وَاَللَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ فَتَلَقَّاهُ تَلَقِّيًا, وَحَفِظَهُ فِي قَلْبِهِ, لَمْ يُنَزِّلْهُ مَكْتُوبًا كَالتَّوْرَاةِ, وَأَنْزَلَهُ مُفَرَّقًا لِيُحْفَظَ, فَلَا يَحْتَاجُ إلَى كِتَابٍ.. ا.ه
ولذلك قال السلف: القراءة سنة, - أي طريقةٌ مُتَّبعة- يأخذها الآخر عن الأول, فاقرؤوا كما علمتموه.
قيل لأبي عمرو البصريّ رحمه الله, وهو أحد القراء السبعة: أكلما قرأتَ به سمعتَه؟ قال: لو لم أسمعه من الثقات لم أقرأ به؛ لأن القراءة سنّة.
يعني أنّ القراءة التي أخذها الناس عنه, المشتملةَ على المدود والإمالات والإدغامات والغُنن وغيرها, لم يتصرف فيها بمقدار أنملة, إنما أدَّاها كما سمعها من أفواه التابعين, والتابعون تلقّوها عن الصحابة, الذين أخذوها من فيِّ النبي صلى الله عليه وسلم, وهو أخذها عن جبريل الأمين, وجبريل أخذها عن رب العالمين.
وقال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: القراءة سنّة تُؤخذ من أفواه الرجال، فكن متّبعا ولا تكن مبتدعًا.

فهل يستريبُ أحدٌ بعدَ هذا, أنّ القراءاتِ إنما هي من مِشْكاةِ النبي صلى الله عليه وسلم, علّمها وأقرأها أصحابَه, ثم نقلها الكثير من الصحابةِ للتابعين, عن طريق حلق القرآن, التي انتشرت في المدينة ومكة, والكوفة والبصرة والشام وغيرها من بلاد الإسلام, وهكذا نُقلت إلينا عبر هذه السلسلة الصحيحة المتواترة؟

وقد قال بعضُ الناس, إنّ كيفيات الأداء مثل تليين الهمزة، ومثل الإمالة والإدغام، هي مما يسوغُ للصحابة أن يقرؤُوا فيها بلغاتهم، لا يجب أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلفَّظ بهذه الوجوه المتنوعة كلها.
وهذا لا شكّ في بطلانِه, إذ هل يُظنّ بالصحابة الكرام أنْ يسمعوا القرآن من نبيهم غضًّا طريًّا, ثم يتعمّدوا قراءته على غير ما سمعوه وتلَقَّوه منه؟
لا والله, لا يجوز أنْ نظن بهم هذا.
فلك أنْ تتصور صحابيًّا مُتَّبعًا لحبيبه في كلّ صغيرةٍ وكبيرة, يسمعُه يقرأُ بتفخيم الراء, أو بإدغامٍ أو بإخفاءٍ, أو بمدٍّ أو قصر ثم يُخالف ما سمعه, ويقرؤه حسب ما اعتاد عليه؟ حاشاهم من ذلك, وحاشا مُسْلمًا أنْ يَنْسِبَ ذلك لهم.

واعلموا - معاشر المسلمين - أنّه لا خلاف بين العلماء المعتبرين, أنَّ الأحرف السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ القرآن أُنزل عليها, ليست هي قراءات القراء السبعة المشهورة.
نسأل الله تعالى أنْ يرفعنا بالعلم, ويُثبتنا بالعمل به, إنه سميع قريب مجيب.
المشاهدات 1016 | التعليقات 0