الحكمة .. معناها وفضلها
عبدالله حمود الحبيشي
الحكمة .. معناها وفضلها*
* خطبة للشيخ عبدالباري الثبيتي مع تصرف يسير
عباد الله .. يقول تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) .
خيرٌ كثير لمن رزقه الله الحكمة .. الحكمة كلها خير ، ولا تأتي إلا بخير ، ولم يأت ذكرها على وجه الذم قط ، لا في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا في كلام السابقين .
وما ظُلِمَتْ كلمة مثل الحكمة باسم الحكمة ؛ فكم أساء فهمها الكثير، حتى صارت مركباً سهلاً لكل من صعب عليه التزام المنهج، أو لاحت أمامه المكاسب الدنيوية والمصالح الشخصية فصار شعاره الحكمة ، باتباع اللين في كل أمر ، ومجاراة الأمر الواقع ، وربما التنازل عن المبادئ ، والخجل من التزام الشرائع ، والتشنيع على كل من يلتزمها . والخطورة تكمن في محاولة هؤلاء المتخاذلين المنهزمين طمس معالم المنهج الصحيح ، وإحلال منهجهم ذي الحكمة المترهلة العجينة المزيفة .
الحكمة التي فيها الخير الكثير والتي هي منحة من الله هي علمٌ نافعٌ ، وفقهٌ في الدين ، وقولٌ صائِبٌ ، وعقلٌ مُسدَّد .
هي حُسنُ تدبيرٍ ، وجودةُ ذهنٍ ، ورأي ثاقب .
الاتِّصافُ بالحِكمة ، وتمثُّل معانِيها مطلبٌ أسمَى يسعَى إليه العُقلاء.
الحكيمُ يجعلُ الأمورَ في نِصابِها ، يُقدِمُ في محلِّ الإقدام ، ويُحجِمُ في موضع الإحجام ، يُدرِك العِلل والغايات ببصيرةٍ مُستنيرةٍ .
سِمةُ الحُكماء: تفكيرٌ مُعتدلٌ، ووعيٌ نيِّرٌ، وعاطفةٌ مُنضبِطةٌ ، وحماسٌ مُتَّزِنٌ .
يَعرِفُ الحكيمُ قدرَ نفسِه لا يرفعُها فوق حقيقتها ، فهذا كِبرٌ وغرورٌ . ولا يُنزِلُها عن واقِعها ، وفي ذلك احتقارٌ وإذلالٌ .
الحكيمُ يُنزِلُ الناسَ منازِلَهم ، ويعرِفُ قدرَهم ، ويعذُرُهم ، ويُشفِقُ عليهم ، ويُؤازِرُهم .
ومن أخلصَ لله قلبَه انبعَثَت الحكمةُ من أقواله وأفعاله ، وسدَّد الله لسانَه ، وبصَّره عيوبَ الدنيا داءَها ودواءَها .
وإذا تخبَّط بعضُهم في موضع الفِتَن ؛ فإن أهل الصدق والإخلاص يهدِيهم ربُّهم بإيمانهم ، ويُظهِرُ الحقَّ في مواقِفِهم ، وتنطِقُ به ألسِنتُهم .
الحكمةُ لا يُمكن أن تتشكَّل إلا في إطار الكتاب ونُور السنَّة ، وقِيَم الإسلام .
اتَّصَف ربُّنا بالحكمة ، ونبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم مُلِئَ قلبُه حكمة ، ومهمتُه تعليم الحكمة ، وأعمالُه كلُّها مُلازِمةٌ للحكمةِ في أكملِ صُورِها .
نقرَ رجلٌ صلاتَه فأمرَه أن يُعيدَها ، وارتَقَى الحسينُ ظهرَه في الصلاة فتركَه ، ووقَّع صُلحَ الحُديبية ، وأحلَّ دمَ من هجا المسلمين ، وقال «وايْمُ الله! لو أن فاطمةَ بنت محمدٍ سرَقَت لقطَعتُ يدَها» .
فالحكمةُ لينٌ في مكان اللِّين، وشِدَّةٌ في موضِع الشدَّة.
كان النبي صلى الله عليه وسلم حكيمًا في تعامُلِه مع أصحابِه ومُراعاة أحوالِهم ؛ فيُجيبُ السائلَ مُراعاةً لحالِه وحسب قُدراته وإمكاناته .
جاءَه أعرابيٌّ سائلاً عن الفرائض، فأجابَه بالفرائض فقال: هل عليَّ غيرُها؟ قال «لا، إلا أن تطوَّع».
صبرَ على المُنافِقين حتى توفَّاه الله ، مع التحذير منهم وإبراز صِفاتِهم .
حرِصَ على وحدة الصفِّ مع عدم السُّكوت على الباطِلِ .
ومن حكمةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : تعامُلُه مع الشابِّ الذي جاء يستأذِنُه في الزِّنَا ، فلم يُوبِّخه ولم ينهَره ، بل جادلَه بالتي هي أحسن ، خاطبَ عقلَه وضميرَه وعاطفتَه ، حتى انصرفَ الشابُّ بحالٍ غير التي قدِمَ بها .
وحكمتُه صلى الله عليه وسلم تتجلَّى في الدعوة ؛ حيث بدأ بالإصلاح والبلاغ ، وبناء المسجد، والمُؤاخاة ، والصبر على الأذى، وتحمُّل مشاقِّ الدعوة في سبيل الله .
ومن حكمتِه : أسلوبُه الرَّصِين في تعامُلِه ومواقِفِه مع صنادِيد قُريش ورُؤوس الكفر والضلال .
وتبرُزُ حكمةُ أبي بكرٍ رضي الله عنه حين اشتدَّ الأمرُ على الصحابة عقِبَ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرَها بعضُهم ، فكان موقف أبي بكرٍ رضي الله عنه تثبيتَ الناس ، وتوضيحَ الحقِّ لهم .
ثم أعقبَتها حكمةُ عُمر رضي الله عنه الذي ثبَّت الناسَ على بيعة أبي بكرٍ رضي الله عنهم أجمعين ، واجتمعَت كلمةُ المُسلمين على ذلك .
وقبل ذلك أعلن عُمر رضي الله عنه إسلامَه وأظهرَه . وفي هذا حكمةٌ وقوَّةٌ للمُسلمين ، حين تمكَّن المُسلمون من الصلاة بالمسجِد الحرام .
ولُقمان كان حكيمًا في مُخاطبته لابنِه بأسلوبٍ حسنٍ ، ولفظٍ هادِئٍ ، وكلمةٍ مُشفِقة ، فيما حكاه الله تعالى عنه (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) .
موعظةٌ جمعَت أصولَ العلم ، وفروعَ الموعظة ، والاعتقاد ، والأمر والنهي بلا شَطَطٍ ولا تكلُّف .
وكان الإمام أحمد رحمه الله حكيمًا في مِحنة خلقِ القرآن بثبَاتِه على كلمة الحقِّ ، وتحمُّل الأذَى ، وكان يقولُ : إذا كان العالِمُ يقولُ تقيَّةً، والجاهلُ يجهل ؛ فمتى يتبيَّن الحقُّ؟! .
ومن الحِكمة : ترتيبُ الأولويات، والأهمّ على المُهمِّ ، فالعقيدةُ ثم العبادة والأخلاق .. الفروضُ تُقدَّم على النوافِل، والمصالِحُ العامَّةُ على المصالِح الخاصَّة عند التعارُضِ ، كما يُقدَّم درءُ المفسَدة على جلبِ المصلَحة .. والتدرُّج في تطبيقِ الأولويات حكمةٌ وعقلٌ ؛ فقد كان تنزُّلُ القرآن مُنجَّمًا ومُفرَّقًا.
ومن الحكمة : أن نُفرِّق في المواقِف بين حال القوَّة والضعف ، والسِّلم والحربِ ، وقد تركَ النبي صلى الله عليه وسلم إعادة بناء الكعبة على ما كانت عليه زمن إبراهيم عليه السلام خشيةَ الفِتنة ، ولقُرب عهد الناسِ بالإسلام .
تكون الموعِظةُ الحسنةُ حكمةً لمن أقبلَ على الحق واعترفَ به ، والجِدالُ بالتي هي أحسنُ حكمةٌ لهداية الخلق والباحث عن الحقِّ ، وقد تكون الحكمةُ كلامًا قويًّا ، وتأديبًا ، وإقامةً للحدود لمن ملَكَ السُّلطةَ والولايةَ في حقِّ من عانَدَ وطغَى وتجبَّر .
والتِزامُ الوسطيَّة وعدم الجُنوح إلى الإفراط والتفريط في المواقِف والآراء عينُ الحكمة وجوهرُها .
وحين تتحكَّم العاطِفة ، وينفرط عِقدُ الحماس ؛ تغيبُ الحكمةُ وينشأُ الإفراطُ أو التفريطُ .
ويفقِدُ المرءُ مسارَ الحكمة حين يُسيطِرُ عليه الهوَى والجهلُ ، قال الله تعالى (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) .
ويبعد عن الحكمة من عاش حياته منفردا مُنعزِلاً عن أهل العلمِ والرأيِ والحكمة ، قال صلى الله عليه وسلم «فإنما يأكلُ الذئبُ القاصِيَة» .
كما ينحرِفُ المرءُ عن مسالِكِ الحكمة حين يتعاملُ مع المواقِف بالعجلَة ، وسُرعة الغضب والانفِعال ، أو تختلِطُ عليه الأحداث ، ولا يتصوَّرُها بمنظورها الصحيح أو يغفُلُ عن مكائِد الأعداء .
ومن الحكمة : التثبُّت والتأنِّي عند وُرود الإشاعات والأراجِيف ، قفَى المنهج الربَّاني (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) .
ولهذا قال الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) ، فالاستخفافُ من خوارِم الحكمة .
وبعد أن أمر الله بالتبيُّن قال (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) أي : لو أن الرسولَ صلى الله عليه وسلم استجابَ لما يُريدون دون تثبُّتٍ ولا روِيَّة لأصابَهم العنَتُ والمشقَّة .
نسأل الله أن يرزقنا الحكمة وحسن البصيرة والإخلاص ، ويجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه أقول قولي هذا واستغفر الله ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية ..
أما بعد:
فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .
تتأكَّدُ الحكمةُ في الأُسرة بمُراعاة أحكام الإسلام ، وتضييقِ كل أشكال الخِلاف والتنازُع الأُسريِّ، وعدم إثارتِه وتصعِيدِه ، ومُواجَهة المُشكِلات بوعيٍ وبصيرةٍ ، وبُعدِ نظرٍ ، وأناةٍ ، لتظلَّ بيوتُنا صامِدةً قويَّةً ، شامِخةً نقيَّةً .. وفق كتاب الله القائل (وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا) وبما جاء به الهدي النبي بقوله عليه الصلاة والسلام (إِنَّ المرأةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ ، لَنْ تستقيمَ لَكَ علَى طريقَةٍ ، فإِنَّ استمْتَعْتَ بِها استمتعْتَ بِها وبِها عِوَجٌ، وإِنْ ذهبْتَ تقيمُها كسرْتَهَا ، وكسرُها طلاقُها) وفي حديثٍ (فدارِها تَعِشْ بِها) .
والحكمةُ تقتَضِي حُسن التصرُّف في المال، قال الله تعالى (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) .
والعملُ الجادُّ واستِثمارُ المرء لقُدراته ومواهِبِه حكمة ؛ فاليدُ العُليا خيرٌ من اليد السُّفلَى ، والمُؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المُؤمن الضعيف .
ومن الحكمة : التوظيفُ الصحيحُ للأجهزة الحديثة ، والتعامُلُ الرَّشيدُ معها ؛ بتحديد ساعات الجُلوس ، ونوعيَّة المواقِع ، وطبيعة البرامِج، للإفادة من أطايِب ثِمارها ، ولنبنِيَ سِياجًا واقيًا لدينِنا وأولادِنا وقِيَمنا من أخطارِها المُحدِقة ، ونِيرانها المُتأجِّجة .
عباد الله .. وتُنمَّى الحكمةُ بالتفكُّر الذي هو من أعظم العبادات، كما تُخرَسُ الحكمة بفُضول الطعام الذي يقتُلُ الفِكرة، ويُكسِّل الأعضاء.
قال الشافعيُّ رحمه الله : الشَّبعُ يُثقِلُ البدن، ويُزيلُ الفِطنة، ويجلِبُ النوم، ويُضعِفُ صاحبَه عن العبادة .
ومن الرَّشاد ورَجاحَة العقل وحصَافَة الرأي : مُجالسة أهل الحكمة ، أهل البرِّ والتُّقَى والمروءة والنُّهَى ، والعلم والأدب والفقهِ ، قال الله تعالى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) .