الحقيقة الغائبة
عاصم بن محمد الغامدي
1438/06/25 - 2017/03/24 07:40AM
[align=justify]الحمد لله الذي غمر العباد بلطائفه وعمر قلوبهم بأنوار الدين ووظائفه، سبحانه ما أعظم شأنه وأقوى سلطانه وأتم لطفه وأعم إحسانه والصلاة على محمد نبيه المصطفى ووليه المجتبى وعلى آله وأصحابه مفاتيح الهدى ومصابيح الدجى، ومن سار إلى يوم الدين على سنته واقتفى، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فاتقوه وراقبوه، وتوبوا إليه ولا تعصوه، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}.
عباد الله:
هلموا بنا إلى جلسةِ مصارحةٍ، نذكِّر بها أنفسنا، ونوقظ بها غفلتنا.
يقول الله جل جلاله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَبَّعًا وَخَطَّ فِي وَسَطِه خَطًّا وَخَطَّ خَارِجًا مِنه خَطًّا وَحَوْلَ الخطِّ الَّذِي فِي الوَسَطِ خُطُوطًا فَقَالَ: «هَذَا ابْنُ آدَمَ وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي فِي الوَسَطِ الإِنْسَانُ، وَهَذِهِ الخُطُوطُ عُرُوضُهُ إِنْ نَجَا مِنْ هَذَا يَنْهَشُهُ هَذَا، وَالخَطُّ الخَارِجُ الأَمَلُ». [رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني].
في زحمةِ الحياةِ نسينَا حقيقةَ الموتِ.
نُؤَمِّلُ آمَالاً وَنَرْجُو نَتَاجَهَا
وإنَّ الرَّدَى مِمَّا نُرَجِّيهِ أقْرَبُ
وَنَبني القُصُورَ المُشْمَخِرَّاتِ في الهَوَى
وفي عِلْمِنَا أَنَّا نَمُوتُ وَتَخْرَبُ
كم شخصًا منَّا إذا خرج من منزله وضع احتمالاً أنه لن يرجع إليه؟
أو جاء في ذهنه أنه لن يخرج من هذا المسجد إلا محمولاً وأن هذه آخرُ صلاةٍ يصليها؟
أو أنه سيكون آخِرَ هذا اليومِ في عالَمٍ آخرَ غيرِ عالَمِنا؟
نرى الناس من حولنا يسبق إليهم الموت، ونغفل عن حقيقة لحاقه بنا.
وكم فاجأنا خبرُ وفاة صديقٍ أو قريبٍ، ما كنَّا نتصور قرب الموت منه، ثم ما نلبث أن نعود إلى ما كنا عليه من الغفلة وطول الأمل.
عباد الله:
إننا بحاجة إلى الإكثار من ذكر هذه الحقيقة، التي قد تحجبها ستائر الغفلة، فإن تذكرها له أثر على القلوبِ والأعمال، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ». [رواه ابن ماجه وقال الألباني: حسن صحيح].
شابٌ في الثامنةَ عشر تقريبًا، ذهب برفقة صاحب له إلى نزهة في الطائف، وأثناء عودتهم لمكة وقع عليهم حادث قضى فيه نحبه رحمه الله.
وزوجة تعيش مع زوجها وأولادها، تصاب فجأة بحمى لم يعرف الأطباء سببها ولا علاجها، وتموت بعد عشرة أيام رحمها الله، في صدمة لكل المحيطين بها.
وكم شخصٍ نامَ على فراشه وما استيقظ، وكم من منزل بناه صاحبه ولم ينزل فيه، وكم من عروس زينوها ولم يزفوها، وكم من طالب تخرَّج ولم يستلم وثيقته؟
عَنِ الْبَرَاءِ رضيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ، فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَبَكَى، حَتَّى بَلَّ الثَّرَى، ثُمَّ قَالَ: «يَا إِخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا». [رواه ابن ماجه وحسنه الألباني].
ولو كان الموتُ النهايةَ فالأمرُ هيِّنٌ، ولكنه البدايةُ التي يعقبها أمور كثيرة، كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه، إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ يَبْكِي حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَلَا تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ» قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ». [رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني].
هو الموتُ ما منه ملاذٌ ومهربُ
متى حُطَّ ذا عن نعشِه ذاك يركبُ
كم من الأَقْرَانِ مَضَوْا قَبْلَك، أصبحوا بين أهلهم وأمسوا وهم تَحْتَ التُّرَابِ، ألا تتَذَكَّرَ صُوَرَهُمْ فِي مَنَاصِبِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، كَيْفَ مَحَا التُّرَابُ الْآنَ حُسْنَ صُوَرِهِمْ، وَكَيْفَ تَبَدَّدَتْ أَجَزَاؤُهُمْ فِي قُبُورِهِمْ، وَخَلَتْ مِنْهُمْ مَسَاجِدُهُمْ وَمَجَالِسُهُمْ، وَانْقَطَعَتْ آثَارُهُمْ، ثق أنَّنَّا جميعًا مِثْلُهُمْ وَسَيحصل لنا ما حصل لهم.
نظر أحدُ السلف ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى دَارِهِ فَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا ثُمَّ بَكَى وَقَالَ: «وَاللَّهِ لَوْلَا الْمَوْتُ لَكُنْتُ بِكِ مَسْرُورًا، وَلَوْلَا مَا نَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ ضِيقِ الْقُبُورِ لَقَرَّتْ بِالدُّنْيَا أَعْيُنُنَا».
وكان الحسنُ رحمه الله يقول: الْمُبَادرَةَ الْمُبَادرَةَ فَإِنَّمَا هِيَ الْأَنْفَاسُ لَوْ حُبِسَتِ انْقَطَعَتْ عَنْكُمْ أَعْمَالُكُمُ الَّتِي تَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَءًا نَظَرَ إِلَى نَفْسِهِ وَبَكَى عَلَى عَدَدِ ذُنُوبِهِ، ثُمَّ قَرَأَ قوله تعالى: (إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) يَعْنِي الْأَنْفَاسَ، آخِرُ الْعَدَدِ خُرُوجُ نَفْسِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ فِرَاقُ أَهْلِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ دُخُولُكَ فِي قَبْرِكَ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ "، [رواه البخاري]. أَيْ أَنَّهُ لَا يَغْتَنِمُهُمَا، ثُمَّ يَعْرِفُ قَدْرَهُمَا عِنْدَ زَوَالِهِمَا.
أيها المسلمون:
زيارة القبور من المستحباتِ للرجال، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ، فَقَدْ أُذِنَ لِمُحَمَّدٍ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ، فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ». [رواه الترمذي وصححه الألباني].
ففي زيارة القبور تذكر واعتبار، وَالْمَقْصُودُ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِلزَّائِرِ الِاعْتِبَارُ بِهَا، وَلِلْمَزُورِ الِانْتِفَاعُ بِدُعَائِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْفُلَ الزَّائِرُ عَنِ الدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ وَلِلْمَيِّتِ وَلَا عَنِ الِاعْتِبَارِ بِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى الْقُرْبِ سَيَلْحَقُ بِهِ.
عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ، غَدًا مُؤَجَّلُونَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ، بِكُمْ لَاحِقُونَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ». [رواه مسلم].
وَالْمُسْتَحَبُّ للزائرِ أَنْ يقف قريبًا من القبر، ويُسَلِّمَ على صاحبِه، ويسنُّ له أن يخلع نعليه إلا لحاجةٍ كحرٍّ أو شوكٍ، ويحرم عليه السير فوق القبور، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ أَمْشِيَ عَلَى جَمْرَةٍ، أَوْ سَيْفٍ، أَوْ أَخْصِفَ نَعْلِي بِرِجْلِي، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْشِيَ عَلَى قَبْرِ مُسْلِمٍ». [رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
وَمن المنكرات التمسحُ بالقبور، أو السجودُ لها، أو سؤالُ أصحابها، فكل ذلك من الشرك الذي حرَّمه الله تعالى، وقد قرر العلماء رحمهم الله أن كلَّ صلاةٍ في المقبرة ما عدا صلاةِ الجنازة فهي باطلة لا تصح، قال النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بخمس: «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإِنَّ اللهِ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ». [رواه مسلم].
عباد الله:
التوبةُ من الذنوب رأس مال الفائزين، ومفتاح استقامة المائلين، فلا غروَ إن أذنب الآدمي واجترم، فمن أشبه أباه فما ظلم، ولكن الأب جَبَرَ بعد ما كَسَر، وعَمَرَ بعد أن هدم، وقرعَ سنَّ الندم، وتندم على ما سبق منه وتقدم، فمن اتخذه قدوة في الذنب دون التوبة فقد زلت به القدم، جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين.
الخطبة الثانية:
الحمدلله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله:
فإنَّ المرءَ يمرُّ منذ خلقه بأربعِ مراحلَ، مرحلةِ الحمل في الرحم، ومرحلةِ الحياة الدنيا، ومرحلةِ البرزخ، ومرحلةِ الآخرة، ونسبةُ كلِّ مرحلة إلى التي قبلها كنسبة التي بعدها إليها.
والكيِّسُ من دان نفسه، وعملَ لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانيِّ.
ومن أكثرَ ذكر الموت، ظهر أثر ذلك على قلبه وعمله، بالإخلاص لله تعالى في كل أفعاله، والإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والمحافظة على الطاعات كما أمر بها البارئ سبحانه، فالصلاة يؤديها كما أمر في وقتها، والزكاة لا يحجبها ولا ينقصها، والصيام لا يخدشه، والحجُّ لا يؤخره، ويبتعد عن المحرمات، ويستغفر بعد الزلات، ويندم على السيئات، ويكثر من ذكر ربه، والتوبة إليه.
ومن أكثر ذكر الموت احتقر هذه الدنيا، وزهد في متاعها ولذاتها، وعرف أنها قنطرة إلى الدار الآخرة، لا تؤمن عاقبتها، ولا يركن إليها.
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَإِذَا هُوَ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ شَائِلَةٍ بِرِجْلِهَا، فَقَالَ: «أَتُرَوْنَ هَذِهِ هَيِّنَةً عَلَى صَاحِبِهَا؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى صَاحِبِهَا، وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا قَطْرَةً أَبَدًا». [رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
فكونوا يا عباد الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأصلحوا ما بقي من أيامكم، يغفر لكم بإذن الله ما سلف، فالتوبة تجب ما قبلها، وربكم سبحانه غفور رحيم.
ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
[/align]
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فاتقوه وراقبوه، وتوبوا إليه ولا تعصوه، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}.
عباد الله:
هلموا بنا إلى جلسةِ مصارحةٍ، نذكِّر بها أنفسنا، ونوقظ بها غفلتنا.
يقول الله جل جلاله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَبَّعًا وَخَطَّ فِي وَسَطِه خَطًّا وَخَطَّ خَارِجًا مِنه خَطًّا وَحَوْلَ الخطِّ الَّذِي فِي الوَسَطِ خُطُوطًا فَقَالَ: «هَذَا ابْنُ آدَمَ وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي فِي الوَسَطِ الإِنْسَانُ، وَهَذِهِ الخُطُوطُ عُرُوضُهُ إِنْ نَجَا مِنْ هَذَا يَنْهَشُهُ هَذَا، وَالخَطُّ الخَارِجُ الأَمَلُ». [رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني].
في زحمةِ الحياةِ نسينَا حقيقةَ الموتِ.
نُؤَمِّلُ آمَالاً وَنَرْجُو نَتَاجَهَا
وإنَّ الرَّدَى مِمَّا نُرَجِّيهِ أقْرَبُ
وَنَبني القُصُورَ المُشْمَخِرَّاتِ في الهَوَى
وفي عِلْمِنَا أَنَّا نَمُوتُ وَتَخْرَبُ
كم شخصًا منَّا إذا خرج من منزله وضع احتمالاً أنه لن يرجع إليه؟
أو جاء في ذهنه أنه لن يخرج من هذا المسجد إلا محمولاً وأن هذه آخرُ صلاةٍ يصليها؟
أو أنه سيكون آخِرَ هذا اليومِ في عالَمٍ آخرَ غيرِ عالَمِنا؟
نرى الناس من حولنا يسبق إليهم الموت، ونغفل عن حقيقة لحاقه بنا.
وكم فاجأنا خبرُ وفاة صديقٍ أو قريبٍ، ما كنَّا نتصور قرب الموت منه، ثم ما نلبث أن نعود إلى ما كنا عليه من الغفلة وطول الأمل.
عباد الله:
إننا بحاجة إلى الإكثار من ذكر هذه الحقيقة، التي قد تحجبها ستائر الغفلة، فإن تذكرها له أثر على القلوبِ والأعمال، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ». [رواه ابن ماجه وقال الألباني: حسن صحيح].
شابٌ في الثامنةَ عشر تقريبًا، ذهب برفقة صاحب له إلى نزهة في الطائف، وأثناء عودتهم لمكة وقع عليهم حادث قضى فيه نحبه رحمه الله.
وزوجة تعيش مع زوجها وأولادها، تصاب فجأة بحمى لم يعرف الأطباء سببها ولا علاجها، وتموت بعد عشرة أيام رحمها الله، في صدمة لكل المحيطين بها.
وكم شخصٍ نامَ على فراشه وما استيقظ، وكم من منزل بناه صاحبه ولم ينزل فيه، وكم من عروس زينوها ولم يزفوها، وكم من طالب تخرَّج ولم يستلم وثيقته؟
عَنِ الْبَرَاءِ رضيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ، فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَبَكَى، حَتَّى بَلَّ الثَّرَى، ثُمَّ قَالَ: «يَا إِخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا». [رواه ابن ماجه وحسنه الألباني].
ولو كان الموتُ النهايةَ فالأمرُ هيِّنٌ، ولكنه البدايةُ التي يعقبها أمور كثيرة، كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه، إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ يَبْكِي حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَلَا تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ» قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ». [رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني].
هو الموتُ ما منه ملاذٌ ومهربُ
متى حُطَّ ذا عن نعشِه ذاك يركبُ
كم من الأَقْرَانِ مَضَوْا قَبْلَك، أصبحوا بين أهلهم وأمسوا وهم تَحْتَ التُّرَابِ، ألا تتَذَكَّرَ صُوَرَهُمْ فِي مَنَاصِبِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، كَيْفَ مَحَا التُّرَابُ الْآنَ حُسْنَ صُوَرِهِمْ، وَكَيْفَ تَبَدَّدَتْ أَجَزَاؤُهُمْ فِي قُبُورِهِمْ، وَخَلَتْ مِنْهُمْ مَسَاجِدُهُمْ وَمَجَالِسُهُمْ، وَانْقَطَعَتْ آثَارُهُمْ، ثق أنَّنَّا جميعًا مِثْلُهُمْ وَسَيحصل لنا ما حصل لهم.
نظر أحدُ السلف ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى دَارِهِ فَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا ثُمَّ بَكَى وَقَالَ: «وَاللَّهِ لَوْلَا الْمَوْتُ لَكُنْتُ بِكِ مَسْرُورًا، وَلَوْلَا مَا نَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ ضِيقِ الْقُبُورِ لَقَرَّتْ بِالدُّنْيَا أَعْيُنُنَا».
وكان الحسنُ رحمه الله يقول: الْمُبَادرَةَ الْمُبَادرَةَ فَإِنَّمَا هِيَ الْأَنْفَاسُ لَوْ حُبِسَتِ انْقَطَعَتْ عَنْكُمْ أَعْمَالُكُمُ الَّتِي تَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَءًا نَظَرَ إِلَى نَفْسِهِ وَبَكَى عَلَى عَدَدِ ذُنُوبِهِ، ثُمَّ قَرَأَ قوله تعالى: (إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) يَعْنِي الْأَنْفَاسَ، آخِرُ الْعَدَدِ خُرُوجُ نَفْسِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ فِرَاقُ أَهْلِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ دُخُولُكَ فِي قَبْرِكَ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ "، [رواه البخاري]. أَيْ أَنَّهُ لَا يَغْتَنِمُهُمَا، ثُمَّ يَعْرِفُ قَدْرَهُمَا عِنْدَ زَوَالِهِمَا.
أيها المسلمون:
زيارة القبور من المستحباتِ للرجال، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ، فَقَدْ أُذِنَ لِمُحَمَّدٍ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ، فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ». [رواه الترمذي وصححه الألباني].
ففي زيارة القبور تذكر واعتبار، وَالْمَقْصُودُ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِلزَّائِرِ الِاعْتِبَارُ بِهَا، وَلِلْمَزُورِ الِانْتِفَاعُ بِدُعَائِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْفُلَ الزَّائِرُ عَنِ الدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ وَلِلْمَيِّتِ وَلَا عَنِ الِاعْتِبَارِ بِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى الْقُرْبِ سَيَلْحَقُ بِهِ.
عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ، غَدًا مُؤَجَّلُونَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ، بِكُمْ لَاحِقُونَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ». [رواه مسلم].
وَالْمُسْتَحَبُّ للزائرِ أَنْ يقف قريبًا من القبر، ويُسَلِّمَ على صاحبِه، ويسنُّ له أن يخلع نعليه إلا لحاجةٍ كحرٍّ أو شوكٍ، ويحرم عليه السير فوق القبور، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ أَمْشِيَ عَلَى جَمْرَةٍ، أَوْ سَيْفٍ، أَوْ أَخْصِفَ نَعْلِي بِرِجْلِي، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْشِيَ عَلَى قَبْرِ مُسْلِمٍ». [رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
وَمن المنكرات التمسحُ بالقبور، أو السجودُ لها، أو سؤالُ أصحابها، فكل ذلك من الشرك الذي حرَّمه الله تعالى، وقد قرر العلماء رحمهم الله أن كلَّ صلاةٍ في المقبرة ما عدا صلاةِ الجنازة فهي باطلة لا تصح، قال النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بخمس: «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإِنَّ اللهِ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ». [رواه مسلم].
عباد الله:
التوبةُ من الذنوب رأس مال الفائزين، ومفتاح استقامة المائلين، فلا غروَ إن أذنب الآدمي واجترم، فمن أشبه أباه فما ظلم، ولكن الأب جَبَرَ بعد ما كَسَر، وعَمَرَ بعد أن هدم، وقرعَ سنَّ الندم، وتندم على ما سبق منه وتقدم، فمن اتخذه قدوة في الذنب دون التوبة فقد زلت به القدم، جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين.
الخطبة الثانية:
الحمدلله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله:
فإنَّ المرءَ يمرُّ منذ خلقه بأربعِ مراحلَ، مرحلةِ الحمل في الرحم، ومرحلةِ الحياة الدنيا، ومرحلةِ البرزخ، ومرحلةِ الآخرة، ونسبةُ كلِّ مرحلة إلى التي قبلها كنسبة التي بعدها إليها.
والكيِّسُ من دان نفسه، وعملَ لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانيِّ.
ومن أكثرَ ذكر الموت، ظهر أثر ذلك على قلبه وعمله، بالإخلاص لله تعالى في كل أفعاله، والإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والمحافظة على الطاعات كما أمر بها البارئ سبحانه، فالصلاة يؤديها كما أمر في وقتها، والزكاة لا يحجبها ولا ينقصها، والصيام لا يخدشه، والحجُّ لا يؤخره، ويبتعد عن المحرمات، ويستغفر بعد الزلات، ويندم على السيئات، ويكثر من ذكر ربه، والتوبة إليه.
ومن أكثر ذكر الموت احتقر هذه الدنيا، وزهد في متاعها ولذاتها، وعرف أنها قنطرة إلى الدار الآخرة، لا تؤمن عاقبتها، ولا يركن إليها.
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَإِذَا هُوَ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ شَائِلَةٍ بِرِجْلِهَا، فَقَالَ: «أَتُرَوْنَ هَذِهِ هَيِّنَةً عَلَى صَاحِبِهَا؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى صَاحِبِهَا، وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا قَطْرَةً أَبَدًا». [رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
فكونوا يا عباد الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأصلحوا ما بقي من أيامكم، يغفر لكم بإذن الله ما سلف، فالتوبة تجب ما قبلها، وربكم سبحانه غفور رحيم.
ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
[/align]
المشاهدات 1444 | التعليقات 2
شبيب القحطاني;35273 wrote:
جزاك الله خيرا
[align=justify]آمين وإياك أخي الكريم.[/align]
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق