الحشراتُ والخشاشُ، آياتٌ ربَّانيَّةٌ وعِبَرٌ
عبدالمحسن بن محمد العامر
الحمدُ للهِ خَلَقَ الكائناتِ لحكمةٍ وغايةٍ، وجعلَ فيها للمتفكرينَ عبرةً وآيةً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ ربُّ البريَّةِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أزكى البشريَّةِ، صلى اللهُ وسلَّمَ عليه وعلى آله وصحبِه ومَنْ تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومٍ تكونُ الأنفسُ فيه سعيدةً أو شقيّةً..
أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ تعالى، فبالتقوى سكينةُ النفسِ، وطمأنينةُ القلبِ، وانشراحُ الصدْرِ، وراحةُ البالِ؛ "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ"
معاشرَ المؤمنينَ: تتكاثرُ في مثلِ هذه الأيامِ مِنْ كلِّ سنةٍ الحشراتُ، ويَنْتَشِرُ خَشَاشُ الأرضِ، ويتأذَّى النّاسُ منها تأذِّياً كثيراً؛ في بُيوتِهم، ومَزَارِعِهم، واستراحاتِهم، وفي البراري والقفارِ، حتى اضْطَرتْهُم إلى إطفاءِ الأنوارِ، والبقاءِ في الظَّلامِ، وأجبرتْهُم على الجلوسِ في البيوتِ، وإغلاقِ الأبوابِ، وكدَّرتْ عليهمْ لياليَ أنسِهِمْ وسَمَرِهمْ. ولمْ يَدَّخروا وُسعاً في مُكافحتِها بشتَّى أنواعِ المبيداتِ والسُّمومِ، ومعَ ذلك تبقى تلكمُ الحشراتُ ودوابُّ الأرضِ عصيّةً على الإبادةِ، مُمْتنعةً على الانقراضِ والفناءِ؛ وإنْ قلَّتْ فترةً وزمناً؛ فإنها ترجعُ وتتكاثرُ بسرعةٍ عجيبةٍ مذهلةٍ محيّرةٍ للبشرِ.
إنَّ عالمَ الحشراتِ فيه مِنَ العَجَائبِ والحِكَمِ الإلهيةِ ما يستحقُّ الوقوفَ والتأملَ طويلًا، وذلك أنَّه عالمٌ مستقلٌ؛ بلْ هو عوالمُ تَحَارُ فيها العُقُولُ والأفكارُ، ففيهِ تنوعٌ في الخلقِ عظيمٌ؛ فمِنْه ما يطيرُ، ومِنْه ما يمشي على رجلينِ، وعلى أربعٍ وعلى أكثرَ، ومِنْه ما يُرى بالعينِ المجرَّدةِ، ومِنْه ما لا يُرى، وهناك اختلافٌ في الأشكالِ والألوانِ، وفي الأصواتِ، وفي طريقةِ الحياةِ، وتناولِ الطّعَامِ، وفي الأَسْمَاعِ، والأبْصَارِ، وآلاتِ البَطْشِ، وأشياءُ يَعْجِزُ العِلْمُ عن تسطِيرِها.
وعَنْ عَوالِمِ الحشراتِ والحيواناتِ والطيورِ، يتحدَّثُ القرآنُ الكريمُ، فيقولُ تباركَ وتعالى "وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ"
"أُمَمٌ أَمْثَالُكُم" مكتوبةٌ أرْزَاقُهَا وآجالُها وأعمالُها؛ كما كتبتْ أرزاقُكُم وآجالُكم وأعمالُكم، ويقول تعالى: "وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ"
وقدْ أبْدَعَ الخالقُ سبحانَه في خلقِها إبداعاً عظيماً؛ قالَ تعالى: " وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" وضْرَبَ بها مَثَلاً؛ أحَقَّ بِه الحَقَّ في قلوبِ المؤمنينِ، وأظهرَ به ما في قلوبِ الكافرينَ من الباطلِ والشكِّ والضلالِ، فقالَ تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ" إنَّ هذه البَعُوضَةَ بحَجْمِها المتناهِي في الصِّغَرِ؛ تَحْمِلُ معها كلَّ أجْهِزةِ الحياةِ، مِنْ عُيونٍ تَرى، وأجنحةٍ تَطيرُ، وأجهزةٍ جِنْسيَةٍ لِحِفْظِ النَّوعِ، وجهازٍ هَضْميٍّ للطعامِ وإخراجِ الفَضَلاتِ، والبَعُوضَةَ تمْتلكُ حواليْ مائةَ عينٍ، وهذه العيونُ كلُّها موجودةٌ في الرَّأسِ على شكلٍ يُشْبِهُ قُرْصَ العسلِ؛ تقومُ عينُ البَعوضِ باستلامِ الإشاراتِ وتُرْسِلُها إلى الرأسِ، وأعطاها اللهُ مِنْ سُرعةِ الاستجابةِ وتَقْرِيرِ الحَركَةِ المُنَاسبةِ لِلحَالِ والوَضعِ؛ شيئاً عجيباً تَحارُ به العقولُ والأفهامُ.
وتَحَدَّى اللهُ المشركين أنْ تَخلُقَ آلهتُهُمْ المزعومةُ حشرةً مِنْ أضْعفِ المخلوقاتِ فقالَ سبحانَه: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ"
وفي آياتٍ أُخرى ضربَ اللهُ أمثلةً لوَهَنِ آلهةِ المشركينَ وتناهي ضعفِها؛ ببيتِ العنكبوتِ فقالَ سبحانَه: "مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" فالوَهَنُ المذكورُ في الآيةِ؛ وَهَنٌ ماديٌّ ومعنويٌّ، فمِنَ النَّاحِيَةِ الماديَّةِ نجدُ أنَّ بيتَ العنكبوتِ قدْ تُدمِّرهُ نسمةُ هواءٍ، أو أدنى شيءٍ يلامِسُه أو يسْقطُ عليه، فهيئتُه المجتمِعَةُ ضَعيفَةٌ واهنةٌ؛ لا أوْهَنَ منها، ومِنْ النَّاحِيَةِ المعنويةِ فإنَّ وَهَنَ بيتِ العنكبوتِ يِتَمَثّلُ في التفكُّكِ الأُسْرِي؛ حيثُ تقومُ الأنثى بقتلِ الذَّكَرِ بعدَ أنْ يقومَ بتخصِيبِها، وصغارُ العناكبِ يقتلُ بعضُها بعضًا ولا ينجو منها إلا القليلَ، وبعدَ أنْ يَكْبُرَ الصِّغارُ يقومونَ بقتلِ الأمِّ وإلقائِها خارجَ البيتِ أيضاً.
لقدْ كانَ النّاسُ قديمًا يعلمونَ الوَهَنَ الماديَّ في بيتِ العنكبوتِ؛ لكنَّهم لمْ يُدركوا الوَهَنَ المعنويَّ إلا حديثًا، لذلك جاءَ في ختامِ الآيةِ قولُه تعالى: " لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ "، وفي ختامِ الآيةِ التي تليها جاءَ قولُه تعالى: " وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ "
معاشرَ المؤمنينَ: ومِنَ الحشراتِ ما عَذَّبَ اللهُ بهِ أمماً وسلَّطَها عليهم فآذتْهم أشدَّ الأذى؛ كمَا قالَ عن قومِ فرعونَ : " فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ" أرسلَ عليهم الجَرادَ، وهو جُنْدٌ مِنْ جُنودِ اللهِ تعالى يُسلِّطُه على مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبَادِه، فأكلَ زرعَهمْ وثِمارَهم وثِيابَهم وسُقُوفَ دُورِهِم، وأرسلَ عليهم القُمَّلَ فملأ طعامَهُم وشرابَهُم، وآلمَهُمْ بِقَرْحِهِ، وأكلَ مِنْهمْ شُعُورَ رؤسِهِم وأهدابِهم وحواجِبِهم.
باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسُّنةِ ونفعنا بما فيهما مِنَ الآياتِ والحكمةِ.
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم إنَّه كانَ غفاراً.
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ العظيمِ، والشكرُ للهِ الرحيمِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الغفورُ الحليمُ، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه، ذو القلبِ السليمِ، والخُلُقِ العظيمِ، صلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آله وصحبِه والتابعين ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ البعثِ والتسليمِ..
أما بعدُ: فيا عبادَ اللهَ: اتقوا اللهَ " وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا"
معاشرَ المؤمنينَ: لقد أكثرَ اللهُ في القرآنِ الكريمٍ مِنْ ذكرِ الحشراتِ؛ فقدْ وردَ ذِكْرُ النَّملِ، والنَّحلِ، والذُّبابِ، والفراشِ، والبعوضِ، والعنكبوتِ، والجرادِ، والقُمَّلِ، ودابَّةِ الأرضِ التي تسمّى (الأرضة) ، وسمّى ثلاثَ سورٍ بأسماءِ أنواعٍ منها؛ سُورِ النَّحْلِ والنَّمْلِ والعنكبوتِ.
عبادَ اللهِ: إنَّ مِنْ أعْظَمِ عُلومِ القرآنِ أمْثَالَه؛ كما قالَ السيوطيُّ رحمه الله، والمَثَلُ يُقرِّبُ الأمرَ المعنويَّ المُرادَ، والفِكْرةَ التي يُرادُ لها أنْ تغزوَ العقلَ والقلبَ، ومِنَ الأمثلةِ التي ذكرَها القرآنُ، وصَوَّرَتْ حالَ البشرِ يومَ البعثِ؛ تصويراً دقيقاً؛ قولُه تعالى: " يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ" والفراشُ نوعٌ مِنَ الحشراتِ كثيرُ الأنواعِ جدّاً يزيدُ عَددُ أنواعِها عن مائةٍ وستينَ ألفَ نوعٍ، وكرّرَ اللهُ ضربَ المثلِ للبعثِ في آيةٍ أخرى فقالَ سبحانَه: "خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ" ألا ما أعظمَها مِنْ أمثالٍ، وما أدقّها في تصويرِ المعنى المُرادِ، فقدْ ضَربَها اللهُ أمثلةً للنّاسِ بِظواهرَ كونيةٍ لا تتغيرُ وإن امتدتْ الأزمانُ، وتعاقبتْ الأجيالُ، يُبْصرُها ويفْهَمُها كلُّ مَنْ قرأَها إلى قيامِ السّاعةِ.
وكذلكَ ــ عبادَ اللهِ ــ ضربَ النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ بالحشراتِ المثَلَ؛ تفْهِيْمَاً للناسِ وتَبْيِيناً لهم؛ فقالَ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ: " إنَّما مَثَلِي ومَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نارًا، فَلَمَّا أضاءَتْ ما حَوْلَهُ جَعَلَ الفَراشُ وهذِه الدَّوابُّ الَّتي تَقَعُ في النَّارِ يَقَعْنَ فيها، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ ويَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فيها، فأنا آخُذُ بحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وهُمْ يَقْتَحِمُونَ فيها" رواه البخاريُّ ومسلمٌ وهذا لفظ البخاريُّ.
وبعدُ عبادَ اللهِ: لقد أعطى اللهُ بعضَ الحشراتِ قوَّةً عجيبةً، وأخرى منها فيه سُمِّيَّةٌ قويَّةٌ، ونوعٌ آخرُ سريعُ الفتكِ والإفسادِ، وأقربُ مثالٍ لنا في بيئتِنا؛ ما يصيبُ النَّخِيلَ مِنْ آفاتِ السّوسَةِ الحمراءِ، وحتاتِ الثمرةِ، والغُبِيرِ، وغيرِها، فهذه الآفاتُ إنْ لمْ يُحتاطَ لها وترشَّ بمبيداتِ الوقايةِ قبلَ المكافحةِ؛ وإلاَّ فتكتْ بالنخلةِ وثمرتها.
وخيرُ حافظٍ وواقٍ للبشرِ والأرضِ وما عليها؛ التَّعوذاتُ الشرعيَّةُ الواردةُ بالكتابِ والسنَّةِ، كالمعوّذاتِ، وما وَرَدَ عن رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ، ومِنْ ذلك " أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ"
و " أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ"
و " يَا أَرْضُ رَبِّي وَرَبُّكِ اللَّهُ، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّكِ، وَشَرِّ مَا فِيكِ، وَشَرِّ مَا خُلِقَ فِيكِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَدِبُّ عَلَيْكِ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ أَسَدٍ وَأَسْوَدَ، وَمِنْ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ، وَمِنْ سَاكِنِ الْبَلَدِ، وَمِنْ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ"
هذا وصلوا وسلموا ...
المشاهدات 879 | التعليقات 2
جزاك الله خيراً وبارك فيك، ورحم والديك
تركي العتيبي
ماشاء الله عليك ياشيخ عرفت تختار الموضوع المناسب لهذه الايام لله درك
تعديل التعليق