الحسبة في الإسلام || فضيلة الشيخ أحمد المراغي

الفريق العلمي
1437/07/21 - 2016/04/28 12:04PM
[align=justify]طلب إليَّ عزيز لديَّ أن أكتبَ كلمة في ذلكم الموضوع الخطير «الحسبة في الإسلام» تجلو حقيقتها وتشرح أغراضها ومقاصدها في الدين الإسلامي خاتم الأديان السماوية، والشريعة الصالحة لكل زمان ومكان. فأجبته لبيك وسعديك، فالموضوع شائق، والبحث عنه فيه‏ متعة. شائق لأنَّه يمت بصلة إلى التاريخ الإسلامي في تلك الحقبة من عصور الإسلام الأولى، إلى ما له من رحم وشيجة بحكمة التشريع الإسلامي. وفيه متعة لأنَّه يدلي بنسب إلى شرعة التعاون والتناصر بين بني آدم، وهم تلك السلائل التي ورثت آدم خليفة اللّه في أرضه، يستمتع‏ بها هو وبنوه، ويستعمرونها في المدى الذي قُدِّر لبقاء العالم في تلك الحياة الدنيا. عناصر البحث: الحسبة لغة. الحسبة شرعاً. فيم كانت الحسبة أولاً وإلام صار أمرها آخراً. سبب‏ إحداث الحسبة. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الشروط التي يجب أن تتوافر فيمن‏ يتولى القيام بهما.

المتحسب.
أصناف المحتسب.
الفرق بين المحتسب وقاضي المظالم «القاضي‏ الجنائي» وبين قاضي الحقوق «القاضي المدني».
شروط المحتسب.
أعمال المحتسب.
الفرق‏ بين المحتسب المولى والمحتسب المتطوع.
هل للحاكم أن يُسَعِّر على الناس في الأسواق.
حكم‏ الفندق والحمام والمخبز. التدليس في الدين وحكمه.
أعمال أخرى للمحتسب.
الوظائف الدينية في عصر الفاطميين.
الوظائف الدينية في الدولة الأيوبية وعصر المماليك بمصر.
العقوبات الشرعية.
عقوبة التعزير.
عقوبة الحد والفرق بينهما.
التعزير بالعقوبات المالية.
جواز التصدق بالسلع‏ المغشوشة على الفقراء.
الأصل في المثوبة والعقوبة في التشريع الإسلامي.

الحِسْبة في اللغة: الحِسْبة لغة كما في لسان العرب: اسم من الاحتساب وهو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله‏ بالأخذ بأنواع البر والخير والقيام بها على الوجه المرسوم فيها ابتغاء الأجر المرجو منها. ومما روي عمر: (أيها الناس احتسبوا أعمالكم فإن من احتسب عمله كتب له أجر عمله وأجر حسبته).

واسم الفاعل المحتسب، أي: طالب الأجر.

وفي القاموس: واحتسب عليه الأمر إذا أنكره عليه ومنه المحتسب.

فظاهر عبارة اللسان‏ تدلُّ على أنَّ المحتسب مأخوذ من احتسب الأجر عند الله إذا طلبه، وصريح عبارة القاموس‏ ترشد إلى أنَّه من احتسب عليه الأمر إذا أنكره عليه. ومن البين أنَّ المناسبة جليَّة في أخذه‏ من المعنى الأول، كما أشار إليه صاحب اللسان.

إذ طلب الأجر أسبق في الفكر لدى المحتسب‏ من إنكار عمل غيره ومنعه من فعله، وإن كان هذا سيحصل تبعاً وعرضاً لا قصداً أولياً من العمل. معنى الحسبة شرعاً: أصل الحسبة الشرعيَّة: مُشَارفة السوق والنظر في مكاييله وموازينه، ومنع الغش والتدليس‏ فيما يُباع ويُشترى من مأكول ومصنوع، ورفع الضرر عن الطريق بدفع الحرج عن السابلة من الغادين والرايحين، وتنظيف الشوارع والحارات والأزقَّة، إلى نحو ذلك من الوظائف التي‏ تقوم بها الآن المجالس البلديَّة، ومفتشو الصحة، ومفتشو الطب البيطري، ومصلحة المكاييل‏ والموازين، وقلم المرور، ورجال الشرطة الموكول إليهم المحافظة على الآداب العامة، إلى غير ذلك.

ثم اتَّسعت أعمالها فيها بعد حتى كانت من أهم الشؤون التي عني بها الخلفاء والسلاطين‏ وصار لها ولاية خاصة (مصلحة خاصة) شملت كلَّ أمر بمعروف ونهي عن منكر: كإقامة الصلاة في مواقيتها، والنظر في أحوال أئمة المساجد والمؤذنين، وإلزامهم بأداء وظائفهم على حسب‏ مقتضى الشرع.

ومن ثَمَّ قال بعض العلماء: الحسبة أمر بمعروف ( ) ظهر تركه، ونهي عن‏ مُنكر ظهر فعله، وإصلاح بين الناس.

وأول من أحدثها في الإسلام عمرُ بن الخطاب، فقد وَلي عبد الله بن عقبة على النظر في الأسواق، والتفتيش على المكاييل والموازين، ومنع الغش فيما يُباع ويشترى. وقد كان‏ الخلفاء والولاة في الصدر الأول يباشرون أعمالها بأنفسهم، ويبتغون إصلاح الرعية، ويرجون‏ جزيل الثواب. فقد كان عمر يقوم بوظائف المحتسب، ويشارف السوق، ويراقب المكاييل‏ والموازين، ويأمر بإماطة الأذى عن الطريق.

روى المسيب بن دارم قال: رأيت عمر بن الخطاب‏ رضي الله عنه يضرب حمَّالا ويقول: حمَّلت جملك ما لا يُطيق «مفتش قلم المرور الآن» وفي‏ كنز العمال عن زيد بن فياض عن رجل من أهل المدينة قال: دخل عمر رضي الله عنه السوق‏ وهو راكب فرأى دكاناً «دكة» قد أحدث في السوق فكسره.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: دعامة من دعائم الدين، وبه بعث الله النبيين أجمعين. ولولاه لنشطت الضلالة وعمَّت الجهالة، وانتشر الفساد، وخربت البلاد، وهلك العباد.

وإنَّا لنرى الآن الناس بعد أن استوليت على القلوب مُداهنة الخلق، ومحيت مراقبة الخالق، قد استرسلوا في الشهوات، وركنوا إلى اللذات، وقلَّ أن تجد مؤمناً صادقاً لا تأخذه في الله‏ لومة لائم. فمن شمَّر عن ساعد الجد وسدَّ هذه الثغرة، وأدَّى عمل الحسبة ابتغاء مرضاة ربه، أو قلَّد وظيفتها وقام بأعبائها مُراقباً ربه، فقد قام بقسط وافر في خدمة دينه، ونال رضوان ربه‏: [وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {التوبة:72}.

سبب إحداث الحسبة: السر في إيجاد الحسبة في الإسلام أنَّ الناس لا تتم مصالحهم إلا بالاجتماع والتعاون على جلب‏ المنافع، والتناصر على دفع المضار، ومن ثم قيل: «الإنسان مدني بالطبع». وبالاجتماع لابدَّ لهم‏ من أمور يفعلونها يجلبون بها الخير لأنفسهم، وأمور يجتنبونها لما فيه من الضرر عليهم.

ولابدَّ لهم من طاعة الآمر بالمنافع الناهي عن المفاسد، كما قال تعالى في صفة نبيه: [يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ] {الأعراف:157}.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» [أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة وجابر].

وقد وصف الله الأمة الإسلامية بما وصف به نبيها فقال: [كنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ] {آل عمران:110} وقال عزَّ اسمه: [وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكرِ] {التوبة:71}.

وقال عزَّ من قائل: [وَلْتَكنْ مِنْكمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكرِ وَأُولَئِك هُمُ المُفْلِحُونَ] {آل عمران:104}.


وقال: [لَا خَيْرَ فِي كثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَو مَعْرُوفٍ أَو إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِك ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا] {النساء:114}.

وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: من خير الناس يا رسول الله؟ قال: «خَيْرُ النَّاسِ أَتْقَاهُمْ، وَآمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ» [رواه الطبراني في الكبير].

وقال عليه الصلاة والسلام: «مروا بالمعروف وإن لم تعلموا به كله، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله» [قال الهيثمي: رواه الطبراني في الصغير أو الأوسط من طريق عبد السلام بن عبد القدوس بن حبيب عن أبيه وهما ضعيفان.].

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أفضل الجهاد الأمر بالمعروف‏ والنهي عن المنكر وسباب المنافقين، فمن أمر بالمعروف شدَّ ظَهْرَ المؤمنين، ومن نهى عن المنكر أرغمَ أنف المنافقين، ومن أبغضَ الفاسق وغضب لله غضب الله له).

وقال أبو الدرداء: لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطاناً ظالماً لا يجل كبيركم ولا يرحم‏ صغيركم، ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم، وتستغفرون فلا يغفر لكم، وتستنصرون فلا تنصرون.

عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوس في الطرقات! قالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث‏ فيها. قال: فإن أبيتم إلا ذاك فأعطوا الطريق حقه. وما حق الطريق؟ قال: غض البصر، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) [أخرجه مسلم وغيره].

وروى مسلم وغيره أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وهو أضعف الإيمان).

وروى الحسن البصري أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل شهداء أمتي رجل‏ قام إلى جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله على ذلك، فذلك الشهيد، منزلته في الجنة بين حمزة (عمه) وجعفر (ابن عمه أخي علي)( ) [قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: لم أره من حديث الحسن، وللحاكم في المستدرك وصحَّح إسناده من حديث جابر سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله].

الشروط التي يجب أن تتوافر فيمن يتولى القيام بهما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أفضل القرب وأكثرها ثواباً وقبولاً عند الله تعالى. وله شروط إذا لم تتوافر لا ينتج الثمرة المطلوبة:


(1) أن يعمل الواعظ بما ينصح، لا أن يكون قولُه مخالفاً لفعله، وإلا دخل في الذم وكان‏ ممن يصدق عليه قول الله تعالى: [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ] {البقرة:44}. وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار , فقلت: من هؤلاء؟ قيل: هؤلاء خطباء من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون" [أخرجه أحمد، وابن أبي شيبة، وابن حبان، والطبراني].


(2) أن يكون العملُ طاعة لله ورسوله، وهو العمل المشروع المأمور به إيجاباً أو استحباباً، وضده المعصية والفجور والظلم والسيئة.

(3) أن يكون خالصاً لوجه الله، فالله لا يقبل من الأعمال إلا ما يراد به وجهه، فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه" [أخرجه مسلم]. وهذا هو أساس الإسلام والعمود الذي عليه‏ بني الدين. فحق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. ومن ثم كان عمر بن الخطاب رضي‏ الله عنه يقول في دعائه: (اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً).


وإذا كان العمل خالصاً نشر الله عليه رداء القبول، وصادف التوفيق، وقُدِّر لفاعله في القلوب‏ مَهَابة وجلالاً، وتقبّل الناس قوله بالسمع والطاعة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (مَنِ التَمَسَ رِضَاءَ اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنِ التَمَسَ رِضَاءَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ) [أخرجه الترمذي وابن حبان]. ومما يُؤثر في هذا الباب أن أتابَك سلطان دمشق طلب محتسباً، فذُكر له رجل من العلماء فأمر بإحضاره، فلما مثل بين يديه قال له: إني وليتك أمر الحسبة على الناس. فقال له: إن كنت‏ تريدني لما تقول فقمْ عن هذا الفراش وارفع هذا المتَّكأ فإنَّهما من حرير، واخلع هذا الخاتم‏ فإنه من ذهب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: هذان حرامان على ذكور أمتي حل لإناثهم [أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه]! فقال‏ السلطان: سمعاً وطاعة! ونهضَ عن الفراش وأمر برفع المتكأ وخلع الخاتم من أصبعه وقال: وقد ضممت إليك أمر الشرطة (حكمدار بوليس) فما رأى الناس محتسباً أهيب منه.

(4) أن يَأمر عن معرفة وعلم وفقه بالدين، وإلا كان العمل جهلاً وضلالاً واتباعاً للهوى، كما قال عمر بن عبد العزيز: من عَبَدَ اللهَ بغير علم كان ما يُفسد أكثر مما يصلح. وكما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: العلمُ إمام العمل، والعمل تابعه.

(5) أن يكون النصح بالرفق والتُّؤَدة حتى يؤتي ثمرته المرجوَّة، فقد قال النبي صلى الله عليه‏ وسلم: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه) [أخرجه مسلم من حديث عائشة]. وقال عليه الصلاة والسلام يا عائشة: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه) [أخرجه مسلم]. ومن نوادر المحتسبين وبارع قصصهم: أن رجلاً دخل على المأمون وأمره بمعروف ونهاه‏ عن منكر وأغلظ له في القول، فقال له المأمون: يا هذا إنَّ الله أرسل من هو خير منك لمن‏ هو شر مني، فقال لموسى وهارون: «[فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] {طه:44}. ثم أعرض‏ ونأى بجانبه.

(6) أن يكون الناصح حليماً صبوراً على الأذى، إذ العادة قد جرت بأن يناله الأذى‏ من جراء عمله، فإن لم يحلم ويصبر كان الضرر أكثر من النفع، كما قال لقمان لابنه وهو يعظه: [وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] {لقمان:17}. ومن ثَمَّ‏ أمر أنبياءه ورسله وهم القادة الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر بالاعتصام بالصبر، كما قال‏ تعالى لنبيه في بدء رسالته: [يَاأَيُّهَا المُدَّثِّرُ(1) قُمْ فَأَنْذِرْ(2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ(3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ(4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ(6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ].

(7) {المدَّثر}.. فاختتم الأمر بالإنذار وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بطلب الصبر منه. وقد جاء هذا الطلب في مواضع عدة كقوله تعالى: [وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا] {الطُّور:48}، وقوله: [وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا] {المزمل:10}. وقوله: [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ] {الأحقاف:35}، وقوله: [فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ] {القلم:48}، وقوله: [وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ] {النحل:127}.

فجِماع الأمر بالمعروف ثلاثة: علمٌ قبله، ورفقٌ معه، وصبرٌ بعده. وهذا معنى ما يروى عن‏ بعض السلف: لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فيما ينهى عنه؛ رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه؛ حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه.

(8) ألا يتضمن الأمر بالمعروف فوات ما هو أكثر منه نفعاً، أو حصول منكر فوقه؛ وألا يتضمن النهي عن المنكر حصول ما هو أنكر منه، أو فوات معروف أرجح منه. ولأجل‏ هذا سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن أُبي وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما كان لهم من الأعوان، فلو أزال المنكر بعقاب هؤلاء غضب قومهم وأخذتهم الحميَّة حمية الجاهلية فينفرون منه حين يسمعون أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه. والمشاهدة التي أرانا الله إياها في الآفاق وفي‏ أنفسنا تدل على أنَّ المعاصي سبب المصائب، والطاعة سبب النعمة، كما قال تعالى: [وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ] {الشُّورى:30}. وقال عز اسمه: [مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ] {النساء:79}.

وقال سبحانه: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ] {آل عمران:155}، وقال تعالى: [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ] {آل عمران:165}.

وإذا كان الفسوق والعصيان من أسباب الشرِّ والعدوان فقد يذنب‏ الرجل أو الطائفة من الناس ويسكت الآخرون عليهم إنكاراً منهياً عنه فيكون ذلك محسوباً عليهم من ذنوبهم، أو ينكرون عليهم إنكاراً منهياً عنه فيكون ذلك من ذنوبهم‏ أيضاً، وبسبب ذلك يحصل التفرق والفساد، وذلك من أعظم الشرور والفتن في القديم والحديث. وإن من تدبر ما وقع من الفتنة بين أمراء الأمة وعلمائها علم أنَّ منشأ ذلك اتباع الأهواء والشهوات، والميل إلى البدع والفجور.

المحتسب: المحتسب من نصَّبه السلطان أو نائبه للنظر في أمور الرعيَّة، يأمرهم بما يُوافق الشرع ويَنهاهم‏ عما يخالفه، في أعمالهم الدينيَّة والدنيويَّة، مما ليس من اختصاص القضاة والولاة والجُباة. وهو داخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فله النظر في كل ما يهمُّ المسلمين في أسواقهم‏ ومجتمعاتهم ومعاملاتهم بعضهم مع بعض، ويُعين من يراه أهلا لذلك من الأعوان. فهو يبحث‏ عن المنكرات ويعزِّر عليها، يعاقب بحسب أهميتها ومقدارها، وعلى حسب منزلة مرتكبها، كما سيأتي تفصيل ذلك بعد.

وشرط المنكر الذي يكون للمحتسب التعرُّض له: أن يُفعل علانية على مرأى من الناس‏ ومسمع. فمن ارتكب معصيةً خفيَّة في داره وأغلق عليه بابه لا يجوز للمحتسب أن يتجسَّس‏ عليه، إلا أن يكون ذلك في انتهاك محرم بدئ في الشروع فيه ولم يتم بعد، كما إذا أخبره من‏ يثق بصدقه أن رجلاً خلا بامرأة ليزني بها، فيجوز له حينئذ أن يتجسس ويبحث، حذراً من‏ فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات. أصناف المحتسب: المحتسب صنفان:

(1) محتسبٌ يُعيِّنه السلطان أو نائبه للنظر في شؤون الرعيَّة والكشف عن أعمالهم، فيأمر بما يُوافق الشرع وينهى عما يخالفه، كما تقدَّم ذلك.

(2) محتسب مُتطوع يرى منكراً فينكره، أو يأمر بمعروف يرى الناس قد تركوه. وبينهما فرق من جهات عدَّة:

(أ) أنَّ الأمر والنهي فرض عين على الأول بحكم ولايته، وفرض كفاية على الثاني، فإذا قام به‏ غيره سقط عنه الحرج والإثم: كصلاة الجنازة، وردِّ السلام على غيره.

(ب) أن قيام الأول به من واجبات عمله التي لا يجوز أن يتشاغل عنها بغيرها، وقيام‏ الثاني به من النوافل التي يجوز أن يتشاغل عنها بغيرها.

(جـ) أنَّ الأول له أن يتخذ على الإنكار أعواناً؛ لأنَّه عمل هو له منصوب وإليه مندوب، وليكون أقدر على القهر والغلبة، وليس كذلك الثاني.

(د) أنَّ الأول له أن يعزِّر في المنكرات الظاهرة بضرب ونحوه، ولا يتجاوز بها بحيث‏ تصل إلى الحدود الشرعيَّة المقدَّرة، وليس للثاني ذلك.
والفرق بين المحتسب والقاضي: أنَّه لا يجوز للمحتسب النظر في الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات.
فلا ينظر في العقود والقروض ونحو ذلك، إلا إذا كان مُعترفاً بها. أما ما يدخله الإنكار والجحد ويحتاج إلى البيِّنة أو شهادة الشهود، فهذا وظيفة القاضي لا وظيفة المحتسب.
ويزيدُ على القاضي معه وجوه عدة:

(أ) أنَّ له أن يتعرَّض للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن لم يحضر خصم يطلب منه‏ ذلك. وليس للقاضي أن يتعرَّض لذلك إلا بحضور خصم يشتكي، ولو تعرَّض لذلك خرج عن‏ حدود وظيفته.
(ب) أنَّ له من القوة والجبروت ما ليس للقاضي؛ لأنَّ الحسبة موضوعة على الرهبة والتخويف، فإذا أغلظ المحتسب في القول وكان سليط اللسان لا يُعد هذا منه خروجاً عن عمله.
(ج) أنَّ له أن يبحث عن المنكرات التي ترتكب علانية ليقوم بأداء وظيفته بإنكارها، وليس ذلك لغيره. ويوافق عمل القاضي من ناحيتين:

(1) أنه يجوز تقديم الشكوى إليه وسماعه دعوى المشتكي في حقوق العباد التي تتعلق‏ ببخس في ثمن أو تطفيف في كيل أو وزن، أو تدليس في بيع أو ثمن، أو تأخير دين مستحق‏ مع إمكان دفعه. فهذه كلها منكرات ظاهرة وظيفته إزالتها، إذ من أعمال الحسبة إيصال الحقوق إلى ذويها والمعونة على استيفائها.

(2) أن له أن يُلزم المدَّعى عليه بدفع الحق الذي وجب عليه باعتراف أو إقرار مع وجود اليسار؛ لأن في تأخيره منكراً، لقوله عليه الصلاة السلام: (مطل الغني ظلم) [أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة]. والفرق بين المحتسب وقاضي المظالم (القاضي الجنائي): أنَّ النظر في المظالم يكون فيما يعجز عنه القاضي، والحسبة فيما يرفّه ( ) عن القاضي. ويشتركان في أنَّ عمل كل منهما مبني على الرهبة المستمدة من سلطان الحكومة، وأن كلا منهما لا يتعرض إلا لعدوان ظاهر لا خفاء فيه؟. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. المصدر : (مجلة الأزهر المجلد الثامن، رمضان 1356 - الجزء 9 ).

(1) هذا بحث قيم لمسألة اجتماعية هامَّة انفرد بها الإسلام أنشأه حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ النابه الشيخ المراغي وأتحف به مجلة الأزهر، وإنا لنشره شاكرين له هذا الإيثار، أكثر الله من أمثاله.
(2) المعروف: كل فعل أو قول أو قصد حسن شرعا. والمنكر كل فعل أو قول أو قصد قبيح شرعا. والإنكار في ترك الواجب وفعل الحرام واجب، وفي ترك المندوب وفعل المكروه مندوب.
(3) يلقب بجعفر الطيار، وينسبون إلى علي أنه قال: وجعفر الذي أمسى وأضحى يطير مع الملائكة ابن العم.
(4 ) رفه عنه وسع وخفف. [/align]
المشاهدات 1185 | التعليقات 0