الحساب والصراط
عبدالعزيز عثمان التويجري
خُطبةُ الجُمُعةِ ٤/ ٨ / ١٤٤٤هـ
الحِساب والصّراطُ
الحمدُ للهِ ، وَسِعَ كلَّ شيءٍ رَحمةً وعلمًا، يحكمُ بينَ عِبادِهِ بالعدْلِ ، ويضَعُ الموازينَ القِسطَ ليومِ القِيامةِ فَلا تُظْلمُ نَفْسٌ شَيْئًا، أحْمَدُهُ عَلى وَاسِعِ رحمَتِهِ وكمالِ عدلِهِ وأشْهدُ ألَّا إلهَ إلا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورَسُولُهُ ، المبْعوثُ بالرَّحمَةِ والهُدَى، صَلى اللهُ وسَلَّمَ وبَارَك عليه،وعلى آلِه وصَحبِهِ أولِي النُّهَى، ومَنْ سَارَ على هَدْيِهِ واقْتفَى ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعدُ : ﴿ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إِلّا وَأَنتُم مُسلِمونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢]
أيّها المُؤمِنُونَ: إنّ حياتَكُم هذه حَياةُ بُلغَةٍ، والآخِرةُ خَيرٌ لِمن اتَّقى، فاسْتَعِدُّوا لِما أَمامَكُم مِن الأَهْوالِ والشَّدائِدِ بالإِيمانِ والعَملِ الصّالِحِ ، فَإنّ مِمّا يَنتَظِرُ العِبادَ في يَومِ المَعادِ ، المِيزانَ والصِّراطَ . فإذا بَعَثَ اللهُ الخَلقَ وحُشِرَ النّاسُ في ذلِكَ اليَومِ حُفاةً عُراةً غُرلاً ﴿وَجاءَت كُلُّ نَفسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهيدٌ﴾[ق: ٢١]{وجَاءَ رَبُّكَ(مَجِيئًا يَلِيقُ بِجلالِهِ ) لِفصْلِ القَضاءِ، فتُشرِقُ الأرضُ بِنورِ رَبِّها، وتُصْعَقُ الخَلائِقُ لِهيبَتِهِ وعَظمَتِهِ وجَلالِهِ .﴿هَل يَنظُرونَ إِلّا أَن يَأتِيَهُمُ اللَّهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ وَالمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرجَعُ الأُمورُ﴾ [البقرة: ٢١٠] ﴿كَلّا إِذا دُكَّتِ الأَرضُ دَكًّا دَكًّا وَجاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: ٢١-٢٢] والخَلائِقُ في كَربٍ شَدِيدٍ ، حَيثُ بلغَ بِهِمُ العَناءُ مَبلَغًا عَظِيمًا ، لِطُولِ مَوقِفِهم و صُعُوبَتِهِ ، فلا عُذْرَ يُقْبَلُ ، ولا كَلامَ يُسمَعُ ، ولا حِيلَةَ تَنفَعُ ، ﴿هذا يَومُ لا يَنطِقونَ وَلا يُؤذَنُ لَهُم فَيَعتَذِرونَ وَيلٌ يَومَئِذٍ لِلمُكَذِّبينَ هذا يَومُ الفَصلِ جَمَعناكُم وَالأَوَّلينَ فَإِن كانَ لَكُم كَيدٌ فَكيدونِ﴾ [المرسلات: ٣٥-٣٩]
فَيبْحَثُ النّاسُ عمّنْ يَشْفَعُ لهم عندَ ربِّهم لِيحْكُمَ فِيهِم ، ويَفْصِلَ بَينَهُم ، فَيَأتُونَ إلى الأَنبِياءِ فَكُلٌّ مِنهم يَقُولُ نَفْسِي نَفْسِي ، فَيأْتُونَ لِمُحَمّدِ صَلى اللهُ عليهِ وسلّم فيَقُولُونَ :{ يا مُحَمَّدُ أنْتَ رَسولُ اللهِ وخَاتِمُ الأنْبِيَاءِ، و قدْ غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ ألَا تَرَى إلى ما نَحْنُ فِيهِ ، فأَنْطَلِقُ فَآتي تَحْتَ العَرْشِ، فأقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عزَّ وجلَّ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِن مَحَامِدِهِ وحُسْنِ الثَّنَاءِ عليه ، شيئًا لَمْ يَفْتَحْهُ علَى أحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، سَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فأرْفَعُ رَأْسِي، فأقُولُ: أُمَّتي يا رَبِّ، أُمَّتي يا رَبِّ، أُمَّتي يا رَبِّ…} الحديث متفق عليه عن أبي هريرة}}
فَيَقِفُ العبادُ بينَ يدَي اللهِ للِحسابِ ، ويُعرِّفَهُم بِأَعمالِهم الَّتِي عَمِلوها ، ثُمّ يُجازِيهِم عليها إن خيرًا فَخَيرٌ ، وإنْ شَرّاً فَشَرٌّ ، وتَرى كُلَّ أمَّةٍ جاثِيةً على رُكَبِها ، خَوفًا ورُعْبًا و هلعاً يَنْتَظِرُونَ حُكمَ العَزِيزِ القَهّارِ﴿وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدعى إِلى كِتابِهَا اليَومَ تُجزَونَ ما كُنتُم تَعمَلونَ هذا كِتابُنا يَنطِقُ عَلَيكُم بِالحَقِّ إِنّا كُنّا نَستَنسِخُ ما كُنتُم تَعمَلونَ﴾ [الجاثية: ٢٨-٢٩]. والحِسابُ بالذَّرَّةِ و الخَردَلَةِ دَقِيقٌ وشامِلٌ﴿…إِنَّها إِن تَكُ مِثقالَ حَبَّةٍ مِن خَردَلٍ فَتَكُن في صَخرَةٍ أَو فِي السَّماواتِ أَو فِي الأَرضِ يَأتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطيفٌ خَبيرٌ﴾ [لقمان: ١٦]
﴿فَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ وَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧-٨] ويُعْطَى كُلُّ واحِدٍ مِن أهلِ الموْقِفِ كِتابَهُ ، فَآخِذٌ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَرِحًا مَسْرُورًا ، وآخِذٌ كِتابَهُ بِشِمالِهِ أو مِن وراءِ ظَهرِهِ ، حَزِينًا مَثْبُورًا (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)[الِانْشِقَاقِ: 7-8]، فَينْطَلِقُ مُسْتَبْشِرًا مَسرُورًا يَقولُ : (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ)[الْحَاقَّةِ: 19-20]، (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا)[الِانْشِقَاقِ: 10-11] ، فَيخْرُجُ نَادِمًا حَسيرًا كَسِيرًا : (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ)[الْحَاقَّةِ: 25-26].
أيُّها المُؤمِنونَ : ثُمّ يُوضَعُ المِيزانُ لِوزْنِ أعْمالِ العِبادِ، وهو ميزانٌ حقيقيٌّ، له كِفَّتانِ، يَمِيلُ بالحَسناتِ والسَّيئاتِ ، لا
تُكَيِّفُه العقولُ ، ولا تَتَصوَّرُهُ الأذهانُ ، يَزِنُ كلَّ صَغِيرَةٍ وكَبِيرَةٍ، قالَ الإمامُ أحمدُ: "والميزانُ حقٌّ، تُوزنُ به الحَسناتُ والسيئاتُ، كما يَشَاءُ اللهُ أنْ تُوزنَ"، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين)[الْأَنْبِيَاءِ: 47].فَمن رجَحَتْ حَسناتُهُ فَقد فازَ ونَجا، ومَن رَجَحتْ سَيِّئاتُهُ فقد خَابَ و خَسِرَ﴿وَالوَزنُ يَومَئِذٍ الحَقُّ فَمَن ثَقُلَت مَوازينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ وَمَن خَفَّت مَوازينُهُ فَأُولئِكَ الَّذينَ خَسِروا أَنفُسَهُم بِما كانوا بِآياتِنا يَظلِمونَ﴾[الأعراف: ٨-٩] وَمِن تَمامِ عَدْلِ اللهِ تعالى أنَّ الوزْنَ شامِلٌ لِلعَبدِ وعَمَلِهِ وصَحِيفَةِ عَمَلِهِ ، ففي مسنَدِ الإمامِ أحمدَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تُوضَعُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ، فَيُوضَعُ فِي كِفَّةٍ، فَيُوضَعُ مَا أُحْصِيَ عَلَيْهِ،
فَتَمَايَلَ بِهِ الْمِيزَانُ، فَيُبْعَثُ بِهِ إِلَى النَّارِ، فَإِذَا أُدْبِرَ بِهِ، إِذَا صَائِحٌ يَصِيحُ مِنْ عِنْدِ الرَّحْمَنِ، يَقُولُ: لَا تَعْجَلُوا، لَا تَعْجَلُوا، فَإِنَّهُ قَدْ بَقِيَ لَهُ ، فَيُؤْتَى بِبِطَاقَةٍ فِيهَا:لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَتُوضَعُ مَعَ الرَّجُلِ فِي كِفَّةٍ، حَتَّى يَمِيلَ بِهِ الْمِيزَانُ }والعِبْرَةُ في وزْنِ العَبدِ و رُجْحانِهِ في المِيزانِ، هو صَلاحُهُ في الدُّنْيا وتَقْواهُ ، وإِيمَانُهُ وخَشْيَتُهُ لِله تَعالى ولَيسَتْ العِبْرَةُ بِكِبَرِ جِسْمِهِ وضَخامَتِهِ : ففي الصحيحينِ :أن رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:{ إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - مِن أهلِ النّارِ- لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، اقْرَءُوا، (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)[الْكَهْفِ: 105]، وهذا ابْنُ مَسْعُودٍ رضِيَ اللهُ عنه، كَانَ يَجْتَنِي لِرسُولِ اللهِ -صَلى اللهُ عليه وسلم- سِوَاكًا
مِنَ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَتِ الرِّيْحُ تَكْفَؤُهُ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مِمَّ تَضْحَكُونَ؟ قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ"(رواه الإمام أحمد). فَإذا حانَ مَوقِفُ تَوفِيَةِ المَوازِينِ ، انْخَلَعَتْ أفْئِدَةُ العِبادِ وعَظُمَ كَرْبُهُم ، فَيَنْسَى كُلُّ امْرِءِ أَهْلَهُ وأَرحَامَهُ وخِلَّانَهُ ، وانْشَغَلَ بِما يَرى أمَامَهُ مِنْ حَصِيلَةِ عَمَلِهِ الذِي عَمِلَه في الدُّنْيا ، فلا يَهدأُ له رَوعٌ ، ولا يَطْمَئنُّ له قَلْبٌ فَهْو مَشْغُولٌ بِميزَانِهِ أَيَثْقَلُ فَيَنْجُوا ، أَمْ يَخِفُّ فَيَهْلَكُ ؟ فَإِنْ ثَقُلَ مِيزَانُهُ، نُودِيَ في مَشْهَدٍ عَظِيمٍ ، تُحِيطُ بِهِ الأمْلاكْ، ويَشْهَدُهُ الأنْبِياءُ والمُرسَلُونَ ، والخَلقُ أجْمَعُونَ : ألَا إنَّ فُلانَ ابنَ فُلانٍ، قد سَعِدَ سَعادةً لا يَشقَى بَعدَها أَبدًا، وإِنْ خفَّ ميزانُه، نُودِيَ على رُؤوسِ الخَلائِقِ: ألَا إنَّ فُلانَ ابنَ فُلانٍ، قد شَقِيَ شقاوةً لا يَسعَدُ بعدَها أبدًا. وجاء فِي سُننِ أبي دَاوُدَ :"أن عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، ذَكَرَتِ النَّارَ فَبَكَتْ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا يُبْكِيكِ، قَالَتْ: ذَكَرْتُ النَّارَ فَبَكَيْتُ، فَهَلْ تَذْكُرُونَ أَهْلِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَمَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ، فَلَا يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَدًا: عِنْدَ الْمِيزَانِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَيَخِفُّ مِيزَانُهُ أَمْ يَثْقُلُ، وَعِنْدَ الْكِتَابِ، حِينَ يُقَالُ: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَه)[الْحَاقَّةِ: 19]،
حَتَّى يَعْلَمَ أَيْنَ يَقَعُ كِتَابُهُ، أَفِي يَمِينِهِ أَمْ فِي شِمَالِهِ، أَمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَعِنْدَ الصِّرَاطِ ، إِذَا وُضِعَ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ ( فَإذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ
مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)[الْمُؤْمِنَونَ: 101-103]. أيُّها المُؤمِنُون : وبَعدَ الحِسابِ والمِيزانِ، يُضربُ الصِّراطُ على ظهرِ جَهنَّمَ وهو مِن أَعظَمِ كُربِ يَومِ القِيامَةِ وأَخْطرِها ، ومِن عَليهِ تَعثُرُ أقْدامٌ وتَزِلُّ أقْدامٌ ، ولا بُدَّ مِن المُرُورِ عليهِ فلا مَفرَّ مِن ذَلك ولا مَهْرَبَ، والنَّارُ تَحتَهُ سَودَاءُ مُظلِمَةٌ ،ومِن عَليهِ يَعْبُرُ العِبادُ إلى الجَنَّةِ،فَلَيسَ لَها طَرِيقٌ إِلا هذا الطَّرِيقُ، وقد أقْسَمَ اللهُ على ذَلِكَ في كِتابِهِ حَيثُ قالَ:(وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) [مريم:71-72] والظَّالِمُونَ هُنا هم عُصاةُ المُؤْمِنِينَ ، يَدْخُلونَ النَّارَ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِم ولا يُخَلَّدونَ فِيها،ولا يَعْلَمُ مُدَّةَ بَقائِهم فِيها إِلا اللهُ
( وأَمّا الكُفَّارُ فَلا يَمُرُّونَ على الصِّراطِ ولا يُمْتَحَنونَ بِه، بَلْ يُؤمَرُ بِهم إلى النَّارِ حِينَ يُؤتَى بِها تُجرُّ بِسبعِينَ ألفِ زِمامٍ، كُلُّ زِمامٍ يَجُرُّهُ سَبْعُونَ ألْفَ مَلكٍ، وذلِكَ قَبلَ نَصْبِ الصِّراطِ على مَتْنِ جَهنَّمَ، ) ابن عثيمين .بتصرف موقع أهلِ الحديث والأثر وفي الصَّحِيحَينِ عَن أبي هُريرَةَ رضي اللهُ عنه أنّ رسولَ اللهِ صَلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ :{ ويُضْرَبُ الصِّراطُ بيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ، فأكُونُ أنا وأُمَّتي أوَّلَ مَن يُجِيزُ، ولا يَتَكَلَّمُ يَومَئذٍ إلَّا الرُّسُلُ، ودَعْوَى الرُّسُلِ يَومَئذٍ :اللَّهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ} الحديث. والصِّراطُ أدَقُّ مِن الشَّعْرِ وأَحدُّ مِن السَّيفِ،على حافَتَيهِ خَطاطِيفُ و كَلالِيبُ مِن نَارٍ ، و هو ( دَحْضٌ مَزِلَّةٌ ) لا يَسْتَقِيمُ عليهِ ولا يَثْبُتُ، ولا يَجْتازُهُ ، إِلا مَن اسْتَقامَ على
الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ في الدُّنْيا وثَبَتَ عليهِ، وخالفَ هَواهُ وعَمِلَ بِطاعَةِ رَبِّهِ، وجَاهدَ نَفْسَهُ بالقِيامِ بِحَقِّ مَولاهُ. والنّاسُ مُخْتَلِفونَ في اجْتِيازِهِم للصِّراطِ ، فَعابِرٌ بِسُهولَةٍ، وعَابِرٌ بِصُعُوبَةٍ، فَمِنْهم مَن يَمُرُّ كالبَرقِ ، ومِنهُم مَن تَخْدِشُهُ كَلالِيبُ الصِّراطِ ويَنْجُو، ومُنهُم مَن يُحبَسُ على الصِّراطِ فَيُعانِي مِن الخَوفِ والرُّعْبِ والفَزَعِ ولَفْحِ جَهنَّمَ ما تَنْخلِعُ له الأَفْئِدَةُ ثُمَّ يَنْجُو، ومِنهُم مَن يُوبِقُهُ عَمَلُهُ فَيُكَرْدَسٌ في نارِ جَهنَّمَ، أَعاذَنا اللهُ مِنها.
قيلَ لِلنَّبِيِّ صَلى اللهُ عليهِ وسلم ، يارسولَ، وما الجِسْرُ؟ قالَ: { دَحْضٌ مَزِلَّةٌ، فيه خَطاطِيفُ و كَلالِيبُ وحَسَكٌ تَكُونُ بنَجْدٍ ، فيها شُوَيْكَةٌ يُقالُ لها السَّعْدانُ ، فَيَمُرُّ المُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ العَيْنِ، و كالْبَرْقِ، و كالرِّيحِ، و كالطيْرِ
و كَأَجاوِيدِ الخَيْلِ والرِّكابِ ، فَناجٍ مُسَلَّمٌ، ومَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، و مَكْدُوسٌ في نارِ جَهَنَّمَ،} مُتَّفقٌ عليه عن أبي سعيد الخُدري. وفي صحيح مسلم عن أبِي هُريرَةَ وحُذيفَةَ بنِ اليمانِ أن النّبِيَّ صَلى اللهُ عليهِ وسلم قال :{وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا ، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَشَدِّ الرِّجَالِ،تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلَّا زَحْفًا، وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنِ اُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ}
وفي صَحيحِ مُسلمٍ قالَ أَبو سَعِيدٍ الخُدْريُّ رضي الله عنه-:{ بَلغَنِي أنَّ الْجِسرَ أَدَقُّ مِن الشَّعرَةِ ، وأحَدُّ مِن السَّيفِ } فَاثْبُتُوا يا عِبادَ اللهِ على الحقِّ والهُدى في دُنْياكُم ، وقُومُوا بِما أَوجَبَ اللهُ عليكُم ، مِن فِعْلِ الطَّاعَاتِ واجْتِنابِ المُنْكَراتِ يُثَبِّتْكُم على الصِّراطِ ، وفي العَرصاتِ وعند المَماتِ.
﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا بِالقَولِ الثّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنيا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظّالِمينَ وَيَفعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ﴾ [إبراهيم: ٢٧]
بارك الله لي ولكم
الخُطبةُ الثانِيةُ.
الحمدُ لله ربِ العالمينَ ولا عدوانَ الا على الظالمين ، والعاقبة للمتقين ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وأشهدُ أن محمداً عَبدُه ورسولُه ، صَلى الله عليه وعلى آله وأَتباعِهِ إلى يومِ الدينِ وسلم تسليما كثيرا.. أما بعد.. اتقوا اللهَ عبادَ الله وأطيعوه واعْملُوا بالحقِِّ الذي جاءَكُم مِن عندِ اللهِ ، وامتثِلُوه اعْتِقاداً وقَولاً وعَملاً ، وسِيرُوا على الطَّرِيقِ القَويمِ ، ولا تُعِيقَنَّكم الشُّبُهاتُ والشَّهواتُ عن رُكوبِ الصِّراطِ المُسْتَقِمِ في حياتِكُم الدُّنْيا، فَإنَّ مَن عاقَتْهُ ذُنوبُهُ وشَهواتُه عن التِّباعِ الحَقِّ عَاقَتْهُ كَلالِيبُ الصِّراطِ على ظَهرِ جَهنَّمَ فَيَهْوِي بِها معَ مَن هَوى واتَّبعَ الهَوى.
اللهمَّ ثَبِّتنا بالقَولِ الثَّابِتِ في الحياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ
عباد وصَلُّوا على من أمَرَكُم ربُّكُم بِالصَّلاةِ عليهِ فقد قالَ عزَّ مِن قائِلٍ ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا صَلّوا عَلَيهِ وَسَلِّموا تَسليمًا﴾[الأحزاب: ٥٦]
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين.اللهم عليك بمن يحارب دينك ويصدُّ عن سبيلك ويؤذي عبادك المؤمنين.
اللهم زلزلهم واهزمهم، اللهم زلزل قلوبهم وعروشهم اللهم اقْذِف في قلوبهم الرعب واْئتِهم من حيث لم يحتسبوا.اللهم أصلح ولاة أمورنا ووفقهم للعمل بكتابِك والرفق بعبادك. اللهم انصر المجاهدين والمرابطين في سبيلك في كل مكان. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ماظهر منها وما بطن.
اللهم اجعلنا يوم الفَزعِ الأَكبرِ مِن الآمنينَ ، وسلِّمْنا كِتابنا باليمين ، وثَبِّت أقْدامنا على الصراط يارب العالمين
اللهم خُذْ بنواصينا إلى الحقِّ والهدى وجَنِّبنا طريق الضلال والرَّدَى.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة
اللهم يا مُقلِبَ القُلوبِ ثبِّت قُلوبَنا على دِينك، ويا مصرفَ القلوبِ صرِّف قُلوبنا على طاعتكَ
ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا، واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم. ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وسلم تسليما كثيرا.
المرفقات
1677241372_الصراط والميزان ٤ ٨ ١٤٤٤هـ.docx
1677241436_الصراط والميزان ٤ ٨ ١٤٤٤هـ.pdf