الحساب

أنشر تؤجر
1445/12/21 - 2024/06/27 15:41PM

الخُطْبَةُ الأُوْلَى :

الحمدُ للهِ الذي تفرَّدَ بالخَلقِ والتَّدبيرِ، وتَصرَّفَ بالحِكمةِ البالغةِ و التَّقديرِ ، لا يَعزُبُ عنه مثقالَ ذَرةٍ في الأرضِ ولا في السَّماءِ وهو اللطيفُ الخبيرُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له, وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه, صلَّى اللهُ وسلَّمَ وبارَكَ عليه وعلى آلهِ وأصحابِه ذَوي الشَّرَفِ الكبيرِ، والتَّابعينَ ومن تبعَهم بإحسان إلى يوم الدين .

أَمَّا بَعْدُ: فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاه ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾.

أيها المؤمنون : الإيمان باليوم الآخر من أركان الإيمان ، واستحضار مشاهد يوم القيامة وشدائدها ؛ يدفع المسلم دفعًا إلى سلوك طريق الصالحين ، والالتزام بشريعة رب العالمين ؛ لينجو من كربات يوم القيامة .

وإن من مشاهد يوم القيامة مشهد الحساب ؛ فالموفَّق الذي يأخذ كتابه بيمينه ، والشقي الخاسر الذي يأخذ كتابه بشماله .

ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الحياة الدنيا دارَ اجتهاد وعملٍ ، وجعل الآخرة دار حساب وجزاء ، يُحاسَب فيها الناس ؛ فيُجزى المحسن على إحسانه ، والمسيء على إساءته ؛ كما قال تعالى :﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ﴾ [النجم: 31].

ومِنْ صِفَاتِ أُولِي الأَلْبَابِ : أَنَّهُمْ ﴿ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ﴾ ، وَمِنْ صِفَاتِ الغَافِلِينَ : أَنَّهُمْ ﴿ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ﴾.

وَمِنْ قَوَاعِدِ الحِسَابِ الإِلَهِيِّ : العَدْلُ التَّامُّ الَّذِي لا يَشُوْبُهُ ذَرَّةُ ظُلْمٍ!  قال الله تعالى :﴿ وَنَضَعُ المَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ . 

وَمِنْ قُدْرَةِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ : مُحَاسَبَةُ الخَلْقِ كُلِّهِمْ ، عَلَى كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ! :﴿ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ﴾؛ قال القرطبي رحمه الله :( لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفَكُّرٍ وَعَقْدِ يَدٍ -كَمَا يَفْعَلُهُ الحُسَّابُ-؛ لِأَنَّهُ العَالِمُ الَّذِي لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيء ، وَكَمَا يَرْزُقُهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ يُحَاسِبُهُمْ كَذَلِكَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ!) .

 تَجْثُوا الأُمَمُ عَلَى الرُّكَبِ ؛ لِعِظَمِ مَا يُشَاهِدُونَ ، وَمَا هُمْ فِيهِ وَاقِعُون! وأَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ : الصَّلاةُ ؛ وَأَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ : في الدِّمَاءِ . 

وَأَوَّلُ الأُمَمِ حِسَابًا : هِيَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ ؛ وَأَوَّلُ حِسَابٍ أُخْرَوِيٍّ ؛ حِينَ يُوْضَعُ الإِنْسَانُ في قَبْرِهِ ؛ فَيُقَالُ لَهُ :( مَنْ رَبُّك؟ وَمَا دِيْنُك؟ وَمَنْ نَبِيُّك؟) وَحِيْنَئِذٍ :﴿ يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ﴾ .

وَيُحَاسَبُ كُلُّ إِنْسَانٍ يومَ القِيَامَةِ : عَنْ عُمُرِهِ ، وَشَبَابِهِ ، وَعَنْ مَالِهِ ، وَعِلْمِهِ ، ويُحَاسَبُ عَنِ الجَوَارِحِ وَالحَوَاسِّ ؛ هَلِ اسْتَعْمَلَهَا في الخَيْرَاتِ ، أَمْ في المَعَاصِي وَالمُنْكَرَات؟! :﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾.

وَبَعْضُ العِبَادِ : يُحَاسَبُونَ حِسَابًا يَسِيرًا ، وَهَؤُلَاءِ لا يُدَقَّقُ مَعَهُمْ في الحِسَابِ ، وَإِنَّما تُعْرَضُ أَعْمَالُهُمْ دُونَ اسْتِقْصَاءٍ! فَفِي الحَدِيث :( ليْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَّا هَلَكَ ) قَالَتْ عائِشَةُ :( يَا رَسُولَ اللهِ ، أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللهُ :﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾؟). فقال ﷺ :( إِنَّمَا ذَلِكِ العَرْضُ ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الحِسَابَ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَّا عُذِّبَ ) . 

وَبَعْضُ النَّاسِ : تُعْرَضُ أَعْمَالُهُ عِنْدَ الحِسَابِ ؛ حَتَّى يَعْرِفَ مِنَّةَ اللهِ علَيهِ في مَغْفِرَتِهِ وَسِتْرِه!  قال ﷺ :( إِنَّ اللهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ ؛ فَيَقُولُ : أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ ، أَيْ رَبِّ! حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ ؛ قَالَ : سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا ، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ!) .

وَهُنَاكَ صَفْوَةٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ ، يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَاب ؛ وذلك لِكَمَالِ تَعَلُّقِهِمْ وَثِقَتِهِمْ بِاللهِ! قال ﷺ :( يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ ولا عذاب : هُمُ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ ، وَلا يَتَطَيَّرُونَ ، ولاَ يَكْتَوُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) .

قال القرطبي رحمه الله : (فَصَارَ النَّاسُ ثَلاثَ فِرَقٍ : فِرْقَة لَا يُحَاسَبُونَ أَصْلًا ، وَفِرْقَة تُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا - وَهُمَا مِنَ المُؤْمِنِين-، وَفِرْقَة تُحَاسَبُ حِسَابًا شَدِيدًا - يَكُوْنُ مِنْهَا مُسْلِمٌ وَكافِرٌ-) . 

وَيُقْتَصُّ لِلْمَظْلُومِ مِنْ ظَالِمِه ، حَتَّى بَيْنَ الحَيَوانَات! قال ﷺ :( لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ القَرنَاءِ!) . و(الجَلْحَاءُ): الَّتِي لا قَرْنَ لَهَا. قال العلماء :( فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ الحَيَوَانَاتِ الخَارِجَةِ عَنِ التَّكْلِيفِ ؛ فَكَيْفَ بِذَوِي العُقُولِ!) .

والمُحَاسَبَةُ يَوْمَ القِيَامَةِ ؛ تَكُونُ بِالحَسَنَاتِ وَالسَيّئَاتِ! فَهِيَ ثَرْوَةُ الإِنْسَانِ ، وَرَأْسُ مَالِهِ في ذَلِكَ اليَوم! قال ﷺ :( مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ  لِأَخِيهِ ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ ؛ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ!) . 

وَآخِرُ مَرَاحِلِ الحِسَابِ : تَكُونُ بَينَ أَهْلِ الجَنَّةِ ، قَبْلَ دُخُولِهَا! قال ﷺ :( إِذَا خَلَصَ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ؛ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّوْنَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا ، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا ؛ أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الجَنَّةِ ) . 

أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا ، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم .

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ :

الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه . 

أَمَّا بَعْدُ : فاتقوا الله - عباد الله - وحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَحَاسَبُوا ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ على اللهِ :﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ ﴾.

 فـإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ؛ فَيَجِبُ على كُلِّ مُسْلِمٍ : البِدَارَ إلى مُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ ، وأَنْ يَتُوبَ عَنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ ، وَيَرُدَّ المَظَالِمَ إِلَى أَهْلِهَا ، كما قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ).

واعلموا أنه ومَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ في الدُّنيا : خَفَّ فِي القِيَامَةِ حِسَابُهُ ، وَحَضَرَ عِنْدَ السُّؤَالِ جَوَابُهُ ، وَحَسُنَ مُنْقَلَبُهُ وَمَآبُهُ!  قال عُمَرُ رضي الله عنه :( إِنَّمَا يَخِفُّ الحِسَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ ؛ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا ).

اسألُ اللهَ أَنْ يُعِيْنَنَا عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ.

اللَّهُمَّ إِنِّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا  الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

اللهم يسر حسابنا ، ويمن كتابنا ، واجعلنا من عبادك الصالحين .

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين .

اللَّهُمَّ آمنا في دورنا وأصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى .

للهم لا تدع لنا ذنباً إِلا غفرته، ولا هماً إِلا فرّجته، ولا ديناً إِلا قضيته ، ولا مريضاً إلا شفيته ، ولا ميتاً إلا رحمته ، ولا حاجةً من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين .

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

سبحانَ ربِّك ربِّ العزّةِ عمّا يَصفونَ وسلامٌ على المرسلينَ والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .  

 

المرفقات

1719492062_الحساب.docx

المشاهدات 439 | التعليقات 0