الحرب الإعلامية وأثرها في زعزعة ثقة الأمة.
عبد الله بن علي الطريف
1436/07/05 - 2015/04/24 08:47AM
الحرب الإعلامية وأثرها في زعزعة ثقة الأمة. 4/7/1436هـ
الحمد لله، الحمد لله ذي العزِّ القاهِر، والسلطان الظاهر، سبحانه عزَّ مجدُه، وعلا سلطانُه، علِمَ فستَر، وقدَّر فغفَر، أحمدُه سبحانه وأشكرُه، أسبغَ النعمة، وأجزلَ المنَّة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تقودُ إلى رِضوانه والجنَّة، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أفضلُ خلق الله وأهداهم إليه سبيلاً، وأدلُّهم عليه طريقًا، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله السادة الأبرار، وأصحابه الميامين الأخيار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقَبَ الليلُ والنهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد يا أيها الذين أمنوا...
أيها الإخوة: فمنذ أن وُجد الصراع بين البشر، ذلكم الصراع الذي امتدت به يد الإنسان إلى أخيه بالنسب والإنسانية لتبطش به وتقتله، في قصة قتل أحد ابنى آدم أخاه لأن الله تقبل منه قربانه ولم بتقبل من الآخر. بدأ الإعلام في توجيه الأمم نحو الخير أو الشر.. ذلك أن الأداة الإعلامية التي سخرها الله لابن آدم القاتل أرشدته إلى التصرف السليم في دفن أخيه: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31].
وفي صراعات الأمم وحروبها تأخذ الحرب الإعلامية المكانة الكبرى والمنزلة العليا بين وسائل الحرب.. ومن يمتلكها ويستخدمها جيداً ينجح.. وقد استثمرتها الدولة الصفوية أكبر استثمار فقد عملت أداتهم الإعلامية التي أطلقتها وجندت لها خمساً وثلاثين قناة فضائية تمتلكها هي أو يمتلكها من تبنى مذهبها الباطل من العرب.. كل هذه القنوات موجهة إلى منطقتنا العربية لتبث سمومها فينا بلغتنا، مستهدفة عقيدتنا السنية وقناعات شعوبنا وانتمائهم وولائهم لمذهبهم وقيادتهم..
حاملة لواء تهويل قدرة الرافضة وهيمنتهم في مقابل تهوين قدرة دول السنة وتبعيتها وضعفها.. وتبرير أي هجوم رافضي بالأخلاق والمبادئ وحماية الحريات والدفاع عن المظلومين، والتشكيك بصدق خصومهم السنة في ذلك.. وتمييع المصطلحات بحيث يُحار في فهمها كالإرهاب والتطرف ومن ثَم يعجز عن مواجهتها.. ومن أهم ما تعتمد عليه الحرب الإعلامية التي تشنها الدولة الصفوية وأنصارها الكذب والتضليل والخداع والتمويه في النتائج واستباق حدوثها. وتضخيم خسائر السنة وكأنَّ الحرب قد انتهت والقوات قد استسلمت.. وإضفاء القداسة على رموزهم الضالة وكأنهم لا ينطقون عن الهوى..
أيها الإخوة: وأمة الإسلام اليوم وهي تواجه هذا المد الصفوي المركز والحرب الإعلامية الشرسة في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والعقدية، يجب عليها أن تعى هذا الهجوم وتستعد له على كل صعيد قال الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [الأنفال: 60]
قال الشيخ السعدي رحمه الله ما ملخصه: أي أَعِدُّوا لأعدائكم الكفار الساعين في هلاككم وإبطال دينكم كل ما تقدرون عليه من القوةِ العقليةِ والبدنيةِ وأنواعِ الأسلحةِ ونحو ذلك مما يعينُ على قتالِهم، فدخل في ذلك أنواعُ الصناعات التي تُعمل فيها أصناف الأسلحةِ والآلات من المدافعِ والرشاشاتِ والبنادقِ والطياراتِ، والمراكبِ البرية والبحرية، والحصونِ والقلاعِ والخنادق، وآلاتِ الدفاعِ والرأْيِ والسياسةِ التي بها يتقدم المسلمون ويندفعُ عنهم به شرَ أعدائهم، وتَعَلُّم الرَّمْيِ، والشجاعةِ والتدبيرِ..
وكلُ ما يرهب الأعداء.. وتكون النكاية فيه أشد، يكون الأمر بالاستعداد به أكثر، والسعي لتحصيله أوجب، حتى إنه إذا لم يوجد إلا بتعلُّم الصناعة وجب ذلك، لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب.. وجعل سبحانه الانفاق في سبيل الله مضاعفاً أضعافاً كثيرة، حتى إن النفقة فيه تضاعفُ إلى سبعمائةِ ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرة.
أيها الإخوة: جل ما سبق واجب على ولاة الأمر وأصحاب القرار.. وهناك وجبات كثيرة يضطلع بها كل فرد في الأمة لا فرق فيها بينهم: من ذلك مقاطعة قنوات الأعداء وعدم سماع الأخبار التي يبثون ولا التعليقات التي يعلقون ففي مقاطعتهم قطع لطريق تأثيرهم فهم يكذبون بقولهم ويبررون كذبهم حتى يظنهم الناس صادقين فمن السياسات الإعلامية الفاجرة اكذب وكذب وردد الكذب وبرهن له حتى يكون لدى المتلقي صدقاً..
ومما يجب التواصي به في هذه المرحلة من تاريخ الأمة عدم إذاعة كل الأخبار التي تصلنا.
قال الله تعالى: عَنْ انْتِشَار قِصَّةِ الإِفْك: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور:15] وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرَّجُلَ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: بَلَغَنِي كَذَا، وَيَتَلَقَّونَهُ تَلَقِّياً، أَي يَرْوي بَعضُكُمْ عَنْ بَعْض.
وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالتَّثَبُّتِ مِنْ هَذِهِ الأَخْبَار قَبلَ الْخَوض بِهَا بِغَيرِ عِلْمٍ، كَمَا فِي سُوَرةِ الْحُجُراتِ، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6] وَالْمَعْنَى: إِنْ جَاءكُمْ خَبرٌ مِنْ إِنْسَان فَاسِقٍ فَيَجِبُ عَلَيكُمْ التَّثَبُّت مِنْ صِحَّةِ هَذَا الْخَبَر، لِكيلاَ تُصِيبُوا قَوماً بُرَآءُ مِمَّا قُذِفُوا بِهِ، فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ، مِنْ قَذْفِهِم بِالْخَطأ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُوْرَة [النِّسَاءِ: 83] (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)
وَهَذَا إِنْكَارٌ عَلَى مَنْ يُبَادِر إِلَى الأمُور قَبْلَ تَحقُّقِهَا فَيُخْبِر بِهَا وَيُفْشِيهَا وَيَنْشُرُهَا وَقَدْ لا يَكُونُ لَهَا صِحةٌ، وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَة كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ سَرِيَّة مِنَ السَّرَاياَ فَغَلَبَتْ أَوْ غُلِبَتْ، تَحَدَّثُوا بِذَلِكَ وَأَفْشَوهُ، وَلَمْ يَصبِرُوا حَتَّى يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُتَحَدِّثُ بِهِ، وَهَؤُلاءِ هُمْ الْمُنَافِقُون.
وَقُولُه: (إِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ) هُوَ فَوزُ السَّرِيَّة بِالظَّفَرِ وَالْغَنِيمَة،: (أَوْ الْخَوفِ) وَهُوَ خَبَر النَّكْبَة الَّتِي تُصِيبُ السَّرِيَّة. وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال أي: الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تَثبُّت، ولا تَدبُّر، ولا تبَيُّن.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كَفَى بِالْمَرءِ كَذِباً أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سِمَعَ». صحيح، وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَفَى بِالْمَرءِ إِثْماً أَنْ يُحَدِّثَ بَكُلِّ مَا سَمِعْ». حديث صحيح ، وفي سنن أبي داود عن أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَدَّثَ حَدِيثًا، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ». صححهما الألباني... اللهم احمى ألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وقلوبنا من الزيغ واجعلنا هداة مهتدين...
الثانية:
أيها الإخوة: يقول النبي صلى الله عليه وسلم حاثا على الصدق ومحذراً من الكذب: «ولا يزالُ الرجلُ يصدُقُ ويتحرَّى الصدقَ حتى يُكتبَ عند الله صدِّيقًا، ولا يزالُ الرجلُ يكذِبُ ويتحرَّى الكذِب حتى يُكتبَ عند الله كذَّابًا».
وأخبَرَ صلى الله عليه وآله وسلم كما في الحديث الصحيح فيما رآه من أحوال الآخرة أنه: «يرَى الرجلَ يكذِبُ الكِذبَة فتبلغُ الآفاق، فيُنشرُ شِدقُه ومِنخَرُه وعينُه إلى قَفاه». فما أشدَّه من عذابٍ، وما أطولَه من زمانٍ!!
أحبتي: قال الشيخ صالح بن حميد: للكلمة أثرُها، وللصورة مفعولُها في أي وسيلةٍ، في خُطبةٍ أو مقالةٍ، أو مُحاضرةٍ أو تغريدةٍ.. من خطيبٍ أو مُتحدِّث، أو كاتبٍ أو داعيةٍ، أو مُعلِّقٍ أو مُتابِعٍ.. وفي أي وسيلةٍ من وسائل الإعلام والتواصُل.. ويزدادُ الخطرُ والخوفُ وسوءُ العواقِب حين لا تُعرفُ مصادر هذه الأخبار والإشاعات.. ولا أغراضَ نشرِها وأهدافِهم، فلا مِصداقيَّةَ ولا موثوقيَّة، وكفى بها نقصاً أنها مما عناه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: «كفَى بالمرء إثمًا أن يُحدِّثَ بكلِّ ما سمِع».
فكم كلمةٍ أو تغريدةٍ قالت لصاحبِها: دعني! وكم تدوينةٍ تهوي بقائلِها في نار جهنَّم أبعدَ ما بين المشرق والمغرب!
كلماتٌ تخرجُ كالرصاصِ من أفواه البنادِق يقتلُ بها القائل نفسَه، ويُهلِكُ أهلَه، ويُفسِدُ بلدَه، ويُجرِّئُ الأعداءَ، ويُمكِّنُ للخُصوم، ويبذُرُ بُذورَ الفُرقة، وينفَخُ في أبواق الفتنة. زاحمَ البَنانُ عنده اللسان ليُوغِلَ في التعقيبِ والتصنيفِ، والهدمِ والإفساد.
في كلماتٍ وصورٍ ومقاطع تستهزِئُ وتسخرُ من مُكوِّنات مُجتمعه، وكأنَّه قد تطوَّعَ يُسوِّدَ صُورتَه أمام الآخرين، ويُوثِّقَها صوتًا وصورةً، وكأنه مأجورٌ ليُدمِّرَ نفسَه، ويهدِمَ بيتَه، ويتنكَّرَ لهويَّته.
إذا سمِعَ خبرًا طارَ به كلَّ مطارٍ، ينشُرُه ويبُثُّه يُفاخِرُ بأنه حازَ السَّبْقَ في نشره، والكلمةُ تبلغُ الآفاق مُتخطِّيةً حواجِز الزمان والمكان في أجزاء من الثواني بلمسة بَنان أو غمزة أزرار.
حقٌّ عليه أن يُحاسِبَ نفسَه قبل أن يُطلِقَ لسانَه، أو يغمِزَ ببنانَه، أو يخُطَّ مقالَه، أو يُغرِّدَ تغريدتَه...
أين الحقيقة؟ وأين المصلحة؟ وأين الديانة؟ وأين الأمانة بفعلهم هذا؟
يا تُرى هل هؤلاء يَبنُون أو يهدِمون؟! هل هم يجمَعون أو يُفرِّقون؟! هل يزرَعون الأمل أو يقودون لليأس؟! هل يرفعون من مقام أهلِهم وأوطانهم أو يُحقِّرون الذّوات ويسحَقون النفوسَ؟!
إن ما يُفسِدُه هؤلاء المساكينُ الأغرار في لحظاتٍ قد لا يُمكنُ علاجُه في سنواتٍ، وقد يُكلِّفُ أموالاً وأنفسًا، وقد يستعصِي على العلاج. فإنا لله وإنا إليه راجعون.!
أيها الإخوة: التِّقنيَّاتُ والآلاتُ والوسائطُ والمواقعُ جعلَت مسؤوليَّةَ مستخدمها أعظمَ، وجعلَت مفهوم الحرية أدقَّ، لقد ظنَّ بعض الناس أن الحرية أن تكتب ما تشاء وتفعل ما تشاء دون قيود عقلية ولا شرعية.! من ظن ذلك فقد أبعد النجعة.
الحرُّ هو المُسيطرُ على نفسه، الضابطُ لها بضوابط العقل والدين والعلم.. الحريةُ هي التخلُّص من قيود الشهوات، وسجون الرَّغَبات. الحرُّ هو المسؤولُ الذي يُفكِّرُ بانضِباطٍ لا بانفِلاتٍ.
إن هذه التِّقنيَّات فضَحَت بعضَ الذين يودُّون التفلُّتَ من عيون الرَّقيب، ناهِيكم برقيبِ الدين والضمير والأخلاق والمبادِئ.
وبعد: الإيمانُ دينٌ صحيحٌ، والمُواطَنةُ عقلٌ راشِدٌ، والمسؤوليَّةُ أمانةٌ وثباتٌ وسعيٌ في المصالحِ العُليا والدُّنيا، وسيرٌ في دُروبِ الخير والرشاد، والحثّ عليها.
الحمد لله، الحمد لله ذي العزِّ القاهِر، والسلطان الظاهر، سبحانه عزَّ مجدُه، وعلا سلطانُه، علِمَ فستَر، وقدَّر فغفَر، أحمدُه سبحانه وأشكرُه، أسبغَ النعمة، وأجزلَ المنَّة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تقودُ إلى رِضوانه والجنَّة، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أفضلُ خلق الله وأهداهم إليه سبيلاً، وأدلُّهم عليه طريقًا، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله السادة الأبرار، وأصحابه الميامين الأخيار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقَبَ الليلُ والنهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد يا أيها الذين أمنوا...
أيها الإخوة: فمنذ أن وُجد الصراع بين البشر، ذلكم الصراع الذي امتدت به يد الإنسان إلى أخيه بالنسب والإنسانية لتبطش به وتقتله، في قصة قتل أحد ابنى آدم أخاه لأن الله تقبل منه قربانه ولم بتقبل من الآخر. بدأ الإعلام في توجيه الأمم نحو الخير أو الشر.. ذلك أن الأداة الإعلامية التي سخرها الله لابن آدم القاتل أرشدته إلى التصرف السليم في دفن أخيه: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31].
وفي صراعات الأمم وحروبها تأخذ الحرب الإعلامية المكانة الكبرى والمنزلة العليا بين وسائل الحرب.. ومن يمتلكها ويستخدمها جيداً ينجح.. وقد استثمرتها الدولة الصفوية أكبر استثمار فقد عملت أداتهم الإعلامية التي أطلقتها وجندت لها خمساً وثلاثين قناة فضائية تمتلكها هي أو يمتلكها من تبنى مذهبها الباطل من العرب.. كل هذه القنوات موجهة إلى منطقتنا العربية لتبث سمومها فينا بلغتنا، مستهدفة عقيدتنا السنية وقناعات شعوبنا وانتمائهم وولائهم لمذهبهم وقيادتهم..
حاملة لواء تهويل قدرة الرافضة وهيمنتهم في مقابل تهوين قدرة دول السنة وتبعيتها وضعفها.. وتبرير أي هجوم رافضي بالأخلاق والمبادئ وحماية الحريات والدفاع عن المظلومين، والتشكيك بصدق خصومهم السنة في ذلك.. وتمييع المصطلحات بحيث يُحار في فهمها كالإرهاب والتطرف ومن ثَم يعجز عن مواجهتها.. ومن أهم ما تعتمد عليه الحرب الإعلامية التي تشنها الدولة الصفوية وأنصارها الكذب والتضليل والخداع والتمويه في النتائج واستباق حدوثها. وتضخيم خسائر السنة وكأنَّ الحرب قد انتهت والقوات قد استسلمت.. وإضفاء القداسة على رموزهم الضالة وكأنهم لا ينطقون عن الهوى..
أيها الإخوة: وأمة الإسلام اليوم وهي تواجه هذا المد الصفوي المركز والحرب الإعلامية الشرسة في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والعقدية، يجب عليها أن تعى هذا الهجوم وتستعد له على كل صعيد قال الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [الأنفال: 60]
قال الشيخ السعدي رحمه الله ما ملخصه: أي أَعِدُّوا لأعدائكم الكفار الساعين في هلاككم وإبطال دينكم كل ما تقدرون عليه من القوةِ العقليةِ والبدنيةِ وأنواعِ الأسلحةِ ونحو ذلك مما يعينُ على قتالِهم، فدخل في ذلك أنواعُ الصناعات التي تُعمل فيها أصناف الأسلحةِ والآلات من المدافعِ والرشاشاتِ والبنادقِ والطياراتِ، والمراكبِ البرية والبحرية، والحصونِ والقلاعِ والخنادق، وآلاتِ الدفاعِ والرأْيِ والسياسةِ التي بها يتقدم المسلمون ويندفعُ عنهم به شرَ أعدائهم، وتَعَلُّم الرَّمْيِ، والشجاعةِ والتدبيرِ..
وكلُ ما يرهب الأعداء.. وتكون النكاية فيه أشد، يكون الأمر بالاستعداد به أكثر، والسعي لتحصيله أوجب، حتى إنه إذا لم يوجد إلا بتعلُّم الصناعة وجب ذلك، لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب.. وجعل سبحانه الانفاق في سبيل الله مضاعفاً أضعافاً كثيرة، حتى إن النفقة فيه تضاعفُ إلى سبعمائةِ ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرة.
أيها الإخوة: جل ما سبق واجب على ولاة الأمر وأصحاب القرار.. وهناك وجبات كثيرة يضطلع بها كل فرد في الأمة لا فرق فيها بينهم: من ذلك مقاطعة قنوات الأعداء وعدم سماع الأخبار التي يبثون ولا التعليقات التي يعلقون ففي مقاطعتهم قطع لطريق تأثيرهم فهم يكذبون بقولهم ويبررون كذبهم حتى يظنهم الناس صادقين فمن السياسات الإعلامية الفاجرة اكذب وكذب وردد الكذب وبرهن له حتى يكون لدى المتلقي صدقاً..
ومما يجب التواصي به في هذه المرحلة من تاريخ الأمة عدم إذاعة كل الأخبار التي تصلنا.
قال الله تعالى: عَنْ انْتِشَار قِصَّةِ الإِفْك: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور:15] وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرَّجُلَ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: بَلَغَنِي كَذَا، وَيَتَلَقَّونَهُ تَلَقِّياً، أَي يَرْوي بَعضُكُمْ عَنْ بَعْض.
وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالتَّثَبُّتِ مِنْ هَذِهِ الأَخْبَار قَبلَ الْخَوض بِهَا بِغَيرِ عِلْمٍ، كَمَا فِي سُوَرةِ الْحُجُراتِ، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6] وَالْمَعْنَى: إِنْ جَاءكُمْ خَبرٌ مِنْ إِنْسَان فَاسِقٍ فَيَجِبُ عَلَيكُمْ التَّثَبُّت مِنْ صِحَّةِ هَذَا الْخَبَر، لِكيلاَ تُصِيبُوا قَوماً بُرَآءُ مِمَّا قُذِفُوا بِهِ، فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ، مِنْ قَذْفِهِم بِالْخَطأ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُوْرَة [النِّسَاءِ: 83] (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)
وَهَذَا إِنْكَارٌ عَلَى مَنْ يُبَادِر إِلَى الأمُور قَبْلَ تَحقُّقِهَا فَيُخْبِر بِهَا وَيُفْشِيهَا وَيَنْشُرُهَا وَقَدْ لا يَكُونُ لَهَا صِحةٌ، وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَة كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ سَرِيَّة مِنَ السَّرَاياَ فَغَلَبَتْ أَوْ غُلِبَتْ، تَحَدَّثُوا بِذَلِكَ وَأَفْشَوهُ، وَلَمْ يَصبِرُوا حَتَّى يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُتَحَدِّثُ بِهِ، وَهَؤُلاءِ هُمْ الْمُنَافِقُون.
وَقُولُه: (إِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ) هُوَ فَوزُ السَّرِيَّة بِالظَّفَرِ وَالْغَنِيمَة،: (أَوْ الْخَوفِ) وَهُوَ خَبَر النَّكْبَة الَّتِي تُصِيبُ السَّرِيَّة. وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال أي: الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تَثبُّت، ولا تَدبُّر، ولا تبَيُّن.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كَفَى بِالْمَرءِ كَذِباً أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سِمَعَ». صحيح، وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَفَى بِالْمَرءِ إِثْماً أَنْ يُحَدِّثَ بَكُلِّ مَا سَمِعْ». حديث صحيح ، وفي سنن أبي داود عن أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَدَّثَ حَدِيثًا، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ». صححهما الألباني... اللهم احمى ألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وقلوبنا من الزيغ واجعلنا هداة مهتدين...
الثانية:
أيها الإخوة: يقول النبي صلى الله عليه وسلم حاثا على الصدق ومحذراً من الكذب: «ولا يزالُ الرجلُ يصدُقُ ويتحرَّى الصدقَ حتى يُكتبَ عند الله صدِّيقًا، ولا يزالُ الرجلُ يكذِبُ ويتحرَّى الكذِب حتى يُكتبَ عند الله كذَّابًا».
وأخبَرَ صلى الله عليه وآله وسلم كما في الحديث الصحيح فيما رآه من أحوال الآخرة أنه: «يرَى الرجلَ يكذِبُ الكِذبَة فتبلغُ الآفاق، فيُنشرُ شِدقُه ومِنخَرُه وعينُه إلى قَفاه». فما أشدَّه من عذابٍ، وما أطولَه من زمانٍ!!
أحبتي: قال الشيخ صالح بن حميد: للكلمة أثرُها، وللصورة مفعولُها في أي وسيلةٍ، في خُطبةٍ أو مقالةٍ، أو مُحاضرةٍ أو تغريدةٍ.. من خطيبٍ أو مُتحدِّث، أو كاتبٍ أو داعيةٍ، أو مُعلِّقٍ أو مُتابِعٍ.. وفي أي وسيلةٍ من وسائل الإعلام والتواصُل.. ويزدادُ الخطرُ والخوفُ وسوءُ العواقِب حين لا تُعرفُ مصادر هذه الأخبار والإشاعات.. ولا أغراضَ نشرِها وأهدافِهم، فلا مِصداقيَّةَ ولا موثوقيَّة، وكفى بها نقصاً أنها مما عناه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: «كفَى بالمرء إثمًا أن يُحدِّثَ بكلِّ ما سمِع».
فكم كلمةٍ أو تغريدةٍ قالت لصاحبِها: دعني! وكم تدوينةٍ تهوي بقائلِها في نار جهنَّم أبعدَ ما بين المشرق والمغرب!
كلماتٌ تخرجُ كالرصاصِ من أفواه البنادِق يقتلُ بها القائل نفسَه، ويُهلِكُ أهلَه، ويُفسِدُ بلدَه، ويُجرِّئُ الأعداءَ، ويُمكِّنُ للخُصوم، ويبذُرُ بُذورَ الفُرقة، وينفَخُ في أبواق الفتنة. زاحمَ البَنانُ عنده اللسان ليُوغِلَ في التعقيبِ والتصنيفِ، والهدمِ والإفساد.
في كلماتٍ وصورٍ ومقاطع تستهزِئُ وتسخرُ من مُكوِّنات مُجتمعه، وكأنَّه قد تطوَّعَ يُسوِّدَ صُورتَه أمام الآخرين، ويُوثِّقَها صوتًا وصورةً، وكأنه مأجورٌ ليُدمِّرَ نفسَه، ويهدِمَ بيتَه، ويتنكَّرَ لهويَّته.
إذا سمِعَ خبرًا طارَ به كلَّ مطارٍ، ينشُرُه ويبُثُّه يُفاخِرُ بأنه حازَ السَّبْقَ في نشره، والكلمةُ تبلغُ الآفاق مُتخطِّيةً حواجِز الزمان والمكان في أجزاء من الثواني بلمسة بَنان أو غمزة أزرار.
حقٌّ عليه أن يُحاسِبَ نفسَه قبل أن يُطلِقَ لسانَه، أو يغمِزَ ببنانَه، أو يخُطَّ مقالَه، أو يُغرِّدَ تغريدتَه...
أين الحقيقة؟ وأين المصلحة؟ وأين الديانة؟ وأين الأمانة بفعلهم هذا؟
يا تُرى هل هؤلاء يَبنُون أو يهدِمون؟! هل هم يجمَعون أو يُفرِّقون؟! هل يزرَعون الأمل أو يقودون لليأس؟! هل يرفعون من مقام أهلِهم وأوطانهم أو يُحقِّرون الذّوات ويسحَقون النفوسَ؟!
إن ما يُفسِدُه هؤلاء المساكينُ الأغرار في لحظاتٍ قد لا يُمكنُ علاجُه في سنواتٍ، وقد يُكلِّفُ أموالاً وأنفسًا، وقد يستعصِي على العلاج. فإنا لله وإنا إليه راجعون.!
أيها الإخوة: التِّقنيَّاتُ والآلاتُ والوسائطُ والمواقعُ جعلَت مسؤوليَّةَ مستخدمها أعظمَ، وجعلَت مفهوم الحرية أدقَّ، لقد ظنَّ بعض الناس أن الحرية أن تكتب ما تشاء وتفعل ما تشاء دون قيود عقلية ولا شرعية.! من ظن ذلك فقد أبعد النجعة.
الحرُّ هو المُسيطرُ على نفسه، الضابطُ لها بضوابط العقل والدين والعلم.. الحريةُ هي التخلُّص من قيود الشهوات، وسجون الرَّغَبات. الحرُّ هو المسؤولُ الذي يُفكِّرُ بانضِباطٍ لا بانفِلاتٍ.
إن هذه التِّقنيَّات فضَحَت بعضَ الذين يودُّون التفلُّتَ من عيون الرَّقيب، ناهِيكم برقيبِ الدين والضمير والأخلاق والمبادِئ.
وبعد: الإيمانُ دينٌ صحيحٌ، والمُواطَنةُ عقلٌ راشِدٌ، والمسؤوليَّةُ أمانةٌ وثباتٌ وسعيٌ في المصالحِ العُليا والدُّنيا، وسيرٌ في دُروبِ الخير والرشاد، والحثّ عليها.