الحج ... مقاصد وفضائل
إبراهيم بن سلطان العريفان
إخوة الإيمان والعقيدة ... لما انتهى إبراهيم وولده إسماعيل من بناء بيت الله الحرام، أمر الله خليله إبراهيم بأن يؤذن في الناس بالحج ( وَأَذّن فِي النَّاسِ بِالحَجّ يَأتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ, يَأتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ ) فقال إبراهيم: يا رب، كيف أُبلغ الناس وصوتي لا ينفذ إليهم؟! فقال: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتًا فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوتُ أرجاء الأرض، وأجابه كلُ شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة، لبيك اللهم لبيك.
فأجاب هذا النداء المسلمون القادرون، المؤمنون الموحدون، المخلصون الراغبون فيما عند الله، مقبلين إلى بيته الحرام، من كل فج عميق، مشاةً وراكبين، من كل الجهات والأقطار، قاطعين الفيافي والقفار، والأمصار والبحار، مفارقين الأوطان والديار، وتاركين الشهوات والأوطار، ومنفقين الدرهم والدينار، رجاء المغفرة والعتق من النار.
ففي هذه الأيام نرى إخواننا قد عقدوا الإحرام، وقصدوا بيت الله الحرام، وملؤوا الفضاء بالتلبية والتكبير والتهليل والإعظام، مستجيبين في ذلك لنداء رب العالمين، نداء الرحمن الرحيم، على لسان نبيه وخليله إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم، شعارهم وكلامهم وتردادهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
معاشر المؤمنين ... إن دخول موسم الحج يحرك الساكن ويهيج المشاعر، وكلما هب نسيم الرحيل إلى بيت الله الحرام، وبدأت الوفود بالسفر والرحيل، وارتفعت أصوات الملبين، حنت القلوب، واقشعرت الجلود، وذرفت العيون شوقًا إلى بيت الله الحرام، لقد ساروا وقعدنا، وقرُبوا وبعُدنا، فإن كان لنا معهم نصيب سعدنا.
إن الحج شعيرة من شعائر الله العظيمة، شرعها الله لإبراهيم، ثم أقرها وبين مناسكها رسولنا الأمين، وإن بيت الله الحرام هو منبع الإسلام ومنارة التوحيد، بناه إمام الموحدين خليل الرحمن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
وقد جعل الله في الحج منافع عظيمة وحكما بديعة، وذلك لما جمع الله فيه من شرف المكان والزمان، قال تعالى ( لّيَشهَدُوا مَنَـافِعَ لَهُم ) فهذه المنافع والخيرات التي ينالها الحاج ويصيبها في الحج هي منافع الدنيا والآخرة، وأجلّها وأعظمها مغفرة الله تعالى ورضاه.
وفي الحج تحقيقُ التوحيد لله عز وجل، فهذه التلبية التي يرددها الحجاج أثناء مناسكهم تتضمن معنى التوحيد الذي هو أساس الدين وقوامه، كما تتضمن البراءة من الشرك بكل صوره وشتى أنواعه وأشكاله.
وفي قول نبينا عند كل منسك من مناسك الحج، مخاطبا الصحابة وأمته ( خذوا عني مناسككم ) ليعلم المسلمون وليتذكروا وليستيقنوا أنه لا سعادة ولا نجاح ولا توفيقَ ولا سدادَ في هذه الدنيا ولا في الآخرة إلا باتباع النبي، والسير على طريقته ومنهاجه، والأخذ بهديه وسنته في الاعتقاد والأعمال، وفي الحكم والتَّحاكم، وفي الأخلاق والسلوك.
عباد الله ... حين ما نرى ذلك الحشد الكبير من الناس على اختلاف حالهم وأصلهم، فقيرهم وغنيهم، قويهم وضعيفهم، حاكمهم ومحكومهم، عربيهم وأعجميهم، أبيضهم وأسودهم، كلهم بلباس واحد، ويرددون كلامًا واحدًا، فهذا المشهد العظيم يذكرنا بيوم يحشر فيه الناس إلى ساحة المحشر.
وهذا المشهد العظيم يغيظ الكفار والمنافقين والمشركين، لأنه ولا شك أن اجتماع المسلمين في الحج رمز لإظهار الوحدة والقوة، حتى قال أحد المستشرقين من دعاة التنصير: سيظلّ الإسلام صخرةً عاتية تتحطّم عليها سفن التبشير، ما دام للإسلام هذه الدعائم: القرآن، واجتماعُ الجمعة، ومؤتمر الحج.
والحق ما شهدت به الأعداء، فإن موسم الحج أو مؤتمر الحج كما سموه يبعث ويغرس في المسلمين روح الوحدة والترابط، والاجتماع والائتلاف، وكيف لا يجتمعون ولا يتوحدون وربهم واحد، ودينهم واحد، ونبيهم واحد، قبلتهم واحدة، مناسكهم واحدة، لباسهم واحد، وشعارهم واحد. وصوتهم واحد : لبيك اللهم لبيك ...
لهذا كان موسم الحج رمزا للقوة وعبرة للوحدة، ويا ليت المسلمين يستشعرون هذا
أقول ما تسمعون ...
الحمد لله رب العالمين ...
معاشر المؤمنين ... إن الله - تعالى - قد وعد بالفضل العظيم والثواب الجسيم لمن لبى نداءه وحج بيته الحرام.
قال صلى الله عليه وسلم ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) وقال رسول الله ( تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة ) وقال عليه الصلاة والسلام ( أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله)).
فالحاج الذي لم يرفث ولم يفسق يخرج طاهرا نقيا من الذنوب صغيرها وكبيرها كيوم ولدته أمه. فيا لله على هذا الثواب العظيم، ويا لله على هذا الثواب الجسيم.
ومما جاء في فضل الحج وأنه منفاة للذنوب ما أخرجه الطبراني وحسنه الألباني من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: ((أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله بها لك حسنة، ويمحو عنك بها سيئة، وأما وقوفك بعرفة فإن الله - عز وجل - ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي، جاؤوني شعثًا غبرًا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي، ولم يروني، فكيف لو رأوني؟! فلو كان عليك مثل رمل عالج أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوبًا غسلها الله عنك، وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك، وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك ).
عباد الله ... إن في هذه الأحاديث دعوة ونداءً للمبادرة إلى الحج، فالغنيمة الغنيمة، والمبادرة المبادرة، والعجل العجل قبل حلول الأجل، لمن استطاع إلى ذلك سبيلا، فمن استطاع أن يلبي فيها نداء ربه فليفعل و لا يؤخر و لا يتماطل، فإن العبد لا يعلم متى موعد رحيله من هذه الدنيا، والحج أيام معدودات، و من لم يجب نداء الحج مع استطاعته تهاونًا وتكاسلاً فقد أتى ذنبًا عظيما، وأصاب جرمًا كبيرًا وكان من المحرومين.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفق الحجاج لأداء مناسك الحج، اللهم اجعل حجهم حجا مبرورا، وسعيهم سعيا مشكورا، واجعل ذنبهم مغفورا، اللهم من لم يستطع منهم الحج فافتح له أبواب فضلك وإحسانك، ووفقه لتلبية ندائك يا أكرم الأكرمين.