الحج عبر التاريخ (2 – 2) أ.شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

الفريق العلمي
1439/11/16 - 2018/07/29 12:01PM

تكلمنا في الجزء الأول عن الحج في الحضارات والأمم السابقة من الوثنيين والمشركين وأتباع المعبودات الباطلة، وفي هذا الجزء سنتكلم عن شعيرة الحج عند أهل الكتاب.

 

أولاً: الحج عند اليهود:

مارس اليهود الحج بأشكال مختلفة، واتجهوا إلى أماكن متعددة، واتخذت كل فرقة من فرقهم وجهة معينة، تحجّ إليها في أعيادها الخاصة، وعلى وفق مذهبها وتعاليمه وعقيدتها، وما تفرض عليها من الأوامر والنواهي.

 

وفكرة الحج ليست طارئة على اليهود، فقد كانت منتشرة آنذاك في القبائل المجاورة لهم؛ فمن كان على دين إبراهيم -عليه السلام- كان يعرف الحج ويمارسه في بيت الله الحرام، ومن كان من الأقوام السامية؛ فإنه يحج إلى المعابد والهياكل وقبور الموتى، وغير ذلك مما وجدناه في الحضارات والأمم البائدة.

 

فاليهود كغيرهم حجوا ومارسوا طقوساً خاصة بالحج، وسفر الخروج في التوراة حدد لهم أعياداً دينية سنوية يزورون فيها مقدساتهم بملابس خاصة أو جديدة، وينحرون ويطوفون ويقرؤون الأدعية والتعويذات الخاصة، وغير ذلك، وحجهم خليط من حج وضعي وحج سماوي، فهو صورة جديدة بين حج وثني باطار توحيدي.

 

والظاهر: أن حج اليهود كان فرضاً واجباً أوجبته التوراة عليهم، هذا ما يؤكده النص التاريخي.

 

والحج إلى معبد من المعابد عادة يهودية قديمة جعلت حتى في الأجزاء القديمة من أسفار موسى الخمسة فرضاً يجب أداؤه، فقد ورد في سفر الخروج، في الإصحاح الثالث والعشرين، الآية الرابعة عشرة: "ثلاث مرات يعيّد لي في السنة" وفي الآية الثالثة والثلاثين من الإصحاح الرابع والثلاثين "ثلاث مرات في السنة يظهر جميع ذكورك أمام السيد الرب إله إسرائيل"، وربما كان في بلاد العرب أيضاً أماكن كثيرة للحج حيث كانت تقام شعائر شبيهة بالحج إلى عرفات.

 

وفي كل عيد من هذه الأعياد الثلاثة اتخذت الفرق اليهودية حجاً إلى أماكن معينة، ففي يوم الاستغفار "عيد المظال" كانوا يحجون إلى جبل سيناء، وفي عيد الفصح إلى بيت المقدس، وفي عيد استير وعيد المطر وغيرها يتجهون إلى أماكن أخرى.

 

ولهذا تعددت أماكن الحج، وكثرت اليها الرحلات اليهودية في الأعياد السنوية، ويكاد كل موضع يبدأ اسمه بكلمة "بيت" يكون مكان حج وزيارة سابقاً أو لاحقاً، فمثلاً "بيت المقدس" و "بيت إيل" و "بيت آون" كان بالقرب من بيت إيل و "بيت إصل" في يهوذا و "بيت حور" بالقرب من القدس و "بيت هاجَنَّ" في المكان الذي ولد فيه عيسى -عليه السلام- في بيت لحم و "بيت هاشطة" وبيوت أخرى كثيرة يطول الكلام في عدها وذكرها، وفي تحديد أوقات الحج، يقول د. حسن ظاظا: أما الأوقات التي يحجون فيها فهي موازية لأعيادهم وهي ثلاثة أوقات:

1- عيد الفصح: ويقع في فصل الربيع، ومدته ٧ أيام تبدأ منتصف أبريل في التقويم اليهودي.

 

2-  عيد الحصاد أو الأسابيع "شبو عوت"، ومدته يوم واحد، في شهر يونيو.

 

3- عيد الظُلل: "سوكوت" ومدته ثمانية أيام، ويأتي في الخريف، ويسمون هذه المواسم  الثلاثة الاعتيادية  يستحب فيها الحج؛ لاقترانها بالكثير من الطاعات عندهم.

 

وجاء في أخبار مكة للأزرقي: "حج موسى النبي على جبل أحمر فمرَّ بالروحاء عليه عباءتان قطونيتان متزر بأحدهما مرتدي بالأخرى فطاف بالبيت، ثم طاف بين الصفا والمروة فبينا هو بين الصفا والمروة إذ سمع صوتاً من السماء وهو يقول: لبيك عبدي أنا معك، فخر موسى ساجداً". 

 

انحراف اليهود في حجهم:

وانقسم اليهود بعد الكليم -عليه السلام- إلى عدة فرق، وكل فرقة اتخذت لها وجهة ومكاناً تحج إليه بوضع تعاليم وطقوس وشعائر خاصة بها، فتوجه قسم منهم إلى بيت المقدس والهيكل المزعوم لسليمان -عليه السلام-، والقسم الآخر إلى جبل النبي موسى -عليه السلام- في طور سيناء، وآخرون إلى بئر الحي الرائي بالقرب من مدينة الخليل، ومنهم من توجه إلى "بقاع مباركة" -حسب تعبيرهم- أهمها الجبال الشامخة والتلال والآبار وعيون الماء وأماكن طبيعية أخرى.

أولا: الحج إلى بيت المقدس: يعد بيت المقدس أو القدس من أهم الأماكن المقدّسة لدى اليهود -إضافة إلى أهميته عند المسيحيين والمسلمين- لذلك تميز حجهم لهذا البيت بقدسية ومعنى خاصين، وعظم اليهود بيت المقدس وخاصة فرقة "يهوذا"، وقدسية بيت المقدس عند اليهود تاريخها مقارناً لبناء سليمان الهيكل، والهيكل المعبد المزعوم لليهود الذي صار حرماً للحج وقبلة للصلاة منذ عهد داود وسليمان -عليهما السلام-. 

 

وفرقة يهوذا اتخذت من بيت المقدس وهيكل سليمان محجة سنوية لها في العيد السنوي الديني المسمى ب‍ "عيد الفصح"، وأهم المراسم المتبعة فيه هي "الضحية" أي القربان أو "الهدي" في المصطلح الإسلامي، يقدم إلى الرب أو الإله، وهذا القربان تؤكده وصايا تلمودهم، التي تختلف اختلافاً كليا مع الوصايا المنصوص عليها في التوراة في مسألة "الضحية"، فالتوراة أوصاهم بتقديم "ثور" قرباناً للرب في عيد الفصح.

 

أما تعاليم التلمود فكانت توصيهم أن تكون الضحية من البشر.

 

وتختار الضحايا أو الذبائح في عيد الفصح من الأطفال، الذين لا تتجاوز سنهم العاشرة أو تزيد عنها قليلاً.

 

ويمزج دم الضحية بعجين الفطائر قبل تجفيفه أو بعده.

 

ويستنز اليهود دم الضحية بطرائق كثيرة: فأحياناً يتم ذلك عن طريق "البرميل الابري" وهو برميل مثبت على جوانبه من الداخل إبر حادة توضع فيه الضحية حية فتنغرز هذه الإبر في جسمها، وتسيل الدماء ببطء من مختلف الأعضاء، وتظل كذلك في عذاب أليم حتى تفيض روحها، بينما يكون اليهود الملتفون حول هذا البرميل في أكبر نشوة بما يبعثه هذا المنظر في نفوسهم من لذة وسرور.

 

وينحدر الدم إلى قاع البرميل ثم يصب في إناء معد لجمعه، أحياناً تقطع شرايين الضحية في عدة مواضع ليتدفق الدم من جروحها، وأحياناً تذبح الضحية كما تذبح الشاة ويؤخذ دمها، وبعد أن يتجمع الدم بطريقة من الطرق السابقة أو غيرها تسلم إلى الحاخام أو الكاهن أو الساحر، الذي يقوم باستخدامها في إعداد الفطائر المقدسة أو في عمليات السحر، فالحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة.

 

أما الزمان أو الوقت الذي يحجون فيه إلى بيت المقدس، ليقيموا شعائرهم في عيدهم الديني هذا، فهو اليوم الرابع عشر من الشهر الأول من سنتهم الدينية وهو شهر إبريل، ويحتفلون فيه بنجاة موسى -عليه السلام- وبني إسرائيل من فرعون وقومه وخروجهم من مصر.

 

والظاهر أن اليهود في الحال الحاضر يضحون بحمل أو جدي في حجهم إلى بيت المقدس، وقتلهم للبشر اتخذ صوراً أخرى.

 

ثانيا: جبل موسى -عليه السلام- في صحراء سيناء: اعتقد اليهود أن الجبل الواقع في طور سيناء، الذي يبعد "٣٢٠" كيلومتراً عن منطقة عيون موسى والذي يبلغ ارتفاعه "7400" قدم، هو الجبل الذي كلّم الله -عز وجل- نبيه موسى -عليه السلام- عنده، وهو الجبل الذي خر دكاً عند تجلى العظيم له.

 

ثالثا: بئر الحي الرائي بالقرب من الخليل: وهناك فرقة أخرى من اليهود قدست هذه المنطقة التي فيها "البئر المقدس" وحجت إليها، وما زالت هذه الفرقة تعتقد أنها بلد جدّهم الأعلى إسحاق بن الخليل ابراهيم -عليهم السلام-، ومدينة إقامته ووفاته.

 

رابعا: معبد "بيت إيل" بالقرب من نابلس: عظمت هذا المعبد فرقة أخرى من اليهود وهي فرقة "السامرية" وهي الفرقة اليهودية التي لا تؤمن إلا بالأسفار الخمسة، التي تمثل القسم الأول من "العهد القديم"، وكذلك لا تؤمن بالبعث واليوم الآخر، وقد ذكرها ابن حزم في كتابه: "الفصل في الملل والأهواء والنحل" فقال: "إنهم يبطلون كل نبوة كانت في بني إسرائيل بعد موسى ويوشع -عليهما السلام-، فيكذبون شمعون وداود وسليمان وأشعيا واليسع وإلياس وعاموص وحبقوق وزكريا وأرميا وغيرهم، وأنّهم يقولون: إن مدينة القدس هي نابلس، وهي من بيت المقدس على ثمانية عشر ميلاً، ولا يعرفون حرمة بيت المقدس ولا يعظمونه. 

 

خامسا: الأماكن الطبيعية المتنوعة: وحج قسم آخر من اليهود إلى أماكن طبيعية كالجبال الشاهقة، وبعض التلال والأشجار والآبار وعيون الماء، اعتماداً على النصوص التوراتية المحرفة، قال د. حسن ظاظا: "كان اليهود -أو بنو إسرائيل- يجعلون من الأشجار والجبال والتلال وعيون الماء والآبار مزارات يحجون إليها ويتبركون بها، ويبنون عندها معابدهم".

 

ومن هذا المنطلق اتخذ اليهود كنيسا لهم بجزيرة جربا التونسية السياحية يحجون إليه في كل عام بوصفه مكانا مقدسا عندهم.

 

ثانياً: الحج عند النصارى:

سار النصارى على شاكلة نظائرهم اليهود في الانحراف عن الدين الصحيح، واتخذوا وجهات متعددة، ومراسم وسلوكيات خاصة، خطّتها لهم خيالاتهم وأهواؤهم، وزين لهم الشيطان سوء أعمالهم وتصرفاتهم، حتى أحسوا أنهم على حق وغيرهم على باطل.

 

وأصبح الحج بعد التحريف طواف ودوار حول مقدسات العقيدة، فطافوا بمقدساتهم، وقدموا الأضاحي والنذورات والهدايا.

 

بكوا وتضرعوا وطلبوا الغفران، وبعضهم ترك ملذات الدنيا المحللة والشهوات المباحة، واتجهوا للرهبانية عن الحياة ليتخذوا من "العذراء مريم -عليها السلام-" أسوة، ومن عبد الله ورسوله عيسى المسيح رباً -كما يزعمون- يغفر ذنوبهم ويكفر عنهم سيئاتهم ويدخلهم نعيم الجنة!

 

وانقسم المسيحيون إلى عدة فرق، وكل فرقة اتخذت وجهة خاصة في الحج ومراسم وطقوس حج خاصة.

 

وابتدعوا أعياداً دينية، ك‍ "عيد الفصح" و "عيد القيامة"، و "عيد الميلاد" و "عيد الغطاس"، وغالباً ما يصاحب أعيادهم حج وطقوس خاصة به.

 

ولم تتطرق الأناجيل المتداولة بين أيديهم لفريضة الحج إلى جهة محددة، كما أن عيسى -عليه السلام- لم ينوه إلى هذا الواجب الديني، لكنه عند بلوغه سن الاثني عشر يُقال: إنه ذهب مع أمه إلى أورشليم؛ تنفيذًا لأمر الشريعة اليهودية.

 

وفي الإنجيل -القديم- أنّه بعد رفع المسيح -عليه السلام- إلى السماء بخمس وعشرين عامًا أدى بولس حج العنصرة، وسجل التاريخ النصراني الأول لم يشر من قريب أو بعيد إلى ضرورة زيارة الأماكن التي ارتادها وعاش فيها المسيح -عليه السلام-.

 

والنصارى ينظرون إلى جسد المسيح على أنه بديل عن هيكل اليهود؛ لذا اقتصروا في البداية على زيارة ما يمثل رمزه، وهو المكان الذي يمثل مكان صلب المسيح بزعمهم الموجود في كل كنائسهم، فيعتبرون هذا المكان مكانا مقدسا، ويعتقدون أن جسد المسيح المصلوب بزعمهم يمثل الذبيحة الكاملة للرب، والتي تقدس ذاتها بذاتها.

 

وقد اتجه النصارى في رحلة الحج إلى قبور الصالحين، ثم تحولوا إلى القدس فأخذوا يقصدونها بالزيارة، واتجهوا كذلك في رحلة الحج إلى بيت لحم الذى ولد فيه المسيح -عليه السلام- ويقصدون كنيسة القيامة، كما أنهم يحجونَ إلى كنيستي بطرس، وبولس في روما، وكذلك كنيسة لورد في فرنسا، ومدينة فاطيما في البرتغال.

 

وتتم ممارسة الحج عندهم لدوافع مختلفة، كالحصول على المساعدة الروحية، أو القيام بفعل تكفيري للذنوب.

 

والتوجه في الحج إلى بيت المقدس، لم يرد فيه نص لا في التوراة ولا في الإنجيل، بل سنة اتبعت نتيجة أسباب معينة، فعند النصارى كان السبب الرئيسي هو اتباع سنة الملكة هيلانه أم الإمبراطور قسطنطين مؤسس مدينة القسطنطينية الشهيرة عاصمة الأرثوذكسية القديمة التي فتحها العثمانيون سنة 857 هـ على يد السلطان العظيم محمد الفاتح، وكانت هذه الإمبراطورة حريصة على زيارة بيت المقدس كل سنة ابتداء من سنة 329 م حتى وفاتها.

 

كما تعد روما من المدن المهمة والمقدسة للمسيحيين الكاثوليك، وهي مركز ثقافي وفني وديني منذ عهد طويل ويطلق عليها: "المدينة الخالدة"، وكذلك "المدينة المقدسة" وهي وسط إيطاليا قرب الساحل الغربي على ضفتي نهر "التيبر"، عاصمة إيطاليا، وفيها الفاتيكان مقر البابوية، وكان للإصلاح الكاثوليكي بعد عام "١۵٢٧" م أثر في استفادة البلاط البابوي -بعد أن خرب جنود شارل روما عام ١۵٢٧م- وكذلك استعاد مكانته وسلطته الروحية.

 

استمرت روما في الازدهار والإفادة من وفود جموع الحجاج عليها حتى وقتنا الحالي.

 

كما ابتدع النصارى حجا فريدا إلى بلدة فرنسية اسمها "لورد" عام "١٨۵٨م" أي بعد ميلاد السيد المسيح -عليه السلام- بأكثر من ثمانية عشر قرناً، ويرجع سببه إلى ادعاء إحدى راهبات الكنيسة في فرنسا أنها شاهدت مريم العذراء، تجلت لها بجوار المغارة التي كانت بالقرب منها.

 

ولورد: بلدة في الجزء الجنوبي الغربي من فرنسا

 

كانت في القرون الوسطى ذات موقع استراتيجي هام.

 

أصبحت منذ العام "١٨۵٨م" محجا يقصده المرضى.

 

أما أعجب حج عند النصارى فهو حج "فاطيما".

 

وقصة فاطيما تتمحور في قضية مقدسة حدثت في أوروبا، اهتم بها العالم المسيحي؛ لأنها من شؤونه الدينية الخاصة، وقد ارتبطت هذه القصة باسم يمت إلى العالم الإسلامي بصلة "فاطمة بنت محمد" -رضي الله عنها-.

 

وفاطيما: قرية في شبه جزيرة "فيبري" غرب أسبانيا في مدينة ليشبونة في البرتغال، فتحها عبد الرحمن الداخل عام "٧١٠م" وبقيت تحت راية الإسلام حتى القرن الحادي عشر الميلادي، استولت عليها أسبانيا وانجلى الإسلام عنها، وأصبح أغلب سكانها من المسيحيين، وفي عام "١٩١٧م" أصبحت فجأة محجة للمسيحيين ومقصداً للزوار، لأخبارها يعجب المرء للدين المزيج من التعاليم المسيحية والتعاليم الإسلامية، خصوصاً عند أهل القرية التي تحتضن كنيسة فاطيما ويقصدون "فاطمة بنت الرسول -صلى الله عليه وسلم-" ويطلقون عليها صاحبة المسبحة.

 

الطريف أن حجاج تلك الكنيسة يحملون بأيديهم مسبحة ويسبحون كتسبيح المسلمين أي: يذكرون الله "٣۴" مرة "الله أكبر"، ويحمدون الله "٣٣" مرة "الحمد لله"، ويسبحون الله "٣٣" مرة "سبحان الله"، كلٌ بلغته الخاصة، وكل ذلك من أثر وجود الإسلام لأكثر من ثماني قرون بهذه البقاع.

الحج عبر التاريخ (1 – 2) 

المشاهدات 643 | التعليقات 0