الحج عبر التاريخ (1 – 2) أ. شريف عبد العزيز - عضو الفريق العلمي
الفريق العلمي
يعتقد كثير من الناس أن الحج شعيرة تقتصر على الدين الإسلامي والمسلمين فقط، وبالكيفية التي فصلتها كتب الفقه المستمدّة من الكتاب الكريم والسنة الشريفة، ولكن المتتبع للحضارات القديمة والديانات السماوية والوضعية يجد أن الحج ركن ديني أساسي، مارسته الحضارات المختلفة، وألفته الأديان السماوية والوضعية بشكل مشابه بعض الشيء للحج الإسلامي.
ولعل الكشوفات الأثرية الحديثة والتطور في المعارف والثقافة، والاطلاع على الشعوب البدائية من خلال الدراسات "الإنثروبولوجية" الميدانية، لعل كل ذلك كشف المزيد من المعلومات عن هذه الفريضة العالمية الكبيرة؛ فإن كثيرا من الهياكل والمعابد والمراكز الدينية المنتشرة في العالم، في بلاد وادي الرافدين وبلاد وادي النيل، وهياكل العبادة في كثير من المدن والبلدان هي في الحقيقة كانت مراكز أساسية للحج، يأتيها الزائرون قاصدين إليها لأداء أعمال وأفعال وممارسات وطقوس محددة يعرفها المنتسبون لتلك الديانات، يأتون في وقت محدد وعلى جماعات، لأداء شعائر وطقوس معينة، وهذا هو الشكل النمطي لشعيرة الحج.
وهذه جولة تاريخية نستعرض خلالها تاريخ شعيرة الحج عبر التاريخ، وفي الأمم والحضارات السابقة لأمة الإسلام.
الحج في حضارة وادي النيل:
اشتهرت أرض مصر الفرعونية بالهياكل، والمقابر الضخمة كالأهرامات، وبتعدد الآلهة إلافي زمن اخناتون الموحد للآلهة في صورة الشمس.
فالهياكل انتشرت في أنحاء مصر القديمة وأشهرها "الكَرْنَكْ" و "الأُقصُر" و "إدْفُو" و "دَنْدارة".
وهذه الهياكل بعضها محفور في شاهق صخري كمعبد "أبي سِنْبل" في بلاد النوبة، الذي هو أشهر الهياكل وقيل أقدمها، وله أهمية كبيرة في نفوس المصريين القدماء.
وحين تولى رمسيس الثاني عرش مصر نحته في الصخر الحي وأتم بناءه.
واعتقد المصريون بآلهة كثيرة، ولكنهم آثروا عبادة اثنين كان لهم السبق على جميع الآلهة الاُخرى حسب اعتقادهم: أحدهما: "أوزيريس" الذي لم يقهره الموت -حسب معتقدهم-، والآخر هو: الشمس أو الإله "رع" الذي كان أعظم الآلهة المصرية كإله للأحياء، والذي أقام المصريون لعبادته أفخم معابدهم، ولم يكن الهرم إلا رمزاً مقدساً له.
وكانت الهياكل على شكل كبير من الضخامة لتليق بالآلهة -كما يعتقدون- كمعبد "الكرنك"، والتصميم المعتمد هو نفسه تقريباً في كل الهياكل.
ويذكر لنا التاريخ أن المصريين القدماء كانوا يعتقدون أن آلهتهم تجتمع في معبد "أوزيريس" بمدينة "أبيدوس" -الأقصر حالياً- في عيد هذا المعبود، فكانوا يحجون إليه بهذه المناسبة، ولمدينة أبيدوس تاريخ ديني وسياسي مرموق.
الحج في حضارة وادي الرافدين:
أما في حضارة ما بين النهرين -السومرية والبابلية والأكدية والآشورية- التي استمرت ثلاثة آلاف عام، وتعددت الآلهة في وادي الرافدين بتعدد المدن والدويلات، وحصر السومريون آلهتهم في مجموعتين: الثالوث الأول ويتألّف من "آنو" إله السماء "وأنليل" إله الأرض، و "إيا" إله المياه الجوفية، فجمعوا بذلك بين عناصر المادة الثلاثة: السائل والهواء والجماد.
والثالوث الثاني يتألّف من "شَمَشْ" إله الشمس، و "سين" إله القمر، و "أدَدْ" الذي يجمع كل عناصر الطبيعة.
وأدد هذا أدخله "الأكاديون".
وأضافت كل دولة إلهاً خاصاً بها مثل "مردوخ" و "آشور" و "عشتار".
وأهم الأبنية الدينية عندهم هي المعابد والمقابر، وعُرفت المعابد باسم "الزقورة" أقدمها ما بناه السومريون، وأشهرها "برج بابل" حيث يحجون إلى الإله "نَبُو".
وكان لكل مدينة مهمة -في بلاد ما بين النهرين- معبد مهم، وفي كل معبد برج شامخ يسمونه "زقورة" شكله مربع في المعابد المربعة، ومستدير في المعابد البيضوية، تراقب منه الكواكب والنجوم.
نظراً لما لعلم الفلك من أهمية وتأثير في الحياة اليومية والدينية لديهم، وكانوا يعلنون من خلاله بداية رأس السنة الجديدة، ليعلنوا بدايات الطقوس الدينية السنوية لزوار الزقورة في المعبد.
وكانت هذه أماكن مهمّة "للحج" في أعياد رأس السنة المعروفة عندهم آنذاك.
الجدير بالذكر: أنّ حضارة وادي الرافدين الطويلة في الزمن وفي التاريخ، لابد من أن تكون هناك أماكن أخرى محلية قصدها الزوار؛ لغرض أداء طقوس معينة وشكليات منظمة يمكن أن تحسبها أنواعاً من حجهم.
ولعل السبب في عدم العثور على تلك الحقائق هو طبيعة البناء عندهم، حيث كان ذا أساس طيني مما لم تبق الفيضانات له شيئاً عبر الزمن.
وهذا خلاف طبيعة البناء المصري القديم الذي غالباً ما يكون بناء صخرياً يحافظ عليه مناخ مصر الجاف آلافاً من السنين.
وهناك مذهب ديني في حضارة وادي الرافدين يرجع تاريخه إلى عهد قديم، وهو مذهب الصابئة، وكانت هذه الفئة تسكن مدينة حرّان الواقعة في الجنوب الشرقي من تركيا الحالية وهي بين طريق الموصل والشام.
وحرّان، مدينة قديمة جداً تقع قرب منابع نهر البليخ بين الرها ورأس عين، قد اشتهرت بأنّها موطن إبراهيم -عليه السلام-.
وحرّان المدينة المقدسة عند الصابئة، ومقصد حجهم حيث معبدهم مقر "سن" إله القمر، والصابئة فرق متعددة، رغم قلتهم، فمنهم من ينتمي إلى كاظم بن تارح، وقد ذكرهم المقريزي بين الفرق المختلفة، وكأنهم يقابلون دين إبراهيم عليه السلام.
وأفرد الشهرستاني لهم ولشرح أقوالهم فصلاً مسهباً غاية الإسهاب في كتابه الملل والنحل من الصابئة من يعظم بيت الله الحرام والكعبة الشريفة ويحج إليها كل عام.
وجاء في الأحاديث الشريفة: أن أنواعاً من الحج تعددت في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وكان أهمها الحج الجاهلي والحج الحنفي والحج الصابيئ.
والمشهور عن الصابئة أنهم يوقرون الكعبة في مكة، ويعتقدون أنها من بناء هرمس أي إدريس -عليه السلام- وأنها بيت زحل أعلى الكواكب السيارة، وينقل عنهم عارفوهم أنهم قرأوا صفة محمد -صلى الله عليه وسلم- في كتبهم ويسمونه عندهم ملك العرب، وقد ذكرهم القرآن الكريم في ثلاثة مواضع فقط، والصابئة دين خليط يشبه الجميع في بعض شرائعه، ويختلف مع الجميع في بعض شرائعه الاُخرى.
الحج في الحضارة الفارسية:
وفي الحضارة الفارسية القديمة طقوس ورسوم وعقائد وأفكار يطول تعدادها لو أردنا الدخول إليها، ولكن لنأخذ مقطعاً من تأريخها وهي الديانة الزرادشتية؛ لأنها أشهر ديانة وأعظم تعاليم تمسك بها الفرس منذ القرن العاشر أو السادس قبل الميلاد، وحتى يومنا هذا توجد بقايا من أتباعه في مدينة يزد الإيرانية وفي الهند.
ومن بين هذه الكتب المقدسة كتاب "الياسنا" الذي يهتم بالشعائر والطقوس، من هذه الشعائر والطقوس ما يمكن أن يمثل شكلاً من أشكال الحج، حيث الزيارات السنوية المقدسة إلى المعابد في الأعياد الدينية، وتقديم الأضاحي والنذورات ومراسم مقدسة أخرى.
وكان الأهلون -عامة الشعب المتدين- يجتمعون في الأعياد وكلهم يرتدون الملابس البيضاء، ولهم زيارات سنوية لمعابدهم يؤدون فيها طقوسا خاصة، ويلبسون الملابس البيضاء، ويقدمون الضحايا مما يدل على أن لهم حجا بالمعنى اللغوي المعروف.
الحج في الحضارة الرومانية:
والحضارة الرومانية كذلك عرفت الحج، ونظمت طقوسا خاصة به، مما يتعلق بديانتهم، وبنت الهياكل الكبيرة المربعة منها والمستديرة، وقدمت للهياكل هدايا وأضاحي ونذورات، وعددت الآلهة، وجعلت لكل شيء إلهاً، وتقربت للآلهة؛ لكسب عونها ورضاها، أو لاتقاء غضبها.
وكان الكهنة يوصون الحجاج أو زائري الهياكل والمعابد أن يلتزموا بالدقة في ممارسة الطقوس والشعائر الخاصة في الاحتفال في الأعياد السنوية وغير السنوية، وإذا وقع خطأ في طقس من هذه الطقوس أياً كان نوعه، وجبت إعادته من جديد، ولو تطلب ذلك إعادته ثلاثين مرة.
الحج في الحضارة الهندية:
أما الهند فلا يمكن استيعابها بأسرها؛ لكثرة السكان واختلاف اللغات والأديان، فهي ليست أمة واحدة كمصر أو بابل أو رومة، بل هي قارة بأسرها.
ولقد تعددت الأديان في الهند، وأخذت عقائدها الدينية ما يمثل كل مراحل العقيدة.
ولقد وضع الهنود لهم أعياداً سنوية كغيرهم من الاُمم، وبعض هذه الأعياد يصاحبها حج إلى معبد أو ضريح أو هيكل معين، وممارسة بعض الطقوس والشعائر المتعلقة به، كما وجدنا ذلك عند بقية الاُمم، فغالباً ما يكون الحج مصحوباً بعيد سنوي ديني والهنود قلدوا ما قبلهم من الأقوام، الذين نطقوا باللغة السنسكريتية، ووضعوا الأدعية والصلاة وغيرها بتلك اللغة، فكانوا يسيرون مواكب عظيمة أو أفواجاً من الحجاج، قاصدين الأضرحة القديمة.
وأعظم الطقوس الجماعية عندهم هي تقديم القرابين، فالقربان عند الهندي ليس مجرد صورة خاوية؛ لأنه يعتقد أنه إذا لم يقدمه للآلهة طعاماً تموت جوعاً.
ولما كان الإنسان في مرحلة أكل اللحوم البشرية، كانت القرابين في الهند كما في غيرها من بلاد العالم قرابين أو ضحايا بشرية.
فلمّا تقدّمت الأخلاق أخذت الآلهة تكتفي بالحيوان قرباناً.
وهناك مركز رئيسي للحج عند الهنود منذ القرن 14 ق. م وهو مدينة بنارس الجليلة القدر عندهم، كعبة يحجّون إليها سنوياً يقدسها البوذيون والچين، ويقصدها سنوياً حوالى مليون حاج؛ لزيارة معابدها وأضرحتها، وبها المعبد الذهبي الذي يعتبر كعبة السيخ الذي وقعت بداخله مجزرة مهولة سنة 1984 والتي كانت سببا فيما بعد لاغتيال رئيسة الوزراء الهندية أنديرا غاندي على يد أحد حراسها المنتمي لطائفة السيخ.
وتنقسم مزارات الحج عند الهنود إلى قسمين:
الأول: يرتبط بالأنهار مثل نهر الكنج, حيث تعتبر السباحة فيه إحدى الممارسات المقدسة, وذلك لاعتقاد الهندوس أن أحد الآلهة قد استحم فيه, ومع كون نهر الكنج من أكثر أنهار العالم تلوثا بسبب الملايين التي تستحم فيه, إلا أن التي الهندوس وصلوا إلى حد الاعتقاد بأن من يضع في يده قطرات من ماء الكنج لا يمكن أن يكذب أبدا.
وأما الثاني: فيرتبط بالمعابد المخصصة للآلهة الكثيرة عند الهندوس, حيث يقترن الحج عندهم بتقاليد جاهلية شركية وأساطير للآلهة القديمة, كأسطورة شيفا وبراهما وقشنو التي تسمى أقانيم الثالوث المقدس عندهم.
ويبلغ عدد أماكن الحج المقدس عند الهندوس أكثر من مائتي موضع ومكان, إلا أن بعضها كنهر الكنج حاز الأهمية العظمى لقرون من الزمان, فالحج في الهند يعود لما قبل تاريخ غزو الآريين, إذ كانت ممارسة الاغتسال في نهر الكنج تعد نواعا من طقوس التطهير, التي تعود لأسطورة التكوين الهندية الأساسية المعروفة باسم "المهابهارتا".
والهند في القرن الثامن الهجري عرفت نوعاً آخر من الحج المنحرف ينسبه أصحابه هذه المرة إلى الإسلام، ذلك هو الحج على المذهب الذِكري، وقد أسس هذا المذهب: محمد المهدي الأتكي وضمن آراءه في كتابه: "البرهان".
وكان هذا الضال يسكن في البنجاب، وانتقل منه من موضع إلى موضع حتى وصل إلى موضع مشهور في بلوشستان المسمّى ب "كيج"، وبدأ يستفيد من جهال هذه المدينة استفادة باطلة، ويدعي بأنه "المهدي الموعود" فصار مقبولاً عند الخاص والعام، ولم يمر وقت طويل حتى كتب كتاباً ينبئ فيه بأنه قد نُسخت الشريعة المحمدية بمجيئه في الدنيا، واعتقادها كفر ولا يحاسب أحد يوم القيامة عن أركانها الأربعة من الصوم والصلاة والحج والزكاة.
وبهذه الإباحية استطاع محمد الاتكي أن يصرف المسلمين سكان تلك المنطقة عن الصوم والصلاة والزكاة، والحج إلى الكعبة المشرفة؛ وابتكر لهم حجاً مشابهاً للحج الاسلامي لأماكن شبيهة بمقدسات مكة المكرمة كجبل عرفات وجبل ثور وغار حراء، وبنى لهم كعبة ليحجوا إليها، واتخذوا جبلاً معروفاً باسم "كوه مراد" حجاً لهم حيث يقع في جنوب مدينة "تربت" وهو منسوب إلى نائبه الضال "ملّا مراد" ساكن تلك المدينة، فيحجون في الأيام الأخيرة من شهر رمضان بداية من ٢٧ من رمضان ويستغرق ثلاثة أيّام.
الحج في الحضارة الصينية:
والصين كالهند، فهي ليست موطناً موحداً لأمة واحدة، بل هي خليط من أجناس مختلفة الأصول متباينة اللغات غير متجانسة، وقد حدثنا المؤرخون بأحاديث مفصلة عن تاريخها منذ ثلاث آلاف سنة ق. م حتى العصر الحديث، عن عاداتهم، وتقاليدهم ودياناتهم.
ولو أردنا استيعاب ذلك بأسره لطال الحديث بنا، ولكن لنأخذ نموذجاً يعطينا صورة من صور حجّهم وطريقتهم في الحج، علماً بأن أشهر هيكل حج إليه الصينيون كان "هيكل السماء ومذبحه" اقتداءً بسنة الإمبراطور الكبير "تاي دز ونج" الذي أمر بعد تربعه على العرش أن يشاد هيكل لكنفوشيوس في كل مدينة وقرية في جميع أنحاء، أما عن نسك الحج فيبدأ بالإمبراطور الذي كان يأتي هذا الهيكل في الساعة الثالثة من صباح رأس السنة الصينية للصلاة والدعاء لأسرته بالتوفيق والفلاح ولشعبه بالرخاء، ويقرب القربان للسماء التي يرجو أن تكون بصفه لا في صف عدوه. وموقع هذا الهيكل بالقرب من سور "پيچنچ" التتاري الجنوبي، ويتكون مذبح هذا الهيكل من سلسلة من الدرج والشرفات الرخامية التي كان لعددها الكبير ونظامها أثر سحري في نفوس الزائرين، ويمكن تسجيل عدد آخر من الأماكن العبادية المناسبة للحج.
الحج في الحضارة اليابانية:
وحين ننتقل إلى اليابان نجدها قد تأثرت بالصين بكثير من الاُمور كالفلسفة والعقائد الدينية وفن بناء المعابد وغيرها، غير أن معابد اليابان كانت أغنى من معابد الصين زخرفاً وأرقى نحتاً.
فما يرى في معابد اليابان من بوّابات فخمة على طول المرتقى أو المدخل الذي يؤدي إلى الحرم المقدّس وغيرها لا يُرى في معابد الصين واعتادت فئة في اليابان على تقديس أرواح أسلافها فحيث تلتقي عبادة أرواح الأسلاف بالطقوس البوذية في تعايش سلمي منسجم، تقوم معابد "الشينتو" -أي معابد تقديس أرواح الأسلاف- مستقلة عند المعبد البوذي ومجاورة له وتسمّى في لغتهم: "فوجي ياما" ولفظة فوجي تعني "النار".
ويمكن أن نعد في اليابان نوعاً آخر من الحج يتعلق بالزهور، فالزهور عند اليابانيين بمثابة الدين، فهم يعبدونها عبادة تشيع فيها روح التضحية بالقرابين، ويلتقي فيها أفراد الشعب جميعاً، وهم يرقبون في كل فصل من فصول العام ما يلائمه من زهور، فإذا ما أزهرت شجرة الكريز مدى أسبوع أو أسبوعين في أوائل شهر إبريل، يخيل اليك أنّ أهل اليابان جميعاً قد تركوا أعمالهم ليحدجوا فيها بأبصارهم، بل ليحجّوا إلى الأماكن المقدسة التي تزخر بهذه الزهرة.
الحج في الجاهلية:
مشركو العرب في الجزيرة العربية ونواحيها كان فيهم من بقايا دين إبراهيم -عليه السلام-، وكانت أكثر شعيرة بقيت من الحنيفية السمحاء؛ الحج.
فقد قدسوا البيت الحرام والكعبة الشريفة ومنى وعرفات، وطافوا ولبوا ونحروا ورموا الجمرات وأحرموا، وكان حجهم يبدأ في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، وعندما يصل الحجاج إلى عرفة، يرتدون لباساً خاصاً بالحج، قال الجاحظ فيهم: "كانت سيماء أهل الحرم إذا خرجوا إلى الحل في غير الأشهر الحرم، أن يتقلدوا القلائد، ويعلقوا عليهم العلائق.
وكان الحج الإبراهيمي المحور الأساس في الحج الجاهلي، ولم يحفظ العرب من شريعة إبراهيم -عليه السلام- شيئاً إلا الحج في مظاهره، غير أنهم زادوا فيه وحذفوا منه، وأدخلوا الأصنام في الكعبة الشريفة، حتى بلغ عددها أكثر من ثلاثمائة صنم، على رأسها: هُبل واللات والعزى ومناة وإساف ونائلة.
ومنهم على ذلك من بقايا عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسكون بها: من تعظيم البيت، والطواف به، والحج، والعمرة، والوقوف على عرفة ومزدلفة، وإهداء البدن، والإهلال بالحج والعمرة، مع رفضهم لما يقوم بها المشركون، وكان منهم زيد بن عمرو وورقة بن نوفل.
وقد ذكر القرآن الكريم حجّهم وأعمالهم عند بيت اللّٰه الحرام، بأنها مزيج من الشرك والتفاخر والتجارة والهرج والمرج، قال تعالى: (وما كان صلاتُهم عنى البيت إلّا مُكاءً وتصدية) [الأنفال: 35] ويتنسكون عنده مناسك يسمونها اليوم: أعيادا وموالد كشأن الجاهلية الأولى.
وكان لكل قبيلة من قبائل العرب في الجاهلية، صنمها الخاص بها تهلل حوله حتى تصل مكة، وكان عباد كل صنم إذا أرادوا الحج، انطلقوا إليه، وأهلوا عنده ورفعوا أصواتهم، ووقفت كل قبيلة عند صنمها وصلت عنده، وكانوا عند ترديد التلبية يصفقون ويصفرون.
وكانت التلبية هي: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك! إلّا شريكٌ هو لك! تملكُهُ وما مَلَكْ.
وكان من شعائرهم في الطواف أو لبعض منهم: أن يطوفوا عرايا متجردين من كل ثيابهم، وهي شعيرة وثنية واضحة على الانحراف، وقد ذكر ذلك القرآن الكريم وكتب الأحاديث والسير وكتب التاريخ.
والجدير بالذكر: أنّ الحج إلى "بيت الله الحرام" في زمن الجاهلية لم يكن مقتصراً على العرب فقط، فقد ذكر لنا التاريخ أن الفرس وغيرهم حجّوا إليه وعظّموه وقدّموا إليه الذهب والفضّة والقرابين والنذورات وغيرها؛ فقد جاء في مروج الذهب للمسعودي: "وقد كانت أسلاف الفرس تقصد البيت الحرام، وتطوف به، تعظيماً له"، وقال المسعودي أيضاً: "وكانت الفرس تهدي إلى الكعبة أموالاً في صدر الزمان، وجواهر، وقد كان ساسان بن بابك هذا أهدى غزالين من ذهب وجواهر وسيوفاً وذهباً كثيراً فقذفه في بئر زمزم". والمكاء: الصفير، بصيغة المبالغة، وهو طائر بالحجاز شديد الصفير، والتصدية التصفيق بضرب اليد على اليد.
والمعنى أنّ المشركين في الجاهلية كان حجّهم وأعمالهم عند البيت الحرام، ما هي إلّا ملعبة من المكاء والتصدية.
وهرجاً ومرجاً لا خشوع فيها ولا خضوع؛ لأنّها كانت صفيراً بالأفواه، وتصفيقاً بالأيدي.
وقد ورد عن الحج في الجاهلية: "أنّه كان يقام في الجاهلية كلّ عام سوقان في شهر ذي القعدة أحدهما: في عكاظ، والآخر: في مجنة، وكان يتلوهما في الأيام الاُولى من ذي الحجة سوق ذي الحجاز، ومنه يخرج الناس إلى عرفات مباشرة. وكان الحج إلى عرفات يقع في التاسع من ذي ا لحجة، وكانت شتّى قبائل العرب تشترك فيه".
وفي الجملة الحج في الجاهلية عبارة عن مظاهر خاصّة من أعمال وحركات عابثة وأفعال لا معنى لها؛ لأنّها رموز وشعائر ومناسك مقتبسة وغير مقتبسة وتلبيات، دون حضور قلب وهدى، بل حضور هوى وعصبية قبلية، ومحبة وإخلاص للأصنام التي لا تنفع ولا تضرّ ولا تعي ولا تسمع ولا تغني عنهم شيئاً.
الحج عبر التاريخ (2 – 2)