الحث على الشكر والحذر من السَّرَف
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لا خير إلا منه، ولا فضل إلا من لدنه، حمدًا يُؤْنِسُ وَحْشِيَّ النعم من الزوال، ويَحرُسُها من الانتقال، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثال، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله المُصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وصحبه الأخيار، وما تعاقب الليل والنهار، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى واحمدوه، على النعم الدينية والدنيوية مما أُعطيتموه، وبشُكرِ نعمه استزيدوه {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فمَنْ اتقى ربَّه فقد شَكَرَه، ومَن تَرَكَ التقوى فلم يَشْكُرْه، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فمن اتَّقى الله وقاه، ومن توكَّل عليه كفاه، ومن شكرَه زادَه، ومن استقرضَه جزاهُ.
عباد الله.. إنَّ شُكرَ الله سبحانه برهانُ عبادتِه وهو عبادة قالله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} من شكره، فقد عبده، كما أن من لم يشكر الله، لم يعبده وحده، ومن طريق ذلك تدبُّرُ الحِكَمِ والأسرارِ في شرائع الله، ليزداد معرفة وعلما، ويزداد شكرا لله ومحبة له، على ما شرع من الأحكام التي توصل العبد إلى المنازل العالية الرفيعة قال الله جلَّ ذكرُه: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وقال عزَّ شأنُه: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وهذا في الآيات الشرعية، وكذلك في الآية الكونية كما قال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} فالله تعالى ينوّعُ الآيات ويبينها ويضرب فيها الأمثال لقوم يشكرون الله بالاعتراف بنعمه، والإقرار بها، وصرفها في مرضاة الله.
فالله تعالى مستحقٌّ للشكر جل وعلا على وجه الكمال، فمنه الإمداد، وإليه المعاد {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} فالرزق من الله به أَمَدّ، فله اشكر، كما أنه المستحق للعبادة فهو المستحق للشكر كما قَرنهما الله في مواضع كقوله: {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فهذا تعريفٌ وتخويف، وترغيب وترهيب، فإن المعبود سبحانه إذا قام عبده بشُكره، جازاه على ذلك بالحُسنى، وإنْ لم يَشكرْه أو قصَّر فإليه المرجع فلا مفر، فيجازيه في الدنيا والأخرى.
عباد الله.. وشُكر الله عز وجل بالاعتراف بنعمته، ونسبتها إليه بالقلب والقول، وكذلك بالعمل بطاعته، فبذلك أمر الله تعالى فقال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} كما سمى الله تعالى العمل الصالح شُكرًا فأمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ}، وكذلك فعل الأنبياء، فمُوسَى عليه السلام صام يوم عاشوراء شُكْرًا لِلَّهِ، ونبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم وصف اجتهاده في الطاعة شكرا، ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى وَرِمَتْ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: «أَفَلاَ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا».
وقد خوَّف الله عبادَه إنْ لم يشكروه أن يُزيل عنهم النعم {أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ}، وبالشكر يكون العبدُ عند ربِّه مَرْضِيًّا {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}.
وأهلُ الجنة كما أنهم فيها حامدون «يُلْهَمُونَ الْحَمْدَ وَالتَّسْبِيحَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ» فكذلك هم لربهم فيها شاكرون، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَدْخُلُ أَحَدٌ الجَنَّةَ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ لَوْ أَسَاءَ، لِيَزْدَادَ شُكْرًا».
وإذا كان الجاحدون للنعم متوَعَّدون، فالشاكرون ناجون {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ}.
فعلى المسلم سؤالَ ربِّه أن يُلهِمَه الشكر، كما دعا نبيُّ الله سليمان عليه السلام فقال: { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ}، كما أثنى الله عز وجل على من بلغ أشده فدعا { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ }.
عباد الله.. الشكر قيدُ النعم الموجودة، وصيدُ النعم المفقودة، مفتاح الزيادة، وطريق السعادة، الشكرُ أزكى مقالٍ، ولشوارد النعمة أوثق عقالٍ، النِّعَمُ إنْ شُكِرت قَرَّت، وإن كُفرت فرَّت، وشكرُ المولى هو الأولى، الشكرُ ترجمان النية، ولسان الطوية، ومَن شَكَرَ قليلًا استحق جزيلًا.
عباد الله.. إن مما يستوجب الشكر ما فتح الله علينا من الدنيا، ويسر من النعم، فصار الإنفاق متيسرًا في الحاجيات، وإنما تقع البلوى وتُسمع الشكوى في الكماليات، فذلك يستوجب الشكر لله، والنُّصحَ لعباد الله، فقد أرشد الله تعالى للقصد بين أمرين فقال سبحانه: {ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط}، حدَّ اللهُ النفقةَ فنهى عن الإسراف والتقتير، وأمَرَ بالقصد والتقدير، فلا منْعَ ولا إسراف، ولا بُخْلَ ولا إتلاف. لا تكن رطبًا فتُعصَر، ولا يابسًا فتُكسَر، ومَن حفِظَ مالَه فقد حفِظَ الدينَ والعِرْض. قال الحسن البصري رحمه الله: "رحم الله عبدا كَسَبَ طَيِّبًا، وأنْفَقَ قَصْدًا، وقدَّمَ فضْلا".
وقد أمرَ اللهُ تعالى بإعطاء الحقوق أهلَها، وحذَّرَ من التبذير ونفَّر فقال عزَّ وجلّ: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} وقد قيل: لا جود مع تبذير، ولا بخل مع اقتصادٍ. التدبير يثمر اليسير، والتبذير يبدد الكثير، وحسن التدبير مع الكفاف، أكفى من الكثير مع الإسراف. قال عمرُ الفاروقُ - رضي الله عنه - يقول: "لا يقلُّ شيءٌ مع الإصلاح، ولا يبقَى شيءٌ مع الفساد، وحُسنُ التدبير في المعيشة أفضلُ من نصفِ الكسْبِ".
رزقنا اللهُ شُكرَ نِعمه، وألهمنا رُشدنا، ووقانا شرَّ أنفسنا
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله العليِّ القدير، أبدعَ الخلقَ وأحكمَ التدبير، أحمده سبحانه وأشكرُه على فضلِه العميم وخيرِه الوَفير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلكُ وله الحمدُ يُحيِي ويُميت وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه البشيرُ النذير، والسراجُ المُنير، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابِه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ وعلى طريق الحقِّ يسير، وسلَّم التسليمَ الكثير. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واشكروه، واحذروا أن تسخطوه، ومن ذلك كُفرانُ النعمة، بنسبتها لغير ربِّها والمتفضل بها، ومن ذلك الإسرافُ والتبذيرُ، والإفراطُ في الاستِهلاك استِسلامًا للشهوات والملذَّات، وانقِيادًا للأهواء والرَّغبَات، من غير مُراعاةٍ للحقوق والمصالح، ولا تقديرٍ للعواقِب المُرديات.
تأمَّلوا – عباد الله - السَّرَف الباذِخ والإحصائيَّات الآثِمة في الاستِهلاك، مما يُلقَى في صناديق القِمامة ومُلقَى النِّفايات، وكم بين الأغنياء والفُقراء من فجَوات، لم يكن لها سببٌ إلا الإسرافُ والتبذير، وما أقربَ هذا الاستِهلاك من الهلاك.
وذلك يستدعي الإسهامَ في الإرشاد، والحذرَ من الإفساد، قال اللهُ عزَّ شأنُه: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}، وإن من الإفساد ما يُنشر عبر وسائل التواصل من ألوانِ وأنواعِ الأثاث والمقتنيات، والطعام والمشروبات، في سياق عرض وتفاخر، وكسر للخواطر، ومما يُخاطب به المتابعون أنْ لا يُتبع بصره ويُطيل نظره مستحسنا إلى أحوال الدنيا والممتعين بها، من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء المجملة، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجابا بأبصار المعرضين {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.
عباد الله المؤمنين.. لا تكونوا مسرفين، فإنَّ الإسرافَ يُنبِتُ في النفوس أخلاقًا مرذولة؛ من الجُبن، والخَوَرِ، وقلَّةِ الأمانة، وشِدَّةِ التعلُّقِ باللذَائِذ من العيش، وذلك يُقوِّي الحِرصَ على الحياة، ويُبعِدُ عن مواقِع البذل والفِداء والعطاء، كما أن إنفاق المال في وجوه البر يطيل العمر، ويكسب المودة، ويحصن المال من الجوائح، ويُسعِدُ الخلق، ويُرضِي الخالق، فتَمَتَّعْ عبدَ الله في مال الله في غير إسراف ولا تبذير، والله تعالى جميلٌ يحبُّ الجمال، ولا يحبُّ المسرفين، فلْيُرَ أثرُ نعمة الله عليكم، قال اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " كُلْ مَا شِئْتَ، وَالبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ، أَوْ مَخِيلَةٌ ".
المرفقات
1695886685_الحث على الشكر والتحذير من السرف.docx
1695886685_الحث على الشكر والتحذير من السرف.pdf