الحب النافع

هلال الهاجري
1441/11/17 - 2020/07/08 09:36AM

الحمدُ للهِ الذي جَعلَ حبَّه أشرفَ المكاسِبِ، وأعظمَ المواهِبِ، أحمدُه سبحانَه وأشكرُه على نِعمةِ المَطاعِمِ والمَشارِبِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له المُنزَّهُ عن النَّقائِصِ والمَعايِبِ، خلقَ الإنسانَ من ماءٍ دافِقٍ يخرجُ من بين الصُّلبِ والترائِبِ، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه الدَّاعِي إلى الهُدى والنُّورِ وطَهارةِ النَّفسِ من المَثالِبِ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وصحبِه أَجمعينَ .. أما بَعدُ:

ها هو يخرجُ مُسرعاً من خيمتِه، فيركبُ راحلتَه مُنطلقاً من الباديةِ نحو المدينةِ، ليسَ عندَه كثيرُ عملٍ، وليسَ معهَ كبيرُ علمٍ، ولكنْ معه ما هو أكبرُ من ذلكَ وأعظمُ، حتى إذا وصلَ المدينةَ نزلَ عن راحلتِه، ودخلَ المسجدَ يملأهُ الشَّوقُ والحَنينُ، فإذا رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ يخطُبُ على المنبرِ، فلم يصبرْ على ما جاءَ من أجلِه، فقالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟، فلم يُجبْه رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ، حتى إذا قَضى خُطبتَه وصلاتَه قالَ: (أينَ السَّائلُ عن قِيامِ السَّاعةِ؟)، فقالَ الرَّجلُ: أَنا يا رسولَ اللَّهِ، قالَ: (ما أعددتَ لَها؟)، قالَ: يا رسولَ اللهِ ما أعددتُ لَها كبيرَ صلاةٍ ولا صومٍ إلَّا أنِّي أحبُّ اللَّهَ ورسولَهُ، قَالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)، لا إلهَ إلا اللهُ .. هل رأيتُم ماذا فعلَ حُبُّ اللهِ تعالى بهذا الأعرابيِّ حتى جاءَ من الصَّحراءِ يسألُ عن السَّاعةِ، ولسانُ حالِه يقولُ: أخبرني متى السَّاعةُ؟، هل هي بعيدٌ أم قريبٌ؟، فقد اشتقتُ للقاءِ الحبيبِ.

حبُّ اللهِ تعالى هو الحبُّ النَّافعُ، فليسَ هناكَ من يُحبُّ لذاتِه إلا اللهُ تعالى، وكلُّ ما سِوى اللهِ لا يُحبُّ إلا للهِ، فيا حسرتا على من ضيَّعَ أيامَه في الحبِّ الحرامِ، ويا أسفى على من نثرَ أشواقَه في أبياتِ الغرامِ، ويا خسارةَ من أصابَه بسببِ حبُّ المَخلوقينَ الجنونَ والهُيامَ، وما ذاقَ حُبَّ الخالقِ ذي الجلالِ والإكرامِ.

تركتُ هَوَى لَيلى وسُعْدَى بمَعْزِلِ *** وعُدتُ إلى تَصحيحِ أولِ مَنْزِلِ
ونادتْ بي الأشواقُ مهلاً فهذهِ *** مَنَازِلُ مَنْ تَهْوَىْ رويدكَ فانزلِ

فانزلْ إلى منازلِ محبةِ العظيمِ، وجرِّبْ في الدُّنيا طعمَ النَّعيمِ، وإذا خلا كلُّ حبيبٍ بحبيبِه يُسامرُه شِعراً ونَثراً، فاخْلُ أنتَ باللهِ تعالى شوقاً وذِكراً، وحبَّاً وشُكراً، كما قَالَ مَالكُ بنُ دِينارٍ رحمَه اللهُ: مَساكينُ أهلُ الدُّنيا، خَرجوا مِنها وما ذَاقوا أَطيبَ ما فيها، قِيل له: وما أطيبُ ما فيها، قَالَ: مَعرفةُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ومحبتُهُ.

هل تأملنا يوماً قولَه تعالى: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) .. هُنا تتقطَّعُ أفئدةُ المُحبينَ، وتشتاقُ أرواحُ الصَّالحينَ، شَجرةٌ أصلُها ثابتٌ في قلوبِ أحبابِه المؤمنينَ، وفرعُها يتدلَّى تحتَ عرشِ ربِّ العالمينَ، يقولُ أبو يَزيدَ البُسْطامي رحمَه اللهُ: ليسَ العَجَبُ من حُبي لكَ وأنا عبدٌ فَقيرٌ، إنما العَجَبُ من حُبِّكَ لي وأَنتَ مَلِكٌ قَديرٌ.

إني مَـلأتُ القَلبَ حُبَّاً غَامراً *** لجلالِ وَجهِكَ صَادقاً يَترعرعُ
فاغفر ذُنوبي يا إلهي إنَّني *** ها قد أَتيتُ بأَدمعي أَتوجَّعُ

من ذاقَ منكم يوماً طعمَ الحَلاوةِ؟ .. لا أعني طعمَها بالفمِّ واللِّسانِ، وإنما أعني طعمَها بالقلبِ والجَنانِ، يقولُ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: (ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وجَدَ حلاوَةَ الإيمانِ: أنْ يكونَ اللهُ ورسولُهُ أحبُّ إليه مِمَّا سِواهُما، وأنْ يُحِبَّ المرْءَ لا يُحبُّهُ إلَّا للهِ، وأنْ يَكْرَهَ أنْ يَعودَ في الكُفرِ بعدَ إذْ أنقذَهُ اللهُ مِنْهُ؛ كَما يَكرَهُ أنْ يُلْقى في النارِ)، اللهُ أكبرُ .. إذا كانَ حبُّ اللهِ تعالى ورسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أحبُّ إليكَ من كلِّ شيءٍ، فإنَّكَ ستجدُ طعمَ حَلاوةٍ في العبادةِ والطَّاعةِ، وفي السَّراءِ والضَّراءِ، وفي اليُسرِ والعسرِ، وسيمتلىءُ بالسَّكينةِ والرِّضا قلبُك، وتحبُّ كلَّ ما كتبَه عليكَ ربُّكَ، ولقد سَألَ رَجلٌ الفُضيلَ بنَ عِياضٍ رحمَه اللهُ، فقالَ: يا أبا علي، متى يَبلغُ الرَّجلُ غَايتَه من حُبِّ اللهِ تَعالى؟، فقالَ له الفُضيلُ: إذا كانَ عَطاؤه ومَنعه إيَّاكَ عِندكَ سَواءً، فقد بلغتَ الغايةَ من حبِّه.

وهكذا يعيشُ العبدُ في جنَّةِ الرِّضا، ويفرحُ بكلِّ ما أمرَ اللهُ به وقَضى، ويتقلَّبُ في أقدارِ المحبوبِ على كلِّ حالٍ، حتى لو كتبَ عليه الموتَ لرأى في قضائه جوانبَ الجمالِ، سُئلَ رُويمٌ عن المحبةِ فَقالَ: المُوافقةُ في جَميعِ الأحوالِ، وأَنشدَ:

ولو قلتَ لي مُتْ متُّ سمعاً وطاعةً *** وقلتُ لداعي الموتِ أهلاً ومرحباً

فمرحباً بموتٍ بعدَه لقاءَ الحبيبِ، ولذلكَ لما مَرضَ أَعرابيٌّ، فقِيلَ له: إنَّكَ تَموتُ، قَالَ: إلى أَين يُذهبُ بي؟، قِيلَ: إلى اللهِ، قَالَ: فمَا كَراهتي أن أَذهبَ إلى من لا أَرى الخيرَ إلا مِنه؟، وهكذا هو شوقُ المُحبينَ.

أَقُولُ مَا تَسْمَعُون، وَأسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على فَضلِه وإحسانِه، أَغنانا بحلالِه عن حَرامِه، وكَفانا بفضلِه عمن سواه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، ولا نَعبدُ إلا إياه، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وسلمَ تَسليماً كَثيراً، أما بعدُ:

فالآنَ يا أهلَ الإيمانَ .. هل أنتم مُستعدونَ للامتحانِ؟، امتحانٌ نعرفُ بهِ صِدقَ حُبِّ اللهِ في قلوبِنا.

السُّؤالُ الأولُ: أخبرني عن مِقدارِ اتِّباعِكَ للرَّسولِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ؟ .. لأخبرَكَ بمقدارِ حُبِّكَ للهِ عزَّ وجلَّ، أليسَ هو القائلُ: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ .. فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ).

فكيفَ هو استجابتُك لقولِه تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)، وكيفَ هو امتثالُكَ لقولِه سُبحانَه: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)، فهذا هو الاختبارُ الحقيقيُّ لمحبةِ اللهِ تعالى، طاعتُه في اتِّباعِ رسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.

تَعصي الإِلَهَ وَأَنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ *** هَذا مَحالٌ في القِياسِ بَديعُ
لَو كانَ حُبُّكَ صادِقاً لَأَطَعتَهُ *** إِنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطيعُ

السُّؤالُ الثَّاني: هل في قلبِكَ شيءٌ أحبُّ إليكَ من اللهِ تعالى؟ .. حبُّ الطَّاعةِ والانقيادِ والجَلالِ، حبُّ الذُلِ والعظمةِ والكَمالِ، واسمع لهذه الآيةِ واحذر: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)، انتهت الأسئلةُ، وتستطيعُ أن تبدأَ في الاجابةِ، ومدةُ الاختبارِ هو ما تبَّقى من عُمرِك، وتُسلُّمُ الورقةُ لكَ يومَ القيامةِ للتَّصحيحِ، ويُقالُ لكَ: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا).

اللهمَّ املأ قُلُوبَنا بِحُبِّكَ، وحبِّ العملِ الذي يُقرِّبُنا إلى حُبِّكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، وَالسَّلاَمَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، اللَّهُمَّ نَسْأَلُكَ أَلاَّ تَدَعَ لَنا ذَنْبًا إِلاَّ غَفَرْتَهُ، وَلاَ هَمًّا إِلاَّ فَرَّجْتَهُ، اللهم آمنا في أوطانِنا، وأصلحْ أئمتَنا وولاةَ أُمورِنا، اللهم خُذ بنواصيهم للبرِّ والتَّقوى ومن العملِ ما تَرضى، اللهمَّ أصلح حالَنا وأَحسنْ مآلَنا، اللهمَّ إنِّا نَعوذُ بك من الرِّياءِ والنِّفاقِ، وسُوءِ المُنقلَبِ وسيئِ الأخلاقِ.

المرفقات

الحب-النافع

الحب-النافع

الحب-النافع-2

الحب-النافع-2

المشاهدات 1401 | التعليقات 0