الحب الأعظم خطبة 19 ذو القعدة 1438هـ. (نص + وورد + بي دي إف).

عاصم بن محمد الغامدي
1438/11/19 - 2017/08/11 04:29AM

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي جعلَ المحبةَ إلى الظَّفَرِ بالمحبوبِ سبيلاً، ونَصَبَ طَاعَتَه والخضوعَ لهُ على صدقِ المحبةِ دَليلاً، وفضَّل أهلَ محبتهِ ومحبةِ كتابِه ورسولِه على سائر المحبين تفضيلاً، وصلى الله وسلم على خير خلقه، وخاتم رسله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فإنه مَن اتقى الله وَقَاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن شكره زاده، ومن أقرضه جَزَاه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.

عباد الله:

يجد الإنسانُ السويُّ في نفسِه ميلاً إلى كلِّ من أحسنَ إليه، فهو يحبُّه، ويشتاق إلى لقائه، ويأنس بالجلوس معه، ويبذل ما يزيده قربًا منه.

وأعظمُ الحبِّ، هو حبُّ الله تعالى، الذي لا يصل إليه كثير من الخلق، إنه الحياةُ التي من حُرِمَهَا فهو في عالم الأموات، وإن كان يمشي ويأكل ويتكلم، إنه الضياء الذي من ضَيَّعَهٌ فهو أعمى يتخبط في بحار الظلمات، وإن كان لا يغيب عنه شيءٌ مما حوله، إنه الشفاءُ الذي من فقده فهو يحيا في عالم الأسقام، ويسبح في بحار الأوهام.

حبُّ الله تعالى من أوجبِ الواجباتِ، {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.

إنه الحبُّ الفطريُّ الطبيعيُّ، فالله سبحانه هو المنعم المتفضل، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}.

وهو الحبُّ التعبديُّ الذي ملأ قلوبَ الصالحين، فظهر في أفعالهم وتصرفاتهم.

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا». [رواه البخاري ومسلم].

عباد الله:

من الناس من أخطأ الطريق، فأحبَّ ربَّه بما لم يشرعه له، حتى خرج عن جادة الصواب، أو ادعى الحب وارتكب ما يخالفه فناقض نفسه بنفسه.

فمن العجائب أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وبعضُ الناس يدعي أن للحبِّ مرتبة عالية، إذا وصلها المرء سقطت عنه التكاليف، ومن الغرائب أن يزعم المرءُ الحبَّ وهو يرتكب ما يبغضه ربُّه، من الكذب ونشر الشائعات والفجور واللعن.

حبُّ الله تعالى ليس كلامًا، ولا مشاعرَ جوفاء، بل هو عبادةٌ عظيمةٌ، لها لوازمُ وواجباتٌ، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

فمجرد الزعمِ لا يكفي، بل لابد من تصديق القول بالفعال.

تعصي الإلهَ وأنتَ تزْعمُ حبَّهُ

هذا محالٌ في القياسِ بَديعُ

 

لوْ كانَ حُبُّكَ صادقًا لأطعْتَهُ

إنَّ المحبَّ لمنْ يُحبُّ مُطيعُ

فمن علاماتِ حبِّ الله تعالى:

حبُّ نبيِّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وطاعتُه، واتباعُ سنتِه، والسيرُ على منهجِه، قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ». [رواه البخاري ومسلم].

والقوم الذين يحبهم الله ويحبونه، لا يخافون في الله لومةَ لائم، متواضعون لإخوانهم المؤمنين، أعزةٌ على القوم الكافرين، يجاهدون في سبيل الله أنفُسَهم، والشيطانَ، والكفارَ، والمنافقين والفاسقين، قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم}.

وَ«ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ». [متفق عليه].

وذكرُ المحبوب من أكبر شواهد الحب، فلا يستقيم للمرء أن يكون محبًا وهو لا يذكر محبوبه.

هل يكون محبًا لله من لا يعرف القرآن إلا مرة في الأسبوع، أو فرَّط في ذكره مستغفرًا أو مسبِّحًا أو حامِدًا؟

ألا يستحي المرء أن تكون الحيوانات والجمادات أكثرَ تسبيحًا وذكرًا منه؟

إنَّ ذكرَ الله حياة القلوب، ومن ذكر الله معرفةُ أسمائه ودعاؤه بها، وتأمل آثارها ودلالاتها.

عباد الله:

محبةُ الله تعالى شجرةٌ تغرس في القلب، وتسقى بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم، ثمرتُها الطاعات، والبعد عن المحرمات، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها في سدرة المنتهى، تزيدُ نضارةً بتأمل آيات الله القرآنيةِ، والكونيةِ، والرضا بقضائهِ وقدرهِ.

جعلنا الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، أما بعد عباد الله:

فإن حبَّ العبدِ لربِّه عظيمٌ، وأعظمُ منْه حبُّ الربِّ تبارك وتعالى لعبدِه، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ». [رواه البخاري].

والله سبحانه يحب المحسنين والتوابين والمتطهرين والمتقين والمتوكلين والمقسطين، ولا يحب المعتدين، ولا الكافرين، ولا المختالين الفخورين، ولا الخائنين الأثيمين، ولا الفرحين، ولا المستكبرين، ولا المسرفين، ولا يحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم.

وفي الحديث الصحيح: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ». [رواه مسلم]، وَ«يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ». [رواه البخاري ومسلم]، وَ«يُحِبُّ سَمْحَ البَيْعِ، سَمْحَ الشِّرَاءِ، سَمْحَ القَضَاءِ». [رواه الترمذي وصححه الألباني]. وَ«يُحِبُّ الْكَرَمَ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا». [رواه الطبراني وصححه الألباني]. وَ«أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٍ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دِينًا، أَوْ تُطْرَدُ عَنْهُ جُوعًا». [رواه الطبراني وحسنه الألباني].

فكونوا يا عباد الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأقبلوا عليه وتقربوا إليه، فمن تقرب إليه شبرًا تقرب إليه ذراعًا ومن تقرب إليه ذراعًا تقرب إليه باعًا، ومن أتاه يمشي جاءه هرولة، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.

المرفقات

الأعظم

الأعظم

الأعظم-2

الأعظم-2

المشاهدات 880 | التعليقات 0