الجيل الفريد (2) كيف ربى النبي عليه السلام أصحابه
د. منصور الصقعوب
1437/07/22 - 2016/04/29 03:03AM
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد: لن تجد منقبة إلا وقد حاز الصحابة أعلاها, ولا مكرُمةً إلا وبلغوا رأسها وعُلاها,
فليس في الأمة كالصحابة في الفضل والمعروف والإصابة
لأنهم شاهدوا المختار وعاينوا الأسرار والأنوار
وجاهدوا في الله حتى بانا دين الهدى وقد سما الأديان
وما زال الحديث عن الجيل الفريد, كيف رباهم سيد الورى, وخير من وطئ الثرى, وبأي معالم خرجوا
المربي الأول ; خرّج لنا جيلاً جديراً بالاحتفاء, وسلك مسكاً جديراً بالاعتناء, ونحن إلى ارتسام منهجه أحوجُ وأولى من أن نطوِّف في نظريات التربية الغربية أو الشرقية, فلقد كفينا لو أننا بهديه عنينا.
معشر الكرام: يلحظ كل مطالع لسير ذلك الجيل أن ثمة قضيةً كان لها عناية عند قائدهم ; وعند أصحابه, إنها إتهام النفس, وعدم الاغترار بالعمل.
وما قطع بعض الناس عن العمل إلا حسنَ ظنه بنفسه وعمله, فاغتر بما عنده من قليل طاعةٍ لا يدري أقبلت أم لا؟
قرأ النبي ق قول الحق سبحانه وتعالى (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) [المؤمنون:60] فقالت عائشة يا رسول الله من هؤلاء؟ أهم الذين يزنون, ويسرقون, ويشربون, قال لا يا ابنة الصديق بل هم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ويخافون أن لا يقبل الله منهم .
ووعت عائشة هذا الدرس حتى إذا حضرتها الوفاة أتى إليها ابن عباس فما زال يثني عليها ما هو فيها فقالت له: يا ابن عباس وددت أني خرجت منها كفافاً لا لي ولا عَلي.
أما عمر صاحب رسول الله والمبشر بالجنة في أكثر من موقف فإنه كان يخشى أن يكون من قوم عدّهم رسول الله ق من المنافقين, ولما دخل عليه الناس قبل وفاته يزورونه ما تركوا مأثره من مآثره إلا ذكروها له ليقوى قلبه فقال لهم (( إن المغرور من غررتموه )).
أيها الفضلاء: ومن معالم تربيته ; للجيل تربيتهم على تعظيم النصوص, من كتاب وسنة, لقد أشعرهم أن الآية والحديث إذا وردتا فإنما على المرء التسليم والإذعان, ولو خالف ذلك الهوى, ونازع الرغبات (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)
وإنه لا يزال المرء في نفسك كبيراً حتى تراه يتطاول على الوحيين, فحينها توقن أنه مخذول, وقد حدث ; مرة فقال: «ألا إني أوتيت الكتاب، ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه "
لأجل هذا خرج جيلٌ وقّافٌ, يقف عند الآية والحديث, ويعظم القرآن والسنة أي تعظيم.
فحين غضب عمر ط على عيينة بن حصين, تلى عليه الحرّ بن قيس قوله تعالى {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} ، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، قال ابن عباس: «وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ»
أو لم تسمع أن ابن مغفل رأى رجلاً يخذف بالحصى الصغار فأخبره أن رسول الله نهى عن ذلك, ثم رأه مرة أخرى يخذف فغضب وقال: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ق أَنَّهُ نَهَى عَنِ الخَذْفِ أَوْ كَرِهَ الخَذْفَ، وَأَنْتَ تَخْذِفُ, والله لاَ أُكَلِّمُكَ كَذَا وَكَذَا
هجره لأنه خالف الحديث, وكذا فعل ابن عمر مع ابنه حين عارض ظاهر قوله ;.
فما أحوج المربي اليوم إلى غرس التعظيم للوحيين في قلوب الجيل, فإنه متى ما قرّ ذلك في القلب سهل قيادها, وتحقق تسليمها لأمر ربها, رَبِّ في نفوسهم أن الله حين ينهى عن شيء أو يأمر بأمر فإن ذلك يُمتثل ولا يعارض, ويُذعن له ولا يناقش, لأن الذي من ربنا فيه الخير كله, ودعك من قومٍ يقول قائلهم: أقنعني, أو بعض النصوص تصلح للقرون الماضية ولا تتوافق مع هذا الزمن, فتباً لها ما أسفهها من عقول.
عباد الله: إذا كان المرء متعالياً بمنصبه أو متفاخراً بحسَبه فإن ذلك قاطع عن مكارم الأعمال, وما دخل قلب أحد الكبر والفخر إلا نأى عنه التواضع ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر, وهذا معلم غرسه رسول الله ; في نفوس أصحابه.
أتى إليه رجل وقد عيّره أبو ذر بأن قال له ((يا ابن السوداء)) فشكاه إلى رسول الله ق فقال له ;: أعيرته بأمه!!, إنك امرؤ فيك جاهلية, وقد أثّر ذلك الدرس في أبي ذرّ, حتى كان لا يلبس ثوباً إلا وألبس خادمه مثله.
نعم إن النفس فيها طمع التعالي, ولكنها تحتاج لمن يتعاهدها على التواضع وعدم التعالي, وهذا ما فعله تلميذ رسول الله ق عمر بن الخطاب, فقد ذكر ابن الجوزي في سيرته عن جابر ط أن عمر ط نادى في الناس: الصلاة جامعة, ثم جلس على المنبر فما تكلم حتى امتلأ المسجد, ثم قام فحمد الله وقال: لقد رأيتني أؤاجر نفسي بطعام -أي أعمل أجيراً عند الناس- على ملا بطني من الطعام, ثم أصبحت على ما ترون نزل فقال له ابنه ما حملك على هذا!, فقال عمر: إن أباك أعجبته نفسه فأحب أن يضعها ( ) .
فيا مربي الجيل, إنه درس ما أعظمه, وما أحوج الجيل إلى أن يعيه منذ صغره, تربيته على التواضع للكبير والصغير, وأن لا يتعالى على الناس بشيء, فإن شممت من ابنك تعالياً على غيره فعالجه في مبادئه, فإن هذا إذا كبر أثر أيما أثر.
أيها المسلمون: ومن معالم تربية رسول الله ق لأصحابه أنه غرس فيه نفوسهم: التضحية في سبيل الله والتفاني لنشر دين الله .
إن كل دعوة لا يتفانى أصحابها لأجلها ولا يضحى أبناؤها في سبيل نشرها فإن انتشارها سيبقى محدوداً.
وهذا ما وعاه الصحابة فما إن لَحِقَ رسول الله ق بربه, إلا وخرج الجلّ منهم من المدينة مخلفين وراءهم بلاداً أحبوها ومساكن ألفوها في سبيل أن يصل الدينُ للعالمين بعد وفاة سيد المرسلين.
لقد ضحوا بأموالهم وأوقاتهم بل وبأعمارهم في سبيل رضا الله ورسوله, ولم يمت منهم بالمدينة إلا قلة, بالنسبة لعددهم حتى دفن بعضهم على أسوار القسطنطينية.
ذكر ابن إسحاق أن رجلا من أصحاب رسول الله ق من بني عبد الأشهل قال: شهدت غزوة أحد مع رسول الله ; أنا وأخي فرجعنا جريحين, فلما أذن مؤذن رسول الله بالخروج لمتابعة العدو في غزوة حمراء الأسد, فقلت لأخي: أتفوتنا عزوة مع رسول الله ق!, ووالله ما معنا من دابة وما معنا إلا جريح تقيل, فتحاملنا على جراحنا, وخرجنا فكان إذا عجز وغلب حملته حتى أنهينا إلى المكان .
(( الذي استجابوا لله وللرسول ... ))
وبمثل هذه الصور انتشر الدين وعلت راية المسلمين, وكم نحتاج في مسيرة تربية الجيل إلى إحياء التضحية لديهم لدين الله, بالوقت, وبالمال والجهد, ولا نستكثر ما نبذله لدين ربنا, ففي ذلك شرف الدينا ومجدها وثواب الآخرة وعزها.
اللهم ارض عن صحابة رسولك, واحشرنا معهم.
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
عباد الله: ومن معالم المصطفى ; للجيل الفريد تربيتهم على التوازن في أمورهم, وهو القائل لعبد الله بن عمرو وقد رآه يداوم الصيام: «يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟»، فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «فَلاَ تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ»
وحين سمع أن ثلاثة من الصحابة قال أحدهم لا أتزوج والآخر قال لا أنام بالليل, والثالث قال لا أفطر أتى إليهم ; وقال «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وكان جالساً مع عائشة فمرت بهم امرأةٌ فقالت عائشة : هَذِهِ الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَنَامُ اللَّيْلَ، فَقَالَ رَسُولُ ق: «لَا تَنَامُ اللَّيْلَ خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللهِ لَا يَسْأَمُ اللهُ حَتَّى تَسْأَمُوا» كل هذا كي ينضبط المسلم بين واجباته الدنيوية, وبين عباداته وقرباته, وحقوقه التي عليه, فالمرء عليه تبعات, إن أخلّ بها أثر ذلك عليه وعلى مجتمعه, والإسلام يربي كل امريء أن يقوم بما عليه, وذلك جزء من العبادة, والمجتمع اليوم يشكو ممن يتكل ويخلّ, ويتخلى عن المسؤلية, ومن لا يتوازن في أموره الدينية والدنيوية, فإما أن يجنح للدنيا وينسى حظ الآخرة, أو أن يقبل على العبادة ويقصر في واجباته, والتوازن مطلب رباني في الواجبات والأخلاق وغيرها(وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)
عباد الله: ولقد كان محمد ;حريصاً على أن يغرس في نفوس أصحابه حبه, وما ذاك إلا لأن حبه ; يترتب عليه حبهم لشرعته, ودعوته, حتى كان من خصال الإيمان حب المصطفى ;, ونم طرائق ذوق لذة الإيمان, حبه ;
حدّث عمر ط مرة فقال: يا رسول الله: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ ق: «لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ» فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ ق: «الآنَ يَا عُمَرُ»
بل عاتب القرآن قوماً قدموا محبة الدنيا على الله ورسوله, فقال ربنا في تهديد يخلع القلوب {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} لذلك وجدت الصحابة يحبونه حقاً, ويضحون لأجله صدقاً
لما رجع المسلمون من أحد وقد نالهم ما نالهم, خرج الناس يستفسرون عن ذريتهم ممن اشترك في المعركة, وفيهم امرأة من بني دينار, فلما لقيها من عرفها قالوا لها لقد قتل اليوم أبوك وزوجك وأخوك وابنك وعند كل نعيٍ تقول ما فعل رسول الله؟ فقالوا: هو بحمد الله سالم ٌ, فقالت: أرونيه, فلما رأته قالت: بأبي أنت يا رسول الله كل مصيبة بعدك جلل, لا أبالي إذا سلمت من عطب, فهل رأيت حباً لرسول الله أصدق من هذا الحب.
عباد الله: هؤلاء هم الصحابة, قوم كانوا أول الأمر كفاراً وبعد إسلامهم صاروا أفضل الناس والأمة. والعبرة بكمال النهايات لا بنقض البدايات.
هؤلاء هم الصحابة الذين اختصهم الله لصحبة نبيه, ولن يبلغ أحد من الناس بعدهم مبلغهم ولن يدانيه.
هؤلاء هم الصحابة, الذين أثنى عليهم القرآن في آيات تتلى إلى قيام الساعة, وليس فيهم نخالة, بل كلهم صفوة وخلاصة.
هؤلاء الصحابة, رفقة رسول الله ; وأحبابه, فتباً لقوم قام معتقدهم على بغض الصحابة وسبهم ولعنهم وتكفيرهم وهم الرافضة, كفى الله شرهم وردّ عاديتهم.
هؤلاء هم الصحابة القلّة التي غيرت مجرى التاريخ, والفئة الذين نشروا العدل والدين, والقوم الذين تخرجوا من مدرسة سيد المرسلين.
وما أحوج الأمة اليوم : إلى العود لذلك المعين الصافي والسيرة الغراء, ما أحوج الداعية والأب والمعلم والتاجر, ما أحوج الجميع إلى العود لتلك الحياة, وتلك المواقف, ليروا كيف عاش محمد ; حياته, وكيف ربى المصطفى أصحابة التربية الإيمانية, حتى خرج ذلك الجيل الفريد, وليرتسم مربوا اليوم معالم تربية الأمس, المستقاة من هدي من لا ينطق عن الهوى, والمؤيد بوحي السماء, بدلاً من أن نتلمس أسس التربية عند قومٍ سبقهم نبينا للمعالي, ففي ديننا غنية, وفي أخلاقنا كفاية, وفي هدي رسولنا وكلام ربنا النجاة والسلامة والعزة والكرامة فأين الناهلون.
وبعد فتلك إشارات وشذرات, وأنى لمتحدث عن المربي الأول ومدرسته أن يوفيها حقها في خطبيتن ولا أكثر, لكنه تذكير وإلماح, اللهم صل على محمد وارض عن صحبه الكرام
أما بعد: لن تجد منقبة إلا وقد حاز الصحابة أعلاها, ولا مكرُمةً إلا وبلغوا رأسها وعُلاها,
فليس في الأمة كالصحابة في الفضل والمعروف والإصابة
لأنهم شاهدوا المختار وعاينوا الأسرار والأنوار
وجاهدوا في الله حتى بانا دين الهدى وقد سما الأديان
وما زال الحديث عن الجيل الفريد, كيف رباهم سيد الورى, وخير من وطئ الثرى, وبأي معالم خرجوا
المربي الأول ; خرّج لنا جيلاً جديراً بالاحتفاء, وسلك مسكاً جديراً بالاعتناء, ونحن إلى ارتسام منهجه أحوجُ وأولى من أن نطوِّف في نظريات التربية الغربية أو الشرقية, فلقد كفينا لو أننا بهديه عنينا.
معشر الكرام: يلحظ كل مطالع لسير ذلك الجيل أن ثمة قضيةً كان لها عناية عند قائدهم ; وعند أصحابه, إنها إتهام النفس, وعدم الاغترار بالعمل.
وما قطع بعض الناس عن العمل إلا حسنَ ظنه بنفسه وعمله, فاغتر بما عنده من قليل طاعةٍ لا يدري أقبلت أم لا؟
قرأ النبي ق قول الحق سبحانه وتعالى (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) [المؤمنون:60] فقالت عائشة يا رسول الله من هؤلاء؟ أهم الذين يزنون, ويسرقون, ويشربون, قال لا يا ابنة الصديق بل هم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ويخافون أن لا يقبل الله منهم .
ووعت عائشة هذا الدرس حتى إذا حضرتها الوفاة أتى إليها ابن عباس فما زال يثني عليها ما هو فيها فقالت له: يا ابن عباس وددت أني خرجت منها كفافاً لا لي ولا عَلي.
أما عمر صاحب رسول الله والمبشر بالجنة في أكثر من موقف فإنه كان يخشى أن يكون من قوم عدّهم رسول الله ق من المنافقين, ولما دخل عليه الناس قبل وفاته يزورونه ما تركوا مأثره من مآثره إلا ذكروها له ليقوى قلبه فقال لهم (( إن المغرور من غررتموه )).
أيها الفضلاء: ومن معالم تربيته ; للجيل تربيتهم على تعظيم النصوص, من كتاب وسنة, لقد أشعرهم أن الآية والحديث إذا وردتا فإنما على المرء التسليم والإذعان, ولو خالف ذلك الهوى, ونازع الرغبات (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)
وإنه لا يزال المرء في نفسك كبيراً حتى تراه يتطاول على الوحيين, فحينها توقن أنه مخذول, وقد حدث ; مرة فقال: «ألا إني أوتيت الكتاب، ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه "
لأجل هذا خرج جيلٌ وقّافٌ, يقف عند الآية والحديث, ويعظم القرآن والسنة أي تعظيم.
فحين غضب عمر ط على عيينة بن حصين, تلى عليه الحرّ بن قيس قوله تعالى {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} ، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، قال ابن عباس: «وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ»
أو لم تسمع أن ابن مغفل رأى رجلاً يخذف بالحصى الصغار فأخبره أن رسول الله نهى عن ذلك, ثم رأه مرة أخرى يخذف فغضب وقال: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ق أَنَّهُ نَهَى عَنِ الخَذْفِ أَوْ كَرِهَ الخَذْفَ، وَأَنْتَ تَخْذِفُ, والله لاَ أُكَلِّمُكَ كَذَا وَكَذَا
هجره لأنه خالف الحديث, وكذا فعل ابن عمر مع ابنه حين عارض ظاهر قوله ;.
فما أحوج المربي اليوم إلى غرس التعظيم للوحيين في قلوب الجيل, فإنه متى ما قرّ ذلك في القلب سهل قيادها, وتحقق تسليمها لأمر ربها, رَبِّ في نفوسهم أن الله حين ينهى عن شيء أو يأمر بأمر فإن ذلك يُمتثل ولا يعارض, ويُذعن له ولا يناقش, لأن الذي من ربنا فيه الخير كله, ودعك من قومٍ يقول قائلهم: أقنعني, أو بعض النصوص تصلح للقرون الماضية ولا تتوافق مع هذا الزمن, فتباً لها ما أسفهها من عقول.
عباد الله: إذا كان المرء متعالياً بمنصبه أو متفاخراً بحسَبه فإن ذلك قاطع عن مكارم الأعمال, وما دخل قلب أحد الكبر والفخر إلا نأى عنه التواضع ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر, وهذا معلم غرسه رسول الله ; في نفوس أصحابه.
أتى إليه رجل وقد عيّره أبو ذر بأن قال له ((يا ابن السوداء)) فشكاه إلى رسول الله ق فقال له ;: أعيرته بأمه!!, إنك امرؤ فيك جاهلية, وقد أثّر ذلك الدرس في أبي ذرّ, حتى كان لا يلبس ثوباً إلا وألبس خادمه مثله.
نعم إن النفس فيها طمع التعالي, ولكنها تحتاج لمن يتعاهدها على التواضع وعدم التعالي, وهذا ما فعله تلميذ رسول الله ق عمر بن الخطاب, فقد ذكر ابن الجوزي في سيرته عن جابر ط أن عمر ط نادى في الناس: الصلاة جامعة, ثم جلس على المنبر فما تكلم حتى امتلأ المسجد, ثم قام فحمد الله وقال: لقد رأيتني أؤاجر نفسي بطعام -أي أعمل أجيراً عند الناس- على ملا بطني من الطعام, ثم أصبحت على ما ترون نزل فقال له ابنه ما حملك على هذا!, فقال عمر: إن أباك أعجبته نفسه فأحب أن يضعها ( ) .
فيا مربي الجيل, إنه درس ما أعظمه, وما أحوج الجيل إلى أن يعيه منذ صغره, تربيته على التواضع للكبير والصغير, وأن لا يتعالى على الناس بشيء, فإن شممت من ابنك تعالياً على غيره فعالجه في مبادئه, فإن هذا إذا كبر أثر أيما أثر.
أيها المسلمون: ومن معالم تربية رسول الله ق لأصحابه أنه غرس فيه نفوسهم: التضحية في سبيل الله والتفاني لنشر دين الله .
إن كل دعوة لا يتفانى أصحابها لأجلها ولا يضحى أبناؤها في سبيل نشرها فإن انتشارها سيبقى محدوداً.
وهذا ما وعاه الصحابة فما إن لَحِقَ رسول الله ق بربه, إلا وخرج الجلّ منهم من المدينة مخلفين وراءهم بلاداً أحبوها ومساكن ألفوها في سبيل أن يصل الدينُ للعالمين بعد وفاة سيد المرسلين.
لقد ضحوا بأموالهم وأوقاتهم بل وبأعمارهم في سبيل رضا الله ورسوله, ولم يمت منهم بالمدينة إلا قلة, بالنسبة لعددهم حتى دفن بعضهم على أسوار القسطنطينية.
ذكر ابن إسحاق أن رجلا من أصحاب رسول الله ق من بني عبد الأشهل قال: شهدت غزوة أحد مع رسول الله ; أنا وأخي فرجعنا جريحين, فلما أذن مؤذن رسول الله بالخروج لمتابعة العدو في غزوة حمراء الأسد, فقلت لأخي: أتفوتنا عزوة مع رسول الله ق!, ووالله ما معنا من دابة وما معنا إلا جريح تقيل, فتحاملنا على جراحنا, وخرجنا فكان إذا عجز وغلب حملته حتى أنهينا إلى المكان .
(( الذي استجابوا لله وللرسول ... ))
وبمثل هذه الصور انتشر الدين وعلت راية المسلمين, وكم نحتاج في مسيرة تربية الجيل إلى إحياء التضحية لديهم لدين الله, بالوقت, وبالمال والجهد, ولا نستكثر ما نبذله لدين ربنا, ففي ذلك شرف الدينا ومجدها وثواب الآخرة وعزها.
اللهم ارض عن صحابة رسولك, واحشرنا معهم.
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
عباد الله: ومن معالم المصطفى ; للجيل الفريد تربيتهم على التوازن في أمورهم, وهو القائل لعبد الله بن عمرو وقد رآه يداوم الصيام: «يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟»، فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «فَلاَ تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ»
وحين سمع أن ثلاثة من الصحابة قال أحدهم لا أتزوج والآخر قال لا أنام بالليل, والثالث قال لا أفطر أتى إليهم ; وقال «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وكان جالساً مع عائشة فمرت بهم امرأةٌ فقالت عائشة : هَذِهِ الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَنَامُ اللَّيْلَ، فَقَالَ رَسُولُ ق: «لَا تَنَامُ اللَّيْلَ خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللهِ لَا يَسْأَمُ اللهُ حَتَّى تَسْأَمُوا» كل هذا كي ينضبط المسلم بين واجباته الدنيوية, وبين عباداته وقرباته, وحقوقه التي عليه, فالمرء عليه تبعات, إن أخلّ بها أثر ذلك عليه وعلى مجتمعه, والإسلام يربي كل امريء أن يقوم بما عليه, وذلك جزء من العبادة, والمجتمع اليوم يشكو ممن يتكل ويخلّ, ويتخلى عن المسؤلية, ومن لا يتوازن في أموره الدينية والدنيوية, فإما أن يجنح للدنيا وينسى حظ الآخرة, أو أن يقبل على العبادة ويقصر في واجباته, والتوازن مطلب رباني في الواجبات والأخلاق وغيرها(وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)
عباد الله: ولقد كان محمد ;حريصاً على أن يغرس في نفوس أصحابه حبه, وما ذاك إلا لأن حبه ; يترتب عليه حبهم لشرعته, ودعوته, حتى كان من خصال الإيمان حب المصطفى ;, ونم طرائق ذوق لذة الإيمان, حبه ;
حدّث عمر ط مرة فقال: يا رسول الله: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ ق: «لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ» فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ ق: «الآنَ يَا عُمَرُ»
بل عاتب القرآن قوماً قدموا محبة الدنيا على الله ورسوله, فقال ربنا في تهديد يخلع القلوب {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} لذلك وجدت الصحابة يحبونه حقاً, ويضحون لأجله صدقاً
لما رجع المسلمون من أحد وقد نالهم ما نالهم, خرج الناس يستفسرون عن ذريتهم ممن اشترك في المعركة, وفيهم امرأة من بني دينار, فلما لقيها من عرفها قالوا لها لقد قتل اليوم أبوك وزوجك وأخوك وابنك وعند كل نعيٍ تقول ما فعل رسول الله؟ فقالوا: هو بحمد الله سالم ٌ, فقالت: أرونيه, فلما رأته قالت: بأبي أنت يا رسول الله كل مصيبة بعدك جلل, لا أبالي إذا سلمت من عطب, فهل رأيت حباً لرسول الله أصدق من هذا الحب.
عباد الله: هؤلاء هم الصحابة, قوم كانوا أول الأمر كفاراً وبعد إسلامهم صاروا أفضل الناس والأمة. والعبرة بكمال النهايات لا بنقض البدايات.
هؤلاء هم الصحابة الذين اختصهم الله لصحبة نبيه, ولن يبلغ أحد من الناس بعدهم مبلغهم ولن يدانيه.
هؤلاء هم الصحابة, الذين أثنى عليهم القرآن في آيات تتلى إلى قيام الساعة, وليس فيهم نخالة, بل كلهم صفوة وخلاصة.
هؤلاء الصحابة, رفقة رسول الله ; وأحبابه, فتباً لقوم قام معتقدهم على بغض الصحابة وسبهم ولعنهم وتكفيرهم وهم الرافضة, كفى الله شرهم وردّ عاديتهم.
هؤلاء هم الصحابة القلّة التي غيرت مجرى التاريخ, والفئة الذين نشروا العدل والدين, والقوم الذين تخرجوا من مدرسة سيد المرسلين.
وما أحوج الأمة اليوم : إلى العود لذلك المعين الصافي والسيرة الغراء, ما أحوج الداعية والأب والمعلم والتاجر, ما أحوج الجميع إلى العود لتلك الحياة, وتلك المواقف, ليروا كيف عاش محمد ; حياته, وكيف ربى المصطفى أصحابة التربية الإيمانية, حتى خرج ذلك الجيل الفريد, وليرتسم مربوا اليوم معالم تربية الأمس, المستقاة من هدي من لا ينطق عن الهوى, والمؤيد بوحي السماء, بدلاً من أن نتلمس أسس التربية عند قومٍ سبقهم نبينا للمعالي, ففي ديننا غنية, وفي أخلاقنا كفاية, وفي هدي رسولنا وكلام ربنا النجاة والسلامة والعزة والكرامة فأين الناهلون.
وبعد فتلك إشارات وشذرات, وأنى لمتحدث عن المربي الأول ومدرسته أن يوفيها حقها في خطبيتن ولا أكثر, لكنه تذكير وإلماح, اللهم صل على محمد وارض عن صحبه الكرام
عوض القحطاني
جزاك الله خير على ابداعك وحسن اسلوبك
تعديل التعليق