الجنة أقرب إلى أحدكم من شِراك نعله، والنار مثل ذلك

محمد بن عبدالله التميمي
1444/03/24 - 2022/10/20 20:08PM

  الحمد لله الذي وفق من ارتضاه لطاعته، وهدى من اصطفاه لحسن عبادته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له داوى بنعمته من يئِسَ من أسقامِ علته، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه فضل على الله على خليقته، وشرف المرضيين بصحبته، وأنعم على الموفقين باتباعه على سنته، جعلنا الله منهم بفضله ومنته، صلى الله وسلم عليه وعليهم وعلينا إلى يوم الجزاء الحسن برضوانه وجنته والعقاب بناره وغَضبته، أما بعد: فاتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ ﴿ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَقُولُوا۟ قَوۡلࣰا سَدِیدࣰا ۝٧٠ یُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَـٰلَكُمۡ وَیَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِیمًا﴾. عباد الله.. خلقَ الله الجنة وجعلَها دار أوليائِه، ومقر أصفيائه، ملأها بالرحمة والكرامة والرضوان، وسماها دار السلام، دارٌ لا ينفَدُ نعيمُها ولا يَبِيد، دارٌ فيها من كل خيرٍ مَزيد، رغَّبَ الله فيها، ودعا إليها، قد تشوَّقَت لطالِبِيها، وتزَيَّنَت لمُريدِيها، ونطقَت أدلَّةُ الكتاب والسُّنَّة بوصفِ ما فيها. فيا سعادةَ ساكنِيها، ويا فوزَ وارِثِيها. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله تعالى: أعددتُ لعبادي لصالحِين ما لا عينٌ رأَت، ولا أُذنٌ سمِعَت، ولا خطَر على قلبِ بشر»؛ متفق عليه. دارٌ عظُم بناؤُها، بناؤُها لبِنَةُ ذهبٍ ولبِنَةُ فِضَّة، ومِلاطُها المِسكُ الأذفَر، وحَصباؤُها اللُّؤلؤُ والجوهَر، وترابُها الزَّعفَران، من يدخلُها ينعَمُ ولا يبأَس، ويخلُدُ ولا يموت، لا تبلَى ثِيابُه، ولا يفنَى شبابُه. وأولُ من يقرعُ بابَ الجنة هو نبيُّنا وسيِّدُنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، فيقول له الخازِنُ: من أنت؟ فيقول: «محمد». فيقول: أُمِرتُ ألا أفتحَ لأحدٍ قبلَكَ. صلَّى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمدٍ. وأولُ زُمرةٍ يدخُلون الجنةَ على صُورة القَمر ليلة البدر، والذين يلُونَهم على أشدِّ كوكبٍ دُرِّيٍّ في السماء إضاءَةً، لا يبُولون ولا يتغوَّطُون ولا يمتخِطون ولا يتفِلُون، أمشاطُهم الذهب، ورشحهُم المِسك، يُسبِّحون اللهَ بُكرةً وعشِيًّا، يُهلَمون التسبيح كما يُهلَمون النفَس. عباد الله.. إذا سألتُم اللهَ فاسألُوه الفِردوسَ؛ فإنه وسطُ الجنة، وأعلى الجنة، وفوقَه عرشُ الرحمن، ومنه تُفجَّرُ أنهارُ الجنة، وأعظمُ الأنهار وأحلاها وأحسنُها نهرُ الكوثر، جعلَه الله مكرمةً لنبيِّنا وسيِّدنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، حافَّتاه قِبابُ اللُّؤلؤ المُجوَّف، وتربتُها مِسكةٌ ذفِرَة، وحَصباؤُه اللُّؤلؤ، ماؤُه أبيضُ من اللبن، وأحلى من العسل، آنيتُه كعَدَد النُّجوم. وحوضُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في أرض الموقف، عرضُه مثلُ طولِه ما بين ناحِيَتيه مسيرةُ شهرٍ، يشخُبُ فيه مِيزابان من الجنة، يَرِدُه أهلُ الإيمان، من شرِبَ منه لم يظمَأْ بعدَه أبدًا، وليُذادَنَّ عنه أُناسٌ غيَّرُوا وبدَّلوا وأحدَثُوا. فالثباتَ الثبات. وإن الله - عز وجل - يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبَّيك ربَّنا وسعدَيك، والخيرُ في يدَيك. فيقول: هل رضِيتُم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضَى يا ربَّنا، وقد أعطَيتَنا ما لم تُعطِ أحدًا من خلقِك. فيقول: ألا أُعطِيكم أفضلَ من ذلك؟ فيقولون: وأيُّ شيءٍ أفضلُ من ذلك؟ فيقول: أُحِلُّ عليكم رِضوانِي فلا أسخَطُ عليكم بعدَه أبدًا. وإن العطاءَ الأعظم، والنعيمَ الأكبر الذي يتضاءَلُ أمامَه كلُّ نعيمٍ هو النَّظرُ إلى وجهِ الله الكريم؛ فعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظرَ إلى القمر ليلةَ البدر، وقال: «إنكم سترَون ربَّكم عِيانًا كما ترَون هذا القمرَ، لا تُضامُون في رُؤيتِه»؛ متفق عليه. وما بين القوم وبين أن ينظُروا إلى ربِّهم إلى رِداءُ الكِبرياء على وجهه في جنَّة عدنٍ، ويُنادِي مُنادٍ: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعِدًا يُريد أن يُنجِزَكمُوه. فيقولون: ما هو؟ ألم يُثقِّل موازِينَنا، ويُبيِّض وجوهَنا، ويُدخِلنا الجنة، ويُزحزِحنا عن النار؟! فيكشِفُ الحِجاب، فينظرُون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إليه. تلك بعضُ أوصافِ الجنة ونعيمِها؛ فكيف يُفرِّطُ في هذا النعيمِ المُفرِّطُ لأجل دُنيا دنِيَّة قد أفِدَ منها الترحُّل، وأزِفَ عنها التزيُّل؟! ولم يبقَ منها إلا حمأةُ شرٍّ، وصُبابَةُ كَدَر. جعلَني الله وإياكم من أهل السعادة، ورزَقَنا الحُسنى وزيادة. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه كان للأوابين غفورًا.     الخطبة الثانية الحمد لله ذي العزِّ المجيد والبطش الشديد، المنتقم ممَّن عصاه بالنار بعد الإنذار بها والوعيد، المُكرِم مَنْ خافه واتَّقاه بدارٍ فيها من كل خيرٍ مزيد: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أهلُ الحمد والثَّناء والتَّمجيد، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبده ورسوله الدَّاعي إلى التوحيد، المحذر لمن عصا بنار تلظى بدوام الوقيد، المبشر من أطاع بدار لا ينفد نعيمها ولا يبيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً وسلامًا لا يزالان على كدِّ الجديدين في تجديد. أما بعد: فاتقوا الله حقَّ تقاته، وبادروا بالسَّعي إلى مرضاته، والبعد عن أسباب غضبه وعقابه. عباد الله.. الجنة أقرب إلى أحدكم من شِراك نعله، والنار مثل ذلك، وناركم هذه التي توقدون جزءٌ واحدٍ من سبعين جزءًا من نار جهنم، فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا، كلها مثل حرِّها، وإنَّ ما تجدون من حرِّ الصيف وهجير القيظ نَفَسٌ من أنفاسها، يذكِّركم بها. يؤتَى بجهنَّم يوم القيامة تُقاد، لها سبعون ألف زمام، مع كل زمامٍ سبعون ألف مَلَك يجرُّونها، يؤتَى بها تُفصح عن شدِّة الغيظ والغضب، وتجثو الأمم حينئذٍ على الرُّكَب، ويتذكَّر الإنسان سعيه وأنى له الذكرى: (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) ويُنصب الصراط على متن جهنم، دَحْضٌ مَزلَّةٌ، فيه خطاطيف وكلاليب وحَسَك، فيمر المؤمنون على قدر أعمالهم كطرف العين، وكالبرق، وكالرِّيح، وكالطَّيْر، وكأجاويد الخيل والرِّكاب، فناجٍ مسلَّم، ومخدوشٌ مرسَل، ومكدوسٌ في نار جهنم. يُساق أهلها إليها، ويُدفعون إليها دفعًا: (يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ)، النار تغلي بهم كغلي القُدور: (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ)، يستغيثون من الجوع فيغاثون بأخبث طعامٍ أُعدَّ لأهل المعاصي والآثام: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ). ويُغاثون بطعامٍ من ضريعٍ، لا يُسمن ولا يُغني من جوع، ويغاثون من غِسْلِين أهل النار، وهو صديدهم، فإذا انقطعت أعناقهم عطشًا وظمأ سُقُوا من عينٍ آنية -قد آن حرُّها- وأُغيثوا بحميمٍ يقطِّع أمعاءهم: (بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا). نارٌ لا تُطفأ، ونَفْسٌ لا تموت: (لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا) وأهل النارِ وهم فيها يتلاومون ويتلاعنون ويتكاذبون: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا)، ويقول مَنْ عشي عن ذكر الرحمن لقرينه الذي صدَّه عن القرآن وزيَّن له العصيان: (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ)، ولن ينفعهم ذلك؛ لأنهم في العذاب مشتركون، ولكلٍّ ضعفٌ ولكن لا يعلمون. جعلني الله وإياكم من عتقائه من النار، وسلك بنا سبيل المقربين والأبرار.

المرفقات

1666285706_الجنة أقرب إلى أحدكم من شِراك نعله، والنار مثل ذلك.docx

المشاهدات 1236 | التعليقات 0