الجمعة 6 /12 / 1439 الحج المبرور

الحج المبرور
6 / 12 / 1439هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ؛ شَرَعَ الشَّرَائِعَ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَجَعَلَهَا سَبَبًا لِلْفَوْزِ يَوْمَ الْمَعَادِ، فَمَنِ الْتَزَمَهَا سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ عَارَضَهَا شَقِيَ فِيهِمَا، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ عَلِمَ ذُنُوبَ عِبَادِهِ فَشَرَعَ لَهُمُ الْمُكَفِّرَاتِ، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابَ الْخَيْرَاتِ، فَلَا يُحْرَمُ مَغْفِرَةَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا مَحْرُومٌ، وَلَا يُبْعَدُ عَنْ رَحْمَتِهِ إِلَّا شَقِيٌّ مَذْمُومٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ حَجَّ حَجَّةً وَاحِدَةً وَدَّعَ فِيهَا أُمَّتَهُ فَقَالَ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» فَلَحِقَ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى بَعْدَ حَجَّتِهِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَسُمِّيَتْ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِهِ وَتَكْبِيرِهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْمُبَارَكَةِ؛ فَإِنَّهَا الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ [الْحَجِّ: 28]. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
أَيُّهَا النَّاسُ: يَسْتَعِدُّ مَنْ نَوَى الْحَجَّ لِأَدَاءِ مَنَاسِكِهِ، وَقَدِ امْتَلَأَ الْحَرَمُ وَفِجَاجُ مَكَّةَ بِالْحُجَّاجِ الَّذِينَ تَوَافَدُوا مِنْ سَائِرِ الْأَقْطَارِ، وَبَعْدَ غَدٍ تَبْدَأُ رِحْلَتُهُمْ فِي الْمَشَاعِرِ الْمُقَدَّسَةِ وَتَمْتَلِئُ بِهِمْ مِنًى مُلَبِّينَ وَمُكَبِّرِينَ، وَأَهْلُ الْأَمْصَارِ يَعِيشُونَ مَعَهُمْ بِقُلُوبِهِمْ، وَيَرْمُقُونَهُمْ عَبْرَ الشَّاشَاتِ بِأَبْصَارِهِمْ، فَكَمْ مِنْ أَعْيُنٍ تَفِيضُ بِالدَّمْعِ، وَكَمْ مِنْ أَلْسُنٍ تُتَمْتِمُ بِالدُّعَاءِ، وَكَمْ مِنْ قُلُوبٍ تَتَفَتَّتُ شَوْقًا إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَحَسْبُ الْمُنْقَطِعِ عَنْ ذَلِكَ بِعُذْرٍ شَوْقُهُ إِلَيْهِ، كَيْفَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
هَذَا؛ وَلَيْسَ كُلُّ حَاجٍّ حَاجًّا، وَلَا كُلُّ مُعْتَمِرٍ مُعْتَمِرًا؛ فَلِلْعِبَادَةِ شُرُوطٌ وَأَرْكَانٌ وَوَاجِبَاتٌ يَجِبُ إِتْمَامُهَا، وَلَهَا رُوحٌ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ حَيَّةً بِهَا، وَرُوحُهَا الْإِخْبَاتُ وَالْخُشُوعُ، وَلَهَا مَقَاصِدُ لَا بُدَّ لِلْقَاصِدِ مِنْ تَحْقِيقِهَا، فَيَكُونُ حَالُهُ بَعْدَ الْعِبَادَةِ خَيْرًا مِنْ حَالِهِ قَبْلَهَا. وَالْمُلَاحَظُ فِي أَحَادِيثِ الْحَجِّ وَصْفُ كَمَالِهِ بِالْبِرِّ، وَتَرْتِيبُ الْجَزَاءِ الْأَعْلَى عَلَى كَوْنِ الْحَجِّ مَبْرُورًا، فَمَا هُوَ الْحَجُّ الْمَبْرُورُ؟ وَمَا فَضْلُهُ وَجَزَاؤُهُ؟!
فَأَمَّا فَضْلُهُ وَجَزَاؤُهُ فَجَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «... الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: لَا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَهَذَا شَيْءٌ مِنْ فَضْلِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ، وَأَمَّا صِفَتُهُ وَبُلُوغُهُ وَتَحْقِيقُهُ فَيَكُونُ بِأُمُورٍ عِدَّةٍ:
أَوَّلُهَا: الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ تَعَالَى؛ ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [الْبَقَرَةِ: 196]، فَلَا يَكُونُ الْبَاعِثُ عَلَى حَجِّهِ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ. وَيَكْثُرُ الرِّيَاءُ فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ ظَاهِرٌ، وَشَعِيرَةٌ كَبِيرَةٌ، وَالنَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ، وَيَتَنَاقَلُونَ صُوَرَ الْحُجَّاجِ الثَّابِتَةَ وَالْمُتَحَرِّكَةَ، وَوَسَائِلُ الْإِعْلَامِ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى نَقْلِهِ وَإِشْهَارِهِ. وَإِذَا كَانَ يَحُجُّ لِأَجْلِ غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ مَادِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ لَمْ يَكُنْ حَجُّهُ لِلَّهِ تَعَالَى، قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «مَا أَكْثَرَ الْحَاجَّ! فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا أَقَلَّهُمْ! ثُمَّ رَأَى رَجُلًا عَلَى بَعِيرٍ عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ خِطَامُهُ حِبَالٌ، فَقَالَ: لَعَلَّ هَذَا». وَقَالَ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «الْحَاجُّ قَلِيلٌ، وَالرُّكْبَانُ كَثِيرٌ، مَا أَكْثَرَ مَنْ يَعْمَلُ الْخَيْرَ، وَلَكِنْ مَا أَقَلَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ». وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَثَانِيهَا: إِتْمَامُ النُّسُكِ عَلَى وَفْقِ هَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَمَنْ فَرَّطَ فِي أَدَاءِ النُّسُكِ، وَأَخَلَّ بِشُرُوطِ الْحَجِّ أَوْ أَرْكَانِهِ أَوْ وَاجِبَاتِهِ لَمْ يَكُنْ حَجُّهُ مَبْرُورًا، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ فِي حَجَّتِهِ أَنْ يَأْخُذُوا عَنْهُ الْمَنَاسِكَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِيَعْمَلُوا بِهَا وَيَنْقُلُوهَا إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ بَلَغَتْنَا الْمَنَاسِكُ كَامِلَةً تَامَّةً بِتَمَامِ الدِّينِ وَكَمَالِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْنَا الْإِذْعَانُ وَالِانْقِيَادُ وَالِامْتِثَالُ.
وَثَالِثُهَا: أَنْ يَحُجَّ بِمَالٍ حَلَالٍ؛ لِأَنَّ الْمَنَاسِكَ قُرْبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَالْمَنَاسِكُ أَعْمَالٌ وَأَذْكَارٌ وَدُعَاءٌ، وَيُخْشَى مِنْ رَدِّهَا إِذَا كَانَ صَاحِبُهَا يَسْتَعِينُ بِنَفَقَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَى أَدَائِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلَ: «يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَرَابِعُهَا: أَنْ يَحْذَرَ مِنَ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ أَثْنَاءَ أَدَاءِ النُّسُكِ؛ فَإِنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَى اجْتِنَابِهَا لِمَنْ تَلَبَّسَ بِالنُّسُكِ ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [الْبَقَرَةِ: 197]، وَقَدْ رُتِّبَ عَلَى ضَبْطِ النَّفْسِ عَنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ مَغْفِرَةُ مَا مَضَى مِنَ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْجَزَاءِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَنَهَى سُبْحَانَهُ عَنِ الرَّفَثِ، وَهُوَ الْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ، وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ غَضَّ الْبَصَرِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ جِهَادِ النَّفْسِ فِي الْحَجِّ؛ حَيْثُ كَثْرَةُ النِّسَاءِ الْحَاجَّاتِ. وَيَكْثُرُ مِنْ بَعْضِ الْحُجَّاجِ الْأُنْسُ فِي مَجَالِسِهِمْ وَمُخَيَّمَاتِهِمْ بِالْحَدِيثِ عَنِ النِّسَاءِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي، وَيُخْشَى فَوَاتُ الْبِرِّ فِي الْحَجِّ بِسَبَبِهِ؛ إِذْ يَنْبَغِي أَنْ يَشْغَلَ الْحَاجُّ أَوْقَاتَهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِكْرِهِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ.
وَالْفُسُوقُ هُوَ الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعَاصِيهِ، وَلَا سِيَّمَا مَا يَخْتَصُّ بِالنُّسُكِ، كَمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ. وَبَعْضُ الْحَجَّاجِ يَتَسَاهَلُونَ فِي انْتِهَاكِهَا بِلَا حَاجَةٍ، وَبَعْضُهُمْ يَتَسَاهَلُونَ فِي فُسُوقِ الْقَوْلِ مِنْ غَيْبَةٍ وَنَمِيمَةٍ وَكَذِبٍ وَنَحْوِهَا. وَمَا أَكْثَرَ مَا يَقَعُ مِنَ الْجِدَالِ فِي الْحَجِّ، سَوَاءٌ فِي مَسَائِلِ الْحَجِّ وَالْخَوْضِ فِيهَا بِلَا عِلْمٍ، أَوِ الْجِدَالِ حَالَ الزِّحَامِ، أَوِ الْجِدَالِ بِاخْتِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِ الْحَمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَالْخَيْمَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى أُمُورِ تَكْيِيفِهَا أَوْ إِنَارَتِهَا أَوْ تَرْتِيبِ الْمَتَاعِ فِيهَا، أَوَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْهَامِشِيَّةِ، وَلَا يَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْجِدَالِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَثُرَ الْخَوْضُ فِيهَا، ثُمَّ تَطَوَّرَ الْجِدَالُ إِلَى اخْتِلَافٍ فَخِصَامٍ.
وَخَامِسُهَا: الِاجْتِهَادُ فِي أَعْمَالِ الْخَيْرِ الْمَحْضَةِ كَالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَمَا تَعَدَّى نَفْعُهَا كَإِطْعَامِ الطَّعَامِ، وَسَقْيِ الْمَاءِ، وَدَلَالَةِ التَّائِهِ، وَإِرْشَادِ الْجَاهِلِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبَذْلِ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنِ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ حَرَّضَ سُبْحَانَهُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ فَقَالَ: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [الْبَقَرَةِ: 197].
فَحَرِيٌّ بِمَنْ يَسْتَعِدُّ لِلْحَجِّ أَنْ يَتَعَلَّمَ بِرَّهُ، وَأَنْ يَلْزَمَ فِي نُسُكِهِ مَرْضَاةَ رَبِّهِ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ مَا اسْتَطَاعَ فِي تَكْمِيلِهِ؛ لِيَكُونَ حَجُّهُ مَبْرُورًا.
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَقْبَلَ مِنَّا وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، وَأَنْ يَحْفَظَ الْحُجَّاجَ وَيَرُدَّهُمْ سَالِمِينَ غَانِمِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: 123].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنْ ظَفِرَ أَهْلُ الْمَوْسِمِ بِالْحَجِّ وَمَا فِيهِ مِنْ شَعَائِرَ عَظِيمَةٍ، وَأَعْمَالٍ جَلِيلَةٍ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ شَرَعَ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ عِبَادَاتٍ كَثِيرَةً فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْمُبَارَكَةِ، وَمِنْهَا صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْهَا: صَلَاةُ الْعِيدِ، وَالْأُضْحِيَّةُ، وَهِيَ أَعْظَمُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمُؤْمِنُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ فَلَا يَتْرُكْهَا، وَذَبْحُهَا أَفْضَلُ مِنَ التَّصَدُّقِ بِثَمَنِهَا، وَالْأُضْحِيَّةُ الْوَاحِدَةُ تَكْفِي أَهْلَ الْبَيْتِ الْوَاحِدِ، وَيَجِبُ الْحَذَرُ مِنَ الْمُبَاهَاةِ بِتَكْثِيرِهَا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشٍ عَنْهُ وَعَنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَضَحَّى بِكَبْشٍ عَنْ أُمَّتِهِ، وَفَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَاسِعٌ، وَجَاءَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ: «كَيْفَ كَانَتِ الضَّحَايَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ حَتَّى تَبَاهَى النَّاسُ، فَصَارَتْ كَمَا تَرَى» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَظِّمُوا اللَّهَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ بِكَثْرَةِ الطَّاعَاتِ، وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الْحَجِّ: 30]، ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الْحَجِّ: 32].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات

المبرور-مشكولة

المبرور-مشكولة

المبرور

المبرور

المشاهدات 2526 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا