الجمعة 13 / 12 / 1439 أسباب زوال العقوبة

أسباب زوال العقوبة
13 / 12 / 1439هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْوَلِيِّ الْحَمِيدِ، الْبَرِّ الرَّحِيمِ؛ أَفَاضَ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ خَيْرَاتِهِ، وَدَلَّهُمْ عَلَى مَرْضَاتِهِ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ أَحَبَّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَسِعَهُمْ بِرَحْمَتِهِ، وَشَمَلَهُمْ بِعَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَسْبَابَ زَوَالِ عُقُوبَتِهِ؛ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا كُتِبَتْ لَهُ النَّجَاةُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ فَرَّطَ فِيهَا خُشِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ قَامَ لَيْلَةً بِآيَةٍ يَدْعُو لِأُمَّتِهِ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي، وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوؤُكَ» صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَقِيمُوا لَهُ دِينَكُمْ، وَأَسْلِمُوا لَهُ وُجُوهَكُمْ، وَأَخْلِصُوا لَهُ أَعْمَالَكُمْ؛ فَإِنَّ الْمَوْعِدَ قَرِيبٌ، وَإِنَّ الْحِسَابَ عَسِيرٌ، وَلَيْسَ ثَمَّ إِلَّا الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 30].
أَيُّهَا النَّاسُ: أَعْظَمُ النِّعَمِ نِعْمَةُ الْإِيمَانِ، وَبِهَا يَنَالُ الْعَبْدُ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى قَدْرِ إِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِحِ تَكُونُ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، وَفِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَعْمَالِ الْإِيمَانِ وَأَجْزَائِهِ مِنَ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ وَالْإِحْسَانِ وَالتَّوْبَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَغَيْرِهَا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ يُبَيِّنُ مَحَبَّتَهُ لِلْمُؤْمِنِ: «وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَمِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ جَعَلَ لِزَوَالِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُمْ أَسْبَابًا كَثِيرَةً، إِذَا أَخْطَأَهُمْ بَعْضُهَا أَصَابَهُمْ غَيْرُهَا، وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُصِيبَ هَذِهِ الْأَسْبَابَ كُلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا؛ لِتَكْثُرَ فُرَصُ نَجَاتِهِ مِنَ الْعَذَابِ.
فَمِنْ أَسْبَابِ زَوَالِ الْعُقُوبَةِ: التَّوْبَةُ؛ فَإِنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَالتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾ [الشورى: 25]، وَالنُّصُوصُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَمِنْ أَسْبَابِ زَوَالِ الْعُقُوبَةِ: الِاسْتِغْفَارُ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: «أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ، وَأَنْ يَمْحُوَ بِهِ أَثَرَ الذُّنُوبِ.
وَمِنْ أَسْبَابِ زَوَالِ الْعُقُوبَةِ: الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ لِلسَّيِّئَاتِ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هُودٍ: 114]، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَمِنْ أَسْبَابِ زَوَالِ الْعُقُوبَةِ: دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُؤْمِنِ. وَمَا أَكْثَرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَكْثُرُ ذَلِكَ فِي الْمَوَاسِمِ الْعَظِيمَةِ، وَالْمَشَاهِدِ الْكَبِيرَةِ؛ كَالْجُمْعَةِ وَرَمَضَانَ وَالْأَعْيَادِ وَالْحَجِّ، وَنَحْوِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ صَلَاةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجِنَازَةِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللَّهُ فِيهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ أَسْبَابِ زَوَالِ الْعُقُوبَةِ: مَا يُعْمَلُ لِلْمَيِّتِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ كَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ؛ فَإِنَّ هَذَا يَنْتَفِعُ بِهِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَتِ امْرَأَةٌ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَمِنْ أَسْبَابِ زَوَالِ الْعُقُوبَةِ: شَفَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ فِي أَهْلِ الذُّنُوبِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ كَمَا قَدْ تَوَاتَرَتْ عَنْهُ أَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَخَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ، وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ، فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَمِنْ أَسْبَابِ زَوَالِ الْعُقُوبَةِ: الْمَصَائِبُ الَّتِي يُكَفِّرُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا الْخَطَايَا فِي الدُّنْيَا؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَمِنْ أَسْبَابِ زَوَالِ الْعُقُوبَةِ: مَا يَحْصُلُ فِي الْقَبْرِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالضَّغْطَةِ وَالرَّوْعَةِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُكَفَّرُ بِهِ الْخَطَايَا.
وَمِنْ أَسْبَابِ زَوَالِ الْعُقُوبَةِ: أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكُرَبُهَا وَشَدَائِدُهَا.
وَمِنْ أَسْبَابِ زَوَالِ الْعُقُوبَةِ: رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَعَفْوُهُ وَمَغْفِرَتُهُ بِلَا سَبَبٍ مِنَ الْعِبَادِ.
فَهَذِهِ أَسْبَابٌ عَشَرَةٌ لِزَوَالِ الْعُقُوبَةِ عَنِ الْمُؤْمِنِ، ذَكَرَهَا كُلَّهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَحَرِيٌّ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى، وَأَنْ يَعْلَمَ مَحَبَّتَهُ سُبْحَانَهُ لَهُ مَا دَامَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَتَزْدَادُ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِازْدِيَادِ إِيمَانِهِ، وَتَحْقِيقِهِ لِكَمَالِهِ، وَذَلِكَ بِكَثْرَةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَمُجَانَبَةِ الْمُحَرَّمَاتِ ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الْأَنْفَالِ: 2 - 4].
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الْحَشْرِ: 18- 19].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَوْ عَذَّبَ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقَهُ لَكَانَ ذَلِكَ بِعَدْلِهِ سُبْحَانَهُ، ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الْكَهْفِ: 49]، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النِّسَاءِ: 40]، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فُصِّلَتْ: 46]، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ يُؤَاخِذُنِي اللَّهُ وَابْنَ مَرْيَمَ بِمَا جَنَتْ هَاتَانِ، -يَعْنِي الْإِبْهَامَ وَالَّتِي تَلِيهَا- لَعَذَّبَنَا ثُمَّ لَمْ يَظْلِمْنَا شَيْئًا» صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَفِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ إِنَّمَا كَانَ بِكَسْبِهِ، مَعَ عَفْوِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كَثِيرٍ مِنَ خَطَئِهِ ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشُّورَى: 30]، وَفِي الْجَزَاءِ الْأُخْرَوِيِّ: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾ [النَّجْمِ: 39 - 41]، ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [الْمُدَّثِّرِ: 38].
وَكُلُّ امْرِئٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَيُجْزَى بِعَمَلِهِ، وَلَا يَحْمِلُ وِزْرَ غَيْرِهِ، وَهَذَا غَايَةُ الْعَدْلِ. وَعَفْوُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ مِنْ رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: 164]، ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ [فَاطِرٍ: 18].
فَالْعَاقِلُ الْفَطِنُ مَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ؛ فَلَا يَنْقَطِعُ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ إِلَى أَنْ يَدْهَمَهُ الْمَوْتُ، وَلَا يَتْرُكُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ بَعْدَ مَوْسِمٍ مَضَى؛ فَلَعَلَّ الْأَجَلَ يُوَافِيهِ وَهُوَ غَافِلٌ. بَلْ يُدِيمُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، وَأَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ» فَلْنَلْزَمِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فِي الْمَوَاسِمِ وَقَبْلَهَا وَبَعْدَهَا؛ فَالدُّنْيَا كُلُّهَا مَوْسِمُ الْمُؤْمِنِ، وَمَوْتُهُ نِهَايَةُ عَمَلِهِ وَبِدَايَةُ جَزَائِهِ، وَالْمَنَازِلُ الْعَالِيَةُ فِي الْجَنَّةِ وَرِضَا اللَّهِ تَعَالَى وَرُؤْيَتُهُ سُبْحَانَهُ رَغْبَتُهُ وَغَايَتُهُ، وَإِذَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى صِدْقَ الْعَبْدِ فِي طَلَبِهِ، وَرَأَى جِدَّهُ وَاجْتِهَادَهُ بَلَّغَهُ مَا يَطْلُبُ، وَنَجَّاهُ مِمَّا يَخَافُ وَيَحْذَرُ ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: 69].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات

زوال-العقوبة-مشكولة

زوال-العقوبة-مشكولة

زوال-العقوبة

زوال-العقوبة

المشاهدات 2749 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا