التوكل على الله عز وجل

التوكُّلُ على اللهِ عز وجل

الخطبة الأولى

إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وأمينه على وحيه ، ومبلِّغ الناس شرعه ، ما ترك خيراً إلا دلّ الأمة عليه ولا شراً إلا حذّرها منه ، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد :-

فاتقوا عباد الله ، وعلقوا قلوبكم به حتى لا تتعلق بأحد سواه ، في كشف المضرات وحصول الخيرات ، قال تعالى : ( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

عباد الله : خطبتنا اليوم ، عن عمل عظيم من أعمال القلوب ، هو من أفضل العبادات ، وأعظم الطّاعات ، عظيم شأنه ، جليل قدره ، لا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين ، أخبر الله تعالى بأنه يحب المتصفين به ، ذلكم هو التوكل على الله تعالى : { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [آل عمران:159] . والتوكل عبادة قلبية محضة ، ليست قولاً باللسان ، ولا عملاً بالجوارح ، ولذلك قال الإمام أحمد :    « التوكل عمل القلب » ، فهو أجمع أنواع العبادة ، وأعلى مقامات التوحيد ، وأعظمها وأجلها ، فلابد للقلب أنْ يكون متعلقاً بالله وحده .

والدين قسمان : اســتعانة وعبـادة . فالتوكـل هـو الاسـتعانة ، والإنابـة هـي العبـادة ، وذلك في قول الله تبارك وتعالى : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ ، بل لا يقوم الدِّين إلا على التوكل ، فمنزلة التوكل من الدين ، كمنزلة الجسد من الرأْس ، فكما لا يقوم الرأْس إلا على الجسد ، فكذلك لا يقوم الإسلام والإيمان والإحسان إلا على التوكل ، يقول الله تبارك وتعالى : ﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ .

وحقيقة التوكل : هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ، ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها ، مع فعل الأسباب المشروعة المأذون فيها . فلا بد في التوكل من أمرين :-

الأمر الأول : أن يكون الاعتماد على الله اعتمادًا صادقًا حقيقيًّا .

الأمر الثاني : فعل الأسباب المأذون فيها . ولا بد من هذين الأمرين في التوكل . والتوكل على الله جلّ و علا لا يتنافى مع فِعل الأسباب بل فِعلها من تمام التوكل ، و لهذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل الأسباب و يأمر بفعلها ، قال صلى الله عليه وسلم : ( احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِز ) ، و قال عليه الصّلاة و السّلام للرجل الذي سأله عن ناقته  فقال :  يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ ؟ قَال : ( اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ ) فأرشده إلى فعل الأسباب . وجاء عند الترمذي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ( لو أنَّكم توكَّلتُم على اللهِ حقَّ توكُّلِه ، لَرزَقَكم كما يرزُقُ الطيرَ ، تَغْدُو خِماصًا ، وترُوحُ بِطانًا ) ، فذكر فعلها للأسباب ، فأخبر أن الطير تغدو لطلب العيش والبحث عن الرزق ولا تقعد في أعشاشها تنتظر الرزق يأتيها . فكذلك نحن علينا أن نأخذ بالأسباب مع التوكل على الله ، قال الحافظ ابن رجبٍ رحمه الله : " هذا الحديث أصلٌ في التوكل ، وأنه من أعظم الأسباب التي يُستجلَب بها الرزق " ، و لهذا جاء عن عمر رضي الله عنه أنه سمع بنفر خرجوا من ديارهم بلا قوت و لا زاد و قالوا : نحن المتوكِّلون ، قال : " بل أنتم المتواكلون " . وبهذا يتبين أنّ التوكل على الله لابد معه من فعل الأسباب التي يحصل بها العبد على مصالحه الدينية و الدنيوية ، ولا يكون قلبه ملتفتاً للأسباب ولا معتمداً عليها ولا واثقاً بها ، بل تكون ثقته بالله وحده وتوكّله عليه وحده و تفويضُ أمره إلى الله وحده . والنبي صلى الله عليه وسلم سيِّد المتوكلين على الله ، ومع ذلك كان يأخذ بالأسباب ، مع الاعتماد على الله سبحانه ، فكان يأخذ الزاد في السفر ، وفي غزوة أحد لبس درعين اثنين ، ولما خرج مهاجرًا خالف الطريق المعتاد ، وأخذ من يدُله الطريق ، إلى غير ذلك من الأسباب التي يعرفها الجميع ، ولم ينقص ذلك من توكله . فلا يتحقق التوكل إلا بالأخذ بالأسباب ، مع تعلق القلب بالمسبب لا السبب ، والرضا بكل ما يقضي الله به بعد ذلك . فخذ بكل الأسباب الميسرة والمشروعة ، ثم توكل على الله ، وستجد التوفيق والنجاح أمامك ، وحليفك بإذن الله . اللهم ارزقنا صدق التوكل و خالص الاعتماد عليك ، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم ، أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه ، إنّه هو الغفور الرحيم .

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله ، من توكل عليه كفاه ، ومن لاذ بحماه حفظه ووقاه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه ، ومن سار على نهجه واهتدى بهداه . أما بعد :-

فإنَّ التّوكل عبادةٌ عظيمة وفريضةٌ جليلة لا يجوز صرفها إلا لله جل وعلا الحي الذي لا يموت ، وتأمّلوا قول الله تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } ، فالتوكل لا يكون إلا على من هذا شأنه الحي الذي لا يموت وهو الله تبارك وتعالى ، أما مَنْ سوى الله فهو إمّا حيٌّ سيموت ، أو حيٌّ قد مات ، أو جمادٌ لا حياة له ، وكلُّ هؤلاء لا يُتوكل عليهم وإنما يُتوكل على الحي الذي لا يموت سبحانه وتعالى ، ولهذا كان نبيُّنا كما في الصحيحين يقول في دعائه : ( اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ ، اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِى أَنْتَ الْحَىُّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ ) .

والتوكل على الله مقام عظيم جليل القدر ، كبير الأثر ، أمر الله به عباده وحثهم عليه ، وندبهم إليه ، فقال سبحانه : ( وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) ، وأمر به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فقال : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) ، وقال : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ) . والتوكل من أخلاق المرسلين ، قال تعالى عن أنبيائه ورسله :    ( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [إبراهيم: 11 - 12]  وقال تعالى عن هود عليه السلام : ( قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود: 53 - 56] .                                                        

والتوكل شرطاً في الإيمان قال تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } ، ودليلاً على صحة الإسلام قال تعالى : { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } ، بل المتوكلون على الله حق التوكل يدخلون الجنة بغير حساب ، ففي الصحيحين ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ " ، قَالُوا : مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : " هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ ، وَلَا يَكْتَوُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ". وكلما قوي تعلُّق قلب العبد بالله كان توكله على الله أقوى .

فاتقوا الله عباد الله وثقوا بوعد ربكم وتوكلوا عليه حق التوكل في كل أحوالكم ، وعند خروجكم من بيوتكم ، قال رسولُ اللَّهِ ﷺ : { مَنْ قَالَ - يعنِي إِذَا خَرَج مِنْ بيْتِهِ - : بِسْم اللَّهِ توكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ ، وَلا حوْلَ وَلا قُوةَ إلاَّ بِاللَّهِ ، يقالُ لهُ هُديتَ وَكُفِيت ووُقِيتَ ، وتنحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ } رواه الترمذيُّ وغيرُه : وَقالَ حديثٌ حسنٌ ، وتوكلوا على الله عند دخولكم بيوتكم ، قال رسولُ الله ﷺ : { إذا وَلَجَ الرجلُ بيتَه فليقل : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ الْمَوْلَجِ وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ ، بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا ، وَبِسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا ، وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا . ثم يُسلِّم على أهله } ، أخرجه الترمذي وقال ابن باز رحمه الله حسن لا بأس به ، واعملوا واجتهدوا في الطلب ولا تفرطوا في السبب فإن الله يحب المتوكلين من عباده .. وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال : " إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان . اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين . اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفق إمامنا وولي عهده لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم ، اللهم أصلح لهم بطانتهم ، واحفظهم بحفظك يا ذا الجلال والإكرام . اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ وعمل ، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ، اللهم أمّن حدودنا واحفظ جنودنا . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين . " اللهم أنت الله لا إله إلا أنت ، أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين . اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا غيثا مغيثا ، نافعاً غير ضار عاجلاً غير آجل ، تسقي به البلاد وتنفع به العباد . اللهم أسقنا سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق " . { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } . وأقم الصلاة .

( خطبة الجمعة 26/2/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل                          للتواصل جوال و واتساب /  0504750883  ) .

المرفقات

1724744411_التوكُّلُ على اللهِ عز وجل.docx

المشاهدات 298 | التعليقات 0