التوبة ومحاسبة النفس-22-5-1441هـ-مستفادة من خطبة الشيخ عبد الله اليابس

محمد بن سامر
1441/05/21 - 2020/01/16 21:50PM
الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وليُ الصالحينَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُه الأمينُ، عليه وآلهِ الصلاةُ وأتمُ التسليمِ.
"يا أيها الذينَ آمنوا اتقوا اللهَ حقَ تقاتِه ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون".
أما بعد: فيا إخواني الكرام: إنَّ المتأملَ في الواقعِ يجدُ فرقًا كبيرًا بين بعضِ مَنْ وُلِدَ مسلمًا، وبين مَنْ وُلِدَ كافرًا ثمَّ أسلمَ، فبعضُ مَنْ وُلِدَ مسلمًا تبلدَ إحساسُه، فلم يشعرُ بنعمةِ الهدايةِ، وحلاوةِ الإيمانِ، وجمالِ الإسلامِ، لأنّه وُلدَ وعاشَ فيه، ولم يجربْ غيرَه، أما من وُلِدَ كافرًا ثمَّ أسلمَ بعد بحثٍ واقتناعٍ، فإنَّه يشعرُ بنعمةِ الهدايةِ، وحلاوةِ الإيمانِ، وجمالِ الإسلامِ، لأنَّه جربَّ غيرَه فعرفَ الفرقَ، فبالضدِ تتميزُ الأشياءُ، وقد قيلَ: لا يعرفُ الإسلامَ إلا من عاشَ الكفرَ.
وكذلك المسلمُ المسرفُ في المعاصي، ثم تابَ واستغفرَ وانتهى عما كانَ فيه، فإنه يشعرُ بنعمةِ حلاوةِ الإيمانِ، ونورِ طاعةِ اللهِ، والراحةِ والسعادةِ التي حصلت له بعد مرارةِ الفسوقِ، وظلامِ معصيةِ اللهِ، والقلقِ والشقاءِ.
إنَّ نعمةَ الإسلامِ، والهدايةَ إليه، والعملَ به، والتوبةَ مما يخالفُه، أعظمُ نعمةٍ، ولذلك فإنَّ اللهَ-تعالى-يفرحُ بحصولِ العبدِ على هذه النعمةِ العظيمةِ، قالَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلِه وسلمَّ-: "لَلَّهُ أفْرَحُ بتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِن رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وبِهِ مَهْلَكَةٌ، ومعهُ راحِلَتُهُ، عليها طَعامُهُ وشَرابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنامَ نَوْمَةً، فاسْتَيْقَظَ وقدْ ذَهَبَتْ راحِلَتُهُ، حتَّى إذا اشْتَدَّ عليه الحَرُّ والعَطَشُ قالَ: أرْجِعُ إلى مَكانِي، فَرَجَعَ فَنامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فإذا راحِلَتُهُ عِنْدَهُ".
للتائبِ فخرٌ لا يعادلُه فخرٌ، لأنَّ اللهَ فرحَ بتوبتِه، فما أحسنَ مجالسةَ التائبينَ، فإنَّ قلوبَهم أرقُ القلوبِ، وهم أقربُ الناسِ إلى رضى اللهِ ورحمتِه وجنتِه.
قالَ الأصمعيُ-رحمه اللهُ-:  كنت بالباديةِ أُعلِّمُ القرآنَ، فإذا أنا بأعرابيٍ-بدويٍ-قاطعٍ للطريقِ بيده سيفٌ، فلما دنا-اقتربَ-مني ليأخذَ مالي قالَ لي: يا حضريُ، ما جاءَ بك إلى البدوِ؟ قلتُ: أُعلِّمُ القرآنَ، قالَ: وما القرآنُ؟ قلتُ: كلامُ اللهِ، قال: وهل للهِ كلامٌ؟ قلت: نعم، قال: فأسمعني شيئًا منه، فقلت: "وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ"، فرمى السيفَ وقال: أستغفرُ اللهَ، رزقي في السماءِ وأنا أطلبُه في الأرضِ، فتابَ.
ولَمَّا كانت قلوبُ التائبينَ لينةً رقيقةً، فإنَّ الشيطانَ يُسرعُ ويشتدُ في التسلطِ عليها؛ لإضعافِها وإبعادِها عن الهدايةِ، بتهوينِ الذنوبِ الصغيرةِ التي تتجمعُ فتهلكُ صاحبَها، وتُغطي قلبَه حتى يَسْوَدَّ، قالَ-تعالى-: " كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ"، وقالَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلِه وسلمَّ-: "إياكم ومُحَقَّراتِ-صغائرِ-الذنوبِ، فإِنَّما مثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذنوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نزلُوا بَطْنَ وادٍ، فجاءَ ذَا بعودٍ، و جاءَ ذَا بعودٍ، حتى حمَلُوا-جَمَعُوا-ما أنضجُوا بِهِ خبزَهُم، و إِنَّ مُحَقَّراتِ الذنوبِ متَى يُؤْخَذْ-يُحاسبْ-بِها صاحبُها تُهْلِكْهُ"، "تُعْرَضُ الفِتَنُ علَى القُلُوبِ كالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ سَوْداءُ، وأَيُّ قَلْبٍ أنْكَرَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ بَيْضاءُ، حتَّى تَصِيرَ القلوبُ علَى قَلْبَيْنِ، علَى أبْيَضَ مِثْلِ الصَّفا، لا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ ما دامَتِ السَّمَواتُ والأرْضُ، والآخَرُ أسْوَدُ مُرْبادٌّ-شديدُ السوادِ-كالْكُوزِ مُجَخِّيًا-كإناءٍ منكوسٍ-لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إلَّا ما أُشْرِبَ مِن هَواهُ".
فما أحسنَ أن يتفقدَ المسلمُ نفسَه، ويحاسبَها دائمًا، ليلقى اللهَ ثابتًا على دينِه، قالَ عمرُ بنُ الخطابِ-رضي اللهُ عنه-: حاسبوا أنفسَكم قبلَ أن تُحاسبوا، وزِنوها قبل أن تُوزَنوا، ليهونَ ويَسهلَ عليكم الحسابُ غدًا، وتزينوا للعرضِ الأكبرِ، "يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ"، فإذا تكلمتَ فتذكرْ أن اللهَ يسمعُك، وإذا نويتَ أو فكرتَ فتذكرْ أن اللهَ يعلمُ بك، وإذا نظرتَ فتذكرْ أن اللهَ ينظرُ إليك، "إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولًا".
قالَ ميمونُ بنُ مِهرانَ-رحمه اللهُ-: لا يكونُ الرجلُ متقيًا حتى يكونَ لنفسِه أشدَ محاسبةً من الشريكِ لشريكهِ.
قالَ أنسُ بنُ مالكٍ-رضي اللهُ عنه-: دخلَ عمرُ حائطًا-بستانًا-فسمعتُه يقولُ لنفسِه: عمرُ أميرُ المؤمنينَ! بَخٍ بَخٍ، واللهِ يابن الخطابِ لتتقينَ اللهَ أو ليعذبنَّك.
أستغفرُ الله لي ولكم وللمسلمين...
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:
فمن أعظمِ أسبابِ قسوةِ القلبِ قلةُ المحاسبةِ، وتأخيرُ التوبةِ أملًا أن يتوبَ بعدَ عمرٍ طويلٍ، قال-تعالى-: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ".
المؤمنُ-دائمًا-يعاتبُ نفسَه، ماذا أردتُ بكلمتـي؟ ماذا أردتُ بـأكلتـي؟ ماذا أردتُ بشربتي؟، ماذا أردتُ بكذا...
ومن أعظمِ الجهادِ جهادُ النفسِ والهوى والشيطانِ، فالمسلمُ-دومًا-في معركةٍ، فيومًا غالبٌ وآخرُ مغلوبُ، والعبرةُ بمن ينتصرُ في النهايةِ، وليستُ العبرةُ بنقصِ البداياتِ، بلْ بكمالِ النهاياتِ، فإذا سقطتَ أو عصيتَ أو أخطأتَ أو زلَلْتَ مَرَّةً فلا تستسلمْ، وسارعْ بالتوبةِ، فإنْ عُدْتَ فتبْ، وإن عدتَ ألفَ مرةٍ فتبْ، حتى يُختمَ لك بتوبةٍ نصوحٍ قبلَ الموتِ، تمحو كلَّ المعاصي والسيئاتِ، وتُبَدُلها حسناتٍ.
ومن أعظمِ أسبابِ الثباتِ على الإسلامِ العبادةُ في الفتنِ؛ لغفلةِ الناسِ عنها وصعوبتِها، وأجرُها وثوابُها كثوابِ الهجرةِ إلى الرسولِ-صلى اللهُ عليه وآلِه وسلمَّ- القائلِ: "الْعِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إلَيَّ" فجعلَ العبادةَ ملجأً من الفتنة؛ ِكما أنَّ الهجرةَ لبلادِ الإسلامِ كانت ملجأً عن الكفرِ.
ومن أعظمِ أسبابِ الثباتِ على الإسلامِ، والنصرِ على الكفارِ ذكرُ اللهِ-تعالى-عمومًا، وفي الجهادِ خُصوصًا، قال-تعالى-: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".
اللهم اهدنا والمسلمينَ لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ، واصرفْ عنا والمسلمينَ سيِئ الأخلاقِ والأعمالِ، اللهم أصلحْ ولاةَ أُمورِنا وولاةَ أُمورِ المسلمينِ، وارزقهمْ البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ، ووفقهمْ لما تحبُ وترضى، وانصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالمينَ غانمينَ، اللهم اغفرْ لنا ولوالدينا وللمسلمينَ، أسألُك لي ولهم من كلِّ خيرٍ، وأعوذُ وأُعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، اللهم اشفنا واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعلنا والمسلمينَ ممن نصرَك فنصرْته، وحفظَك فحفظتْه، اللهم عليك بأعداءِ المسلمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اكفنا واكفِ المسلمين شرَّهم بما شئتَ يا قويُ يا عزيزُ.
المرفقات

ومحاسبة-النفس-22-5-1441هـ-مستفادة-من-خطبة-الش

ومحاسبة-النفس-22-5-1441هـ-مستفادة-من-خطبة-الش

المشاهدات 1268 | التعليقات 0