التوبة والعشر الأواخر من رمضان-16-9-1436هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف

محمد بن سامر
1436/09/16 - 2015/07/03 03:38AM
[align=justify]إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله-صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا-أما بعد:
فكفى بالله مُحبًّا ومحبوبًا، وكفى برسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم-قدوةً ومتبوعًا، وكفى بالقرآن مُؤنِسًا ورفيقًا، وكفى بالموت واعِظًا، وكفى بخشية الله علمًا.
أيها المباركون: استقامةُ النفوس وإصلاحُها، وتزكيةُ القلوبِ وتطهيرُها مسالكُ تفتحُ أبوابَ الأملِ، من أجل حياةٍ أفضلَ ومسيرةٍ أزكى، النفوسُ لا تُحقِّق عزَّتها، والقلوب لا تُحصِّل سكينتَها إلا إذا تذلَّلَت لربِها راضيةً، وخضعَت لخالقِها راغِبةً، وأقبلَت على مولاها خائفةً، وسارَت إليه مُشفِقةً وجِلةً؛ لتنالَ الأمنَ وتذوقَ لذَّةَ المناجاةِ، وحينئذٍ تطمئنُّ النفوسُ، وتنشرِحُ الصدورُ، وتستنيرُ القلوبُ، فاللهُ-سبحانه-عند المُنكسِرة قلوبُهم، الصادقِ تذلُّلُهم.
وهذه وقفةٌ مع عبوديةٍ من أحبِ العبودياتِ إلى اللهِ وأكرمِها عنده، عبوديةٌ تُنتِجُ للعبد آثارًا عجيبةً من المقاماتِ والمنازلِ، تُنتِج المحبةَ والرِّقةَ والانكسارَ والحمدَ والرضا والشكرَ والخضوعَ للهِ-عز وجل-.
عبوديةٌ قالَ فيها أهلُ العلمِ: "إنها من مُهماتِ الإسلامِ وقواعدِه ومقاماتِه المتَأكَدِة".
منَّةٌ من اللهِ ونعمةٌ، لا تدَع ذنبًا إلا تناوَلَته، ولا معصيةً إلا محَتْها، ولا تقصيرًا إلا جبَرَته، هذه العبوديةُ، وهذه المنَّةُ الإلهيةُ، والمنحةُ الربانيةُ، نهرٌ نميرٌ طاهرٌ، يتطهَّرُ به العبدُ من أدرانِه، إنها التوبةُ، إنها العودةُ الغانمةُ، والتجارةُ الرابحةُ، والرياضُ التي لا يذبُلُ زهرُها.
التوبةُ-تقبَّل الله صيامَكم وقيامَكم-رجوعٌ إلى اللهِ بالتزامِ فعلِ ما يُحبُ باطنًا وظاهرًا، وتركِ ما يكره باطنًا وظاهرًا، دعاءٌ وتضرُّع، وتذلُّل وإقرارٌ بحولِ الله وقوتِه، وقدرتِه ومشيئتِه، وعدلِه وحكمتِه، وفضلِه ورحمتِه، واعترافٌ بالضعفِ البشريِ والتقصيرِ والحاجةِ.
التوبةُ-أيها التائبون-تركُ الذنبِ علمًا بقُبحِه، وندمًا على فعلِه، وعزمًا على عدمِ العودةِ إليه، وتدارُكًا للأعمالِ الصالحةِ من غير تردُّدٍ أو انتظارٍ أو يأسٍ، في إخلاصٍ للهِ وطلبِ ما عنده من عظيمِ الثوابِ، وخوفٍ من أليمِ العقابِ.
وكلُّ عبدٍ مُحتاجٌ إلى التوبة، مُفتقِرٌ إلى الإنابةِ، فلا يُتصوَّرُ أن يستغنِيَ عنها أحدٌ مهما بلغَ مقامُه، ومهما كانت طاعتُه وصلاحُه؛ بل هي خُلُق الأنبياء والمرسلين-عليهم الصلاة والسلام-، فهي تُصاحبُ البشرية منذ أبيهم آدم-عليه السلام: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
ونبييُنا محمدٌ-صلى الله عليه وآله وسلم-يقول: "يا أيها الناسُ: توبوا إلى اللهِ؛ فإني أتوبُ إليه في اليومِ مئةَ مرةٍ".
إخواني: بالتوبةِ النَّصُوحِ ينتقلُ العبدُ من المعصيةِ إلى الطاعةِ، ومن الضعفِ إلى القوةِ، ومن الهَدمِ إلى الإصلاحِ، ومن الظلمِ إلى العدلِ، والرحمةِ والإحسانِ، التوبة سدٌّ عظيمٌ أمامَ الفسادِ والمُفسِدين، يعرِضها الإسلامُ على الكفارِ، وعلى المحاربين والمرتدين، وعلى كل المُفسِدين في الأرض، مهما بلغَ كفرُهم وفسادُهم وطغيانُهم: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ)، وفي المحارِبين والمُفسِدين: (إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
بالتوبةِ الصادقةِ يتطهَّرُ المجتمعُ من المآثِمِ والجرائمِ، ليقلَّ خطرُها، ويُحاصَر أثرُها، بالتوبة يتجسَّد للعبدِ ذلُّ الحاجةِ، وذلُّ الطاعةِ والعبوديةِ، وذلُّ المحبةِ والانقيادِ، وذلُّ المعصيةِ والخطيئةِ، ومن اجتمع له ذلك كلُّه فقد خضَع لله تمام الخضوع، وحقَّق العبوديةَ والاستكانةَ.
وهل يُسكِّنُ تأنيبَ الضميرِ، وأوجاعَ النفوسِ إلا التوبةُ والذكرُ والاستغفارُ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
هلا وقفتُم عندَ فرحِ اللهِ بتوبةِ عبدِه؟! (للهُ أفرحُ بتوبةِ عبدِه من رجلٍ أضلَّ راحِلَته في فلاةٍ، وعليها متاعُه وطعامُه وشرابُه، حتى اشتدَّ عليه الحرُّ والعطش، فنام نومةً، ثم رفع رأسَه فإذا راحِلتُه عنده".
ألا يبهَرُ الصالحين هذا الترحابُ الغامِر؟! أتُرى سرورًا يعدِلُ هذه البهجةَ الخالصةَ؟! توبةٌ وأوبةٌ يفرحُ الله بها، فهي انتصارُ العبدِ على أسبابِ الضعفِ، والنفسِ الأمَّارةِ بالسوءِ، والشيطانِ الرجيمِ، إنه فرحُ اللهِ البَرِّ اللطيفِ، المُحسِن الكريمِ، الجوادِ الرحيمِ.
لقد جعلَ اللهُ التوبةَ وسيلةً لمحبتِه، وسبيلا لفرحِه، ولم يكنْ هذا الفرحُ من اللهِ في شيءٍ من الطاعاتِ إلا في التوبة، فرحُ إحسانٍ من العليِّ الأعلى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)، ربُّنا-عزَّ شأنه-يحبُ التوابينَ؛ لأن التائبَ المُوفَّقَ يكون في حالٍ من الوَجَل والإشفاقِ، والانكسارِ والتذلُّلِ، والتضرُّعِ والرجاءِ، بأنْ يقبلَ اللهُ توبتَه، ويغفِرَ زلَّته، ويتجاوزَ عن ذنبِه، ويغسِلَ حوبَتَه، ويمحو خطيئتَه.
وهذه الأحوالُ من أفضلِ أحوالِ العبدِ التي يحبُّها اللهُ، فاللهُ يحبُّ من عبدِه أنه كلما أحدثَ زلَّةً أحدثَ لها توبةً، وهذا هو العبدُ التوابُ، واللهُ التوابُ هو الحليمُ الكريمُ، العفوُّ الغفورُ، الجوادُ الرحيمُ.
توابونَ أوابونَ يشعرونَ بحبِ اللهِ ومعيَّتِه؛ لأنهم لا يشعرون أنهم مُنفرِدون بهمِّهم، ولا وحيدون بمُصابهم؛ بل يأوون إلى ركنٍ شديد، ويلجؤون إلى كنَفِ رحيم.
[/align][align=justify]
الخطبة الثانية
أعزائي: ووقفةٌ أخرى مع مظاهر هذه المحبة الإلهية والفرح الربَّاني، إنه تبديلُ السيئات حسنات: (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، فأيُّ جودٍ من ربنا أعظمُ من هذا؟ وأيُّ كرمٍ أوسع من هذا؟!
التوبةُ لا تمحو الذنبَ فقط؛ بل تُحوِّله حسناتٍ تُضاف إلى رصيدِ الحسناتِ، الربُّ يتحبَّبُ إلى عبده وهو الغنيُّ، والعبدُ يُقْدِمُ على التقصيرِ وهو الفقيرُ، "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدُك، وأنا على عهدِك ووعدِك ما استطَعت، أبوءُ لك بنعمتِك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت".
ومن لُطفِ اللهِ ورحمتِه وفرحِه بتوبةِ عبدِه: أن العبدَ إذا كانت له حسناتٌ ثم عمِل سيئاتٍ استغرقَتْ هذه الحسناتِ، ثم تابَ بعد ذلك، فإنَّ حسناتِه الأولى تعودُ إليه، يقول حكيمُ بنُ حزامٍ-رضي الله عنه-: قلتُ: يا رسول الله: أرأيتَ أشياء كنتُ أتحنَّثُ بها-أي: أتعبَّدُ بها-في الجاهلية؛ من صدقةٍ، وعِتاقٍ، وصلةِ رحِم؛ فهلْ فيها أجرٌ؟! فقال النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-: "أسلمتَ على ما أسلفتَ من خيرٍ" متفق عليه.
قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله-: "لا مانع أن يُضيفَ اللهُ إلى حسناتِه في الإسلامِ ثوابَ ما كان صدرَ منه في الكفرِ تفضُّلا وإحسانًا".
حين يمُنُّ اللهُ على العبدِ بالتوبةِ، ويُبدِّلُ اللهُ سيئاتِه حسناتٍ، كيف يكون حالُه وحالُ من حولَه وحالُ المجتمعِ؟!
تأمَّلوا في حال عاقِّ والدَيْه حين يمُنُّ الله عليه بالتوبة فيَصلُحُ حالُه، ويعزِمُ على التوبةِ النَّصوحِ، فيُقيمُ على أنقاضِ العقوقِ صروحَ البرِّ والإحسانِ، فيبَرَّ والدَيْه ويصِلَهما، ويُغدِق عليهما، ويُحسِن حديثَه إليهما، ويخفِضَ الجناحَ لهما، ويدعُو لهما: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا).
وحين يمُنُّ الله على قاطع الرحِم، فتزول عنه الغِشاوةُ، فيرى تفريطَه في قرابتِه، وقطيعتَه لأهلِه فيفِرّ-بعونِ اللهِ-إلى التوبةِ، فلا يقفُ عند الندمِ والاعترافِ بالخطأِ والاستغفارِ؛ بل يُسارِع إلى وصلِ رحِمِه، ويُؤسِّس لعهدٍ جديدٍ مع الأقربين، بالزياراتِ والاتصالاتِ والمساعداتِ، وقضاءِ الحاجاتِ قدرَ المُستطاعِ.
وما أجملَ حُسن المتابِ للمُغتابِ؛ فبعد أن كان يتتبَّعُ السلبياتِ وكشفَ العوراتِ وبثَّ الأخبارِ المُغرِضة، والشائعاتِ الكاذِبةِ، والازدراءِ والانتقاصِ، يتوبُ إلى ربه، ويؤوبُ إلى فضلِ اللهِ ورحمتِه، فلا يكتفِي بكفِّ لسانِه عن الحرامِ والممنوعِ؛ بل ينتقلُ إلى ذكرِ المحاسنِ، ونشرِ الفضائلِ، والتماسِ الأعذارِ، وسدِّ النقائصِ: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ).
وما أجمل من ابتُلِي بنشر الرذائل؛ كلمةً، وصوتًا، وصورةً، ذكرًا أو أُنثى، حين يُزيِّنُ الفواحِش، ويُحبُّ أن تشيعَ الفاحِشةُ في الذين آمنوا، في قصصٍ وأفلامٍ، ورواياتٍ وتمثيلياتٍ، وكتاباتٍ ومُنتجاتٍ، ثم منَّ اللهُ عليه فتابَ وآمنَ وعملَ أعمالا صالحةً، تدفِنُ الماضي الذين أفنى فيه زهرَة عُمرِه، فيدعو إلى الخيرِ والفضيلةِ، والالتزامِ بقِيَمِ الإسلامِ.
وما أجملَ صاحبَ المظالمِ، وقد منَّ اللهُ عليه بتوبةٍ نصوحٍ وندمٍ عريضٍ، فيرجعُ إلى ربِه، ويردُّ المظالمَ إلى أهلِها، ويُعيدُ الحقوقَ إلى أصحابِها ماديةً ومعنويةً.
وبعدُ فهذه هي قوافلُ التائبينَ ومراكبُ الناجين؛ فهل شممتَ ريحًا أطيبَ من أنفاسِ التوابين؟! وهل رأيتَ أعذبَ من دموعِ النادمين؟! وهل شاهدتَ أجملَ من لباسِ المُنكسِرين؟! بل هل سمعتَ نداءً أجملَ وألطفَ وأرقَّ من نداءِ ربِ العالمينَ: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا).
[/align]
المرفقات

التوبة والعشر الأواخر من رمضان-16-9-1436هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف.doc

التوبة والعشر الأواخر من رمضان-16-9-1436هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف.doc

التوبة والعشر الأواخر من رمضان-16-9-1436هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف.docx

التوبة والعشر الأواخر من رمضان-16-9-1436هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف.docx

المشاهدات 1637 | التعليقات 0