التوبة في شهر التوبة

فهد عبدالله الصالح
1433/09/07 - 2012/07/26 12:23PM
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، أحمده سبحانه وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله القائل في محكم التنزيل ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ) وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام العابدين وسيد التائبين القائل في الحديث الصحيح (يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعلى من سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا
أما بعد: فاتقوا الله - أيها الناس- واستقيموا إليه واستغفروه وتوبوا إليه
أيها الأخوة في الله: يحيط بابن آدم أعداء كثر من شياطين الإنس والجن ، يحسنون القبيح ويقبحون الحسن، وينضم إليهم النفس الأمارة بالسوء والشيطان والهوى يدعونه إلى الشهوات ويقودونه إلى مهاوي الردى وينحدر في موبقات الذنوب صغائرها وكبائرها وينساق في مغريات الحياة وداعيات الهوى، يصاحب ذلك ضيق وحرج وشعور بالذنب والخطيئة ، حتى تكاد تنغلق أمامه أبواب الأمل ويدخل في اليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله، وهذه غاية ما يريده الشيطان من العبد، وهو أن يصل إلى هذه المرحلة من اليأس فيترك التوبة والأعمال الصالحة وينغمس في الذنوب والمعاصي لأنه يرى نفسه مجرماً ليس من أهل الخير ولا يصلح للخير فيفرح الشيطان بذلك ويشعر بلذة النصر لكن الله الرؤوف الرحيم فتح لعباده أبواب التوبة ودلهم على الاستغفار وجعل لهم من أعمالهم الصالحة كفارات وفي ابتلاءاتهم مكفرات بل إنه بفضله وكرمه يبدل سيئاتهم حسنات
أيها الأخوة في الله: إن الملاذ الوحيد لنا نحن العاصين هو اللجوء إلى ربنا الرحمن الرحيم الذي يحب التوابين ويحب المتطهرين والذي يفرح بتوبة عبده إذا أفاق من غفلته وأحس بخطئه وحاسب نفسه ورجع إلى ربه تائباً نادما طائعا خاشعا واثقا في عفو ربه مقبلا على الحسنات هاجرا السيئات .
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي تبحث عن صبيها وكان ضائعاَ فلما وجدته أخذتها وألصقته في بطنها وأرضعته فقال لنا الرسول صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله وهي تقدر ألا تطرحه فقال :لله أرحم بعباده من هذه بولدها ) رواه البخاري ومسلم
نعم ـ أيها الأخوة ـ هذه هي رحمة التي وسعت كل شيء فيا ليتنا نتوب مادمنا في زمن المهلة (من قبل تقول نفسٌ : يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله ) يا ليتنا نتوب إلى الله مادام باب التوبة مفتوحاً (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال : إني تبت الآن)
أيها المؤمنون: ليست التوبة الواجبة مقتصرة على من يتهاون في صلاته أو زكاته أو من يشرب الخمر أو يفعل الزنا أو من هو عاق لولديه أو مضيعا لمن يعول أو يأكل الحرام أو يجحد حقوق الناس أو يتكلم في غيبتهم بما يكرهون وإن كان كل ما ذكر ذنوبا عظيمة تجب التوبة منها ويتحتم تركها على الفور.
إن التوبة ـ يا عباد الله ـ واجبة على الجميع بلا استثناء إذ أن الكل خطاء ففي الحديث (كل بني آدم خطاء) فمهما علا شأن الإنسان أو كثر علمه أو زاد ورعه فهو مطلوب منه أن يراجع حساباته وأن يتوب إلى ربه، من عليه مسؤولية فعليه أن يخلص في عمله وأن يؤدي أمانته مهما كانت هذه المسؤولية من عمل رسمي أو قوامة على بيت أو دعوة إلى الله أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، فهذا رسول الله وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو المعصوم صلى الله عليه وسلم يراجع نفسه ويتوب إلى الله ويؤكد ذلك بقوله (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة)
ويدعو الله الأمة بأجمعها للتوبة النصوح ويبين لها أنها طريق الفلاح والنصر بقوله جلا وعلا(وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون )
أجل ـ أيها الصائمون ـ ما تسلط الأعداء على الأمة إلا بسبب ذنوبها ولن يرفع الله عنها البأس إلا بتوبة شاملة تنتظم فيها الأمة وتأخذ بها إلى معارج الفلاح ومنازل الكرامة ، والتوبة التي يدعو الله الأمة إليها هي التوبة الواسعة الجامعة التي تكون على كافة المستويات في سائر مظاهر الحياة ، توبة تظهر في حياة الجميع ، توبة تطهر الاقتصاد والسلوك الاجتماعي والطرح الثقافي والعلاقات مع الغير من الذنوب فإذا صدقت الأمة في توبتها فقد تأهلت للنصر وأخذت بأسباب التمكين )وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ( .
أيها المسلمون :إن عمر الإنسان كله مجال للتوبة ولكن المسلم يجد في شهر رمضان المبارك من فرص الطاعات مالا يوجد في غيره أبواب النيران مغلقة والشياطين مصفدة ودواعي الشر في النفس مضيقة كل ذلك مما يعين على التوبة والإنابة وإلى تكفير السيئات وعمل الصالحات ، محروم والله من أدركه رمضان فلم يغفر له أي خسارة أعظم من أن يدخل المرء فيمن عناهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بحديثه على منبره في مسائلة بينه وبين جبريل –عليه السلام- وقد جاء فيه (من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل:آمين فقت: آمين)
شهر رمضان ـ أيها الأحبة ـ شهر تُسكب فيه العبرات وتلين فيه القلوب القاسيات وإنها لفرصة للتوبة والندامة فإن النفوس لها إقبال وإدبار فطوبى لمن اغتنم إقبالها
في شهر رمضان يمسك المرء عن الأكل والشرب والشهوة فيشعر الصائم بحال إخوانه من الجوعى والمرضى والمساكين مما يبعد عن النفس الكبر والتعالي فيكون المرء متواضعا ومتصاغرا لنفسه مما يجعلها أهلا للمسائلة والمراجعة والندم والتوبة وشهر رمضان شهر الصبر إذ أن الصوم يربى النفس على الصبر وتحمل المشاق مما يعطى المسلم فرصة سائحة للتوبة والإنابة والإقلاع عن معاص ألفها وتساهل فيها.
ولربما دعا الصائم بقلب خاشع مخلص ودعا لنفسه بالهداية والصلاح فوافقت تلك الدعوة بابا مفتوحا فاستجاب الله الدعاء . والذكر شارح للصدور مطمئن للقلوب طارد للشيطان جالب لملائكة الرحمن مكفر للذنوب والخطايا وقد صح في الحديث (من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)
وأما الصدقة - أيها الأخوة- فهي برهان على الرغبة في الخير وهي تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار .
ومن دواعي التوبة في شهر رمضان –أيها الأخوة- كثرة تلاوة القرآن وسماعه ، وقارئ القرآن وسامعه بتدبر وتمعن لا بد أن ينتهي إلى التوبة فهو يقرأ ما أعده للمتقين من النعيم المقيم فتطرب له النفوس وتتعلق به القلوب ولا يكاد ينتهي من الأنس والشوق حتى يمر به مصائر الكافرين والعاصين مما تقشعر منه الأبدان ، وبين هذه المشاعر تأتي الدعوة الإلهية للتوبة والإنابة
وقارئ القرآن يستشعر التوبة لأنه يقرأ أخبار وقصص التائبين وفي مقدمتهم أبوه آدم عليه السلام فلم تقعد به الخطيئة عن التوبة والاستغفار مع ما يمر بقارئ القرآن وسامعه من آيات تربى النفس وتقوم السلوك وتهذب الأخلاق وتدعو إلى معالي الأمور
وهكذا ـ أيها الأخوة ـ يكون شهر رمضان المبارك بداية عتق المؤمن من النار ويكون القرآن دليله إلى النجاة والفلاح
فاتقوا الله أيها المسلمون وتوبوا إلى الله واستغفروه ولا تتعاظموا على الله ذنباً فعلتموه ومع التوبة والاستغفار تجنبوا الموبقات وأكثروا من الطاعات (فإن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين )
رزقني الله وإياكم الاستقامة على الإسلام والتوبة والنصوحة قبل الممات
وجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم


الخطبة الثانية
الحمد لله الذي فتح بابه للتائبين أحمده سبحانه وهو أرحم الراحمين وأشهد أن لا إله إلا الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعلى من سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فإن مفهوم التوبة والعودة إلى الله مفهوم واسع وشامل
فمن ترك الشرك والكفر والنفاق وأناب إلى الله فقد تاب
ومن أقلع عن أمر محرم كالظلم والتعدي وشرب الخمر والزنا والغيبة والبهتان وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم فقد تاب وأناب
ومن استقام على أداء المفروضات بعد التهاون بها كالحال في الصلاة أو إهمال الزوجة والأولاد وما أوكل إليه من مسؤولية فهي التوبة له
وليست التوبة هي ما سلف فحسب بل إن من توبة الله على عبده أن يجعل حاله من حسن إلى أحسن فمن يصلى في المسجد فهو على خير ومن وفق للتبكير وقراءة القرآن والحفاظ على السنن الرواتب وإدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام فهي توبة من الغفلة وفوات الفرصة
ومثل ذلك من يوفقه الله إلى نفع الآخرين ونصرتهم والذب عن حياض المسلمين والدعوة إلى الله والدفاع عن العقيدة والشريعة وبيان الحق فهذا التوفيق هي منة من الله على عبده و توبة
فالجنة جنان والناس في المشي على الصراط أقسام
وإذا كان الإنسان على ضلال مبين فإن من علامة صدقة التوبة مواصلة العمل الصالح وكذا من كان داعية شر وفساد فيشترط لصحة توبته إصلاح ما أفسده كما قال تعالى ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا )
وأما الحقوق التي للغير سواء للحق العام للأمة أو للحق الخاص فيشترط لصحة التوبة إرجاع الحقوق لأصحابها أو التحلل منهم
فمن حصل على مال أو أرض من المال العام بسبب الرشوة أو التلاعب بمناقصة أو غير ذلك من وجوه الغلول فعليه إرجاعه إلى بيت مال المسلمين ولا يغني التصدق بجزء منه أو حتى بجميعه ففي الحديث ( لا يقبل الله صدقة من غلول ) الواجب التوبة الصادقة والندم على فعل الخطيئة وإعادة المسروق إلى مكانه فالأموال تسترجع لبيت مال المسلمين
ومن أجل إعطاء الفرصة بعيدا عن المساءلة والفضيحة تم تخصيص حساب من قبل وزارة المالية في أحد المصارف لإيداع أي مبالغ من دون محاسبة وكذا الأراضي يمكن لمن تحايل على أرض حكومية أن يسلمها لوزارة الإسكان تلافيا للحرج .
وأما حقوق الخلق فلا تصح التوبة إلا بإعادة الحقوق لأهلها فإن كان مالا من نقد أو أرض أو ممتلكا فيعاد إلى صاحبه مع التعويض عن الضرر
وإن كان عرضا فيحلل من صاحبه إلا أن يخشى منه فيستغفر له ويدافع عنه في نفس المجلس الذي انتقصه فيه .
وأما الدماء والأعراض والتعدي بالضرب ونحوه فإما أن يعفو المظلوم أو يقبل التعويض أو يكون القصاص يقول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ ، فَلْيَتَحَلَّلْهَا الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ حَسَنَاتِهِ حِينَ لا يَكُونُ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ , فَإِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أَخَذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أَخَذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَجُعِلَتْ عَلَيْهِ ) رواه الإمام أحمد وغيره
فاحذروا ـ يا عباد الله مظالم العباد والمال العام واقتراف الذنوب والخطايا أو التهاون فيما أوجبه الله وغيروا حالكم من حسن إلى أحسن ومن أفضل إلى أفضل منه ثم صلوا وسلموا على نبيكم
المشاهدات 2474 | التعليقات 0