التوبة في العشر-21-9-1438هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف

محمد بن سامر
1438/09/20 - 2017/06/15 23:08PM
[align=justify]
أما بعدُ: فاستقامةُ النفوسِ وإصلاحُها، وتزكيةُ القلوبِ وتطهيرُها مسالكُ تفتحُ أبوابَ الأملِ، من أجلِ حياةٍ أفضلَ، ومسيرةٍ أزكى، النفوسُ لا تُحقِّق عزَّتها، والقلوبُ لا تُحصِّل سكينتَها إلا إذا تذلَّلَتْ لربِها راضيةً، وخضعَتْ لخالقِها راغِبةً، وأقبلَتْ على مولاها خائفةً، وسارَت إليه مُشفِقةً وجِلةً؛ لتنالَ الأمنَ، وتذوقَ لذَّةَ المناجاةِ، وحينئذٍ تطمئنُّ النفوسُ، وتنشرِحُ الصدورُ، وتستنيرُ القلوبُ، فاللهُ-سبحانه-عند المُنكسِرةِ قلوبُهم، الصادقِ تذلُّلُهم.
هذه وقفةٌ مع التوبةِ، وهي عبادةٌ من أحبِ العباداتِ إلى اللهِ، وأكرمِها عندَه، تُنتِجُ للعبد آثارًا عجيبةً من المقاماتِ والمنازلِ، تُنتِج الرضا والمحبةَ، والرِّقةَ والخضوعَ والانكسارَ، والحمدَ والشكرَ للهِ-عزَّ وجلَّ-.
التوبةُ مِنَّةٌ مِنَ اللهِ ونعمةٌ، لا تدَع ذنبًا إلا غفرتْه، ولا معصيةً إلا محَتْها، ولا تقصيرًا إلا جبَرَته.
التوبةُ نهرٌ طاهرٌ يتطهَّرُ به العبدُ من أدرانِه، وهي العودةُ الغانمةُ، والتجارةُ الرابحةُ، والرياضُ التي لا يذبُلُ زهرُها.
التوبةُ رجوعٌ إلى اللهِ بالتزامِ فعلِ ما يُحبُ باطنًا وظاهرًا، وتركِ ما يكرُه باطنًا وظاهرًا، دعاءٌ وتذلُّلٌ، وإقرارٌ بحولِ اللهِ وقوتِه، وقدرتِه ومشيئتِه، وعدلِه وحكمتِه، وفضلِه ورحمتِه، واعترافٌ بالضعفِ والتقصيرِ والحاجةِ.
التوبةُ تركُ الذنبِ علمًا بقُبحِه، وندمًا على فعلِه، وعزمًا على عدمِ العودةِ إليهِ، وتدارُكًا للأعمالِ الصالحةِ، منْ غيرِ تردُّدٍ أو انتظارٍ أو يأسٍ، في إخلاصٍ للهِ، ورغبةٍ فيما عنده من الثوابِ العظيمِ، وخوفٍ مِنَ العقابِ الأليمِ.
وكلُّ عبدٍ مُحتاجٌ إلى التوبةِ، فلا يُتصوَّرُ أنْ يستغنِيَ عنها أحدٌ مهما بلغَ مقامُه، ومهما كانت طاعتُه وصلاحُه؛ بل هي خُلُقُ الأنبياءِ والمرسلينَ، فهي تُصاحبُ البشريةَ مُنذُ أبيهم آدمُ-عليه السلامُ-: [فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]، [قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ].
ونبينُا محمدٌ-صلى اللهُ عليهِ وآلِه وسلمَ- يقولُ: "يا أيها الناسُ: توبوا إلى اللهِ؛ فإني أتوبُ إليهِ في اليومِ مئةَ مرةٍ".
بالتوبةِ النَّصُوحِ ينتقلُ العبدُ مِنَ المعصيةِ إلى الطاعةِ، ومِنَ الضعفِ إلى القوةِ، ومن الهَدمِ إلى الإصلاحِ، ومن الظلمِ إلى العدلِ، ومِنَ الإساءةِ إلى الإحسانِ، التوبةُ سدٌّ عظيمٌ أمامَ الفسادِ والمُفسِدينَ، يعرِضها الإسلامُ على الكفارِ والمحاربينَ، والمرتدينَ والمُفسِدينَ، مهما بلغَ كفرُهم وفسادُهم وطغيانُهم: [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ]، [إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ].
بالتوبةِ الصادقةِ يتطهَّرُ المجتمعُ من المآثِمِ والجرائمِ؛ ليقلَّ خطرُها، ويُحاصَر أثرُها.
التوبةُ والذكرُ والاستغفارُ تُسَكِّنُ تأنيبَ الضميرِ، وأوجاعَ النفوسِ، [الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ].
هلا وقفتُم عندَ فرحِ اللهِ بتوبةِ عبدِه؟! "للهُ أفرحُ بتوبةِ عبدِه مِنْ رجلٍ أضلَّ-ضيَّعَ-راحِلَتَه في فلاةٍ-صحراءَ-وعليه متاعُه وطعامُه وشرابُه، حتى إذا يئسَ منها، واشتدَّ عليه الحرُّ والعطشُ، نامَ نومةً، ثمَّ رفعَ رأسَه فإذا راحِلتُه عندَه".
توبةٌ وأوبةٌ يفرحُ اللهُ بها، فهي انتصارُ العبدِ على أسبابِ الضعفِ، والنفسِ الأمَّارةِ بالسوءِ، والشيطانِ الرجيمِ، إنه فرحُ اللهِ البرِّ اللطيفِ، المُحسِن الكريمِ، الجوادِ الرحيمِ.
لقدْ جعلَ اللهُ التوبةَ وسيلةً لمحبتِه وفرحِه، ولمْ يكنْ هذا الفرحُ منَ اللهِ في شيءٍ من الطاعاتِ إلا التوبةَ، فرحُ إحسانٍ من العليِّ الأعلى: [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]، يحبُ التوابينَ؛ لأنَّ التائبَ المُوفَّقَ يكونُ في حالٍ من الوَجَلِ والخوفِ، والانكسارِ والتذلُّلِ، والتضرُّعِ والرجاءِ بأنْ يقبلَ اللهُ توبتَه، ويغفِر زلَّتَه، ويتجاوزَ عن ذنبِه، ويغسِل حوبَتَه، ويمحوَ خطيئتَه.
وهذه الأحوالُ من أفضلِ أحوالِ العبدِ التي يحبُّها اللهُ، فاللهُ يحبُّ من عبدِه أن يكونَ توابًا، كلما زلَّ تابَ، وكلما أذنبَ استغفرَ.
توابونَ أوابونَ يشعرونَ بحبِ اللهِ ومعيَّتِه؛ لأنهم لا يشعرونَ أنهم مُنفرِدون بهمِّهم، ولا وحيدون بمُصابِهم؛ بل يأوون إلى ركنِ اللهِ الشديدِ، ويلجؤون إلى كنَفِ اللهِ الرحيمِ.
ووقفةٌ أخرى مع مظاهرِ هذه المحبةِ الإلهيةِ والفرحِ الربَّانيِ بالتوبةِ، أنها تبديلُ السيئاتِ حسناتٍ: [إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]، فأيُّ جودٍ وأيُ كرمٍ أعظمُ وأوسعُ من هذا؟!
التوبةُ لا تمحو الذنبَ فقط؛ بل تُحوِّله حسناتٍ تُضاف إلى رصيدِ الحسناتِ، الربُّ يتحبَّبُ إلى عبدِه وهو الغنيُّ، والعبدُ يقصرُ ويذنبُ وهو الفقيرُ، "اللهم أنتَ ربي لا إلهَ إلا أنتَ، خلقتني وأنا عبدُك، وأنا على عهدِك ووعدِك ما استطَعتُ، أعوذُ بك منْ شرِ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتِك عليَّ، وأبوءُ بذنبي، فاغفرْ لي فإنَّه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ".
حينَ يمُنُّ اللهُ على العبدِ بالتوبةِ، ويُبدِّلُ سيئاتِه حسناتٍ، كيفَ يكونُ حالُه وحالُ المجتمعِ؟!
العاقُّ لوالدَيْهِ حين يمُنُّ الله عليه بالتوبة فيصلُحُ حالُه، فيبَرُّ والدَيْه، ويصِلُهما، ويُغدِقُ عليهما، ويُحسِنُ إليهما، ويتواضعُ لهما، ويدعُو لهما: [رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا].
والقاطعُ للرحِم، حين يمُنُّ اللهُ عليه بالتوبةِ، يُسارِعُ إلى وصلِ رحِمِه، ويُؤسِّس لعهدٍ جديدٍ مع الأقربينَ، في الزياراتِ والاتصالاتِ، والمساعداتِ وقضاءِ الحاجاتِ قدرَ المُستطاعِ.
والمُغتابُ ما أجملَ حُسنَ متابِه؛ فبعدَ أنْ كانَ يتتبَّعُ السلبياتِ، وكشفَ العوراتِ، وبثَّ الأخبارِ المُغرِضةِ، والشائعاتِ الكاذِبةِ، وبعدَ أن كانَ يحتقرُ ويسخرُ، يتوبُ إلى ربِه، ويؤوبُ إلى فضلِه ورحمتِه، فلا يكتفِي بكفِّ لسانِه عن الحرامِ والممنوعِ؛ بل ينتقل إلى ذكرِ المحاسنِ، ونشرِ الفضائلِ، والتماسِ الأعذارِ، وسدِّ النقائصِ: [أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ].
وناشرُ الرذائلِ؛ كلمةً، وصوتًا، وصورةً، ذكرًا أو أُنثى، حين يُزيِّنُ الفواحِشُ، ويُحبُّ أن تشيعَ في الذين آمنوا، في قصصٍ وأفلامٍ، ورواياتٍ وتمثيليات، وكتاباتٍ ومقالاتٍ، ما أحسنَه يومَ منَّ اللهُ عليهِ، فتابَ وآمنَ، وعملَ أعمالاً صالحة تدفِنُ الماضي الذي أفنى فيهِ زهرَةَ عُمرِه، فيدعو إلى الخيرِ والفضيلةِ والأخلاقِ الحسنةِ؛ في مجالاتِ الخطأِ نفسِها التي عملَ فيها من قبلُ، فيُصلحُ ما أفسدَ، ويبني ما هدمَ.
والظالمُ صاحبُ المظالمِ والحقوقِ، ما أروعَهُ وقد منَّ الله عليه بتوبةٍ نصوحٍ، وندمٍ عريضٍ، فيرجعُ إلى ربِه، ويردُّ المظالمَ والحقوقَ إلى أهلِها، ويُعيدُها إلى أصحابِها ماديةً كانتْ أو معنويةً، أستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
وبعدُ: فهذه قوافلُ التائبينَ، ومراكبُ الناجينَ؛ في هذه العشرِ المباركةِ، فهل شممتَ ريحًا أطيبَ من أنفاسِ التوابينَ؟! وهل رأيتَ أعذبَ من دموعِ النادمينَ؟! وهل شاهدتَ أجملَ من لِباسِ المُنكسِرين؟! وهل سمعتَ نداءً أجملَ وألطفَ وأرقَّ من نداءِ ربِ العالمينَ: [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]، [وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا].
اللهم إنَّا نسألُك لنا وللمسلمينَ حبَّك، وحبَّ مَنْ يحبُك، وحبَّ ما يُقربُ إلى حبِك، اللهم مُنَّ علينا وعلى المسلمينَ بالتوبةِ في كلِ وقتٍ وحينٍ، سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا ولوالدِينا، وللمؤمنينِ والمؤمناتِ، والمسلمينِ والمسلماتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وغلبتِه، وَقهرِ الرِّجَالِ وغلبتِهم، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْنَا، وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ نَعْمَلْ، اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، اللهم انصرَ المسلمينَ في كلِّ مكانٍ، اللهم عليك بأعداءِ المسلمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اللهم اكفِ المسلمينَ شرَهم بما شئتَ، اللهم أصلحْ ولاةَ أمورِ المسلمينَ، وارزقْهم البِطانةَ الصالحةَ الناصحةَ، ووفقْهم لما تحبُ وترضى، اللهم إنا نسألُك الجنةَ، وما قرَّبَ إليها من قولٍ أو عملٍ، ونعوذُ بك من النارِ وما قرَّبَ إليها من قولٍ أو عملٍ، اللهم إنا نسألُك من كلِّ خيرٍ، ونعوذُ بك من كلِّ شرٍ.
[/align]
المرفقات

التوبة في العشر-21-9-1438هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف.pdf

التوبة في العشر-21-9-1438هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف.pdf

التوبة في العشر-21-9-1438هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف.docx

التوبة في العشر-21-9-1438هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف.docx

المشاهدات 992 | التعليقات 0