التوبة طريق الفلاح
أنشر تؤجر
الخُطْبَةُ الأُولَى :
الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ، أحمده تعالى وأشكره وأتوب إليه وأستغفره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له ، وأشهد أن نبينا محمداً عبدُ الله ورسوله ، سيد المستغفرين والتائبين ، وخاتم الأنبياء والمرسلين ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد :
فأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
عباد الله : إن الوقوع في الخطأ والزلل من طبيعة البشر ، لا يسلم منه أحد ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :" كل ابن أدم خطاء وخير الخطاءين التوابون "
وقد حُفَّ بالإنسان أعداءٌ يتسلطون عليه من شياطين الجن والإنس ، يحسِّنون له القبيح ويقبِّحون في نظره الحسن ؛ ومع هؤلاء الأعداءِ نفسُه الأمارة بالسوء ؛ تدعوه إلى تناول الشهوات المحرمة ؛ فهو معرَّض للخطر من كل جانب ، لكن مع هذا كله ، فقد جعل الله له حصناً إذا أوى إليه رجعت هذه الأعداء كلها خاسئة مدحورة ؛ وذلكم الحصن هو توبته إلى ربه ، والاستعانة به ، واللهج بذكره ، كما أمره ربه تعالى بقوله :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا ).
التوبة من الذنوب ، والرجوع إلى علام الغيوب ، هي مبتدأ طريق السالكين ، ورأس مال الفائزين ، ومفتاح استقامة المائلين ، فمن أراد أن ينتظم في طريق المفلحين ، فعليه أن يلزم التوبة في جميع أيام عمره ، ولا يفارقها حتى الممات ، قال الله تعالى :} وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون {
والله سبحانه فتح بابه للتائبين ليلاً ونهاراً ،" يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل "، يتلطف سبحانه بعباده الذين كثرت سيئاتهم وعظمت خطاياهم ، فينهاهم عن أن تحملهم كثرةُ ذنوبهم على القنوط من رحمة الله ، وترك التوبة منها ؛ فيقول سبحانه :( قل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ).
فمن بدرت منه خطيئة ، أو ارتكب معصية فبادر بالتوبة والاستغفار ، وأتبعها بالحسنة التي تمحوها - كفرها الله عنه ووقاه خطرها ، كما قال تعالى :( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً ).
والتوبة الصادقة - يا عباد الله - تمحو الخطيئة مهما عظمت ، قال تعالى :( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ).
أيها المؤمنون : لقد عرض الله التوبة على الذين هم أشد جرماً ، الذين يقتلون أنبياءه ويقولون :( إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ) ويقولون :( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) لقد دعا هؤلاء إلى التوبة ، فقال سبحانه :( أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).
والتوبة الصادقة تمحو الخطيئة مهما عظمت ، قال الله تعالى :( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ).
واعلموا – رحمكم الله - أن الذنبَ مهما عظمَ فعفو اللهِ أعظم ، وأن من يظنَ أن ذنباً لا يتسع له عفو الله ومغفرته فقد ظن بربه ظن السوء ؛ لأن القنوط من رحمة الله من أعظم كبائر الذنوب ؛ قال الله تعالى :( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ).
فيجب على العبد أن يعترف بذنبه ، ويطلب من ربه مغفرته ، ويبادر بالتوبة منه ، ولا يصر عليه ، كما ذكر الله ذلك عن عباده المتقين بقوله تعالى :( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ).
وإذا أخطأ العبد ووقع في الذنب ، ثم تاب منه ؛ فإن الله يقبل توبته ويغفر ذنبه ، لو تكرر الذنب منه ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن عبدا أصاب ذنبا وربما قال: أذنب ذنبا فقال: رب أذنبت وربما قال: أصبت فاغفر لي ، فقال ربه : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي ، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا أوأذنب ذنبا فقال رب : أذنبت أو أصبت آخر فاغفره ، فقال : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ، غفرت لعبدي ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا وربما قال : أصبت ذنبا قال : قال: رب أصبت أو قال: أذنبت آخر فاغفره لي ، فقال : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ، غفرت لعبدي ثلاثا فليعمل ما شاء .
قال النووي رحمه الله : وفي الحديث أن الذنوب ولو تكررت مائة مرة بل ألفا وأكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته ، أو تاب عن الجميع توبة واحدة صحت توبته ؛ وقوله في الحديث : فليعمل ما شاء ، معناه : ما دمت تذنب فتتوب غفرت لك .
ولا يفهم من الحديث أن فيه ترخيص في فعل الذنوب ، ولكن فيه الحث على التوبة لمن وقع في الذنب ، وأنه لا يستمر على فعله .
قيل للحسن البصري رحمه الله : ألا يستحي أحدُنا من ربه يستغفرُ من ذنوبه ثم يعودُ ثم يستغفرُ ثم يعودُ ، فقال : ودّ الشيطانُ لو ظفرَ منكم بهذه فلا تملوا من الاستغفار !
فالَّلهُمَّ هَيئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً وَتُبْ عَلينَا إنَّكَ أَنْتَ التَّوابُ الرَّحيمُ ، واغْفِرْ لَنَا إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحيمُ .
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الجَلِيْلَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مبارك فيه كما يحب ربنا ويرضى ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وكل من اقتفى ، أما بعد :
معاشر المؤمنين : إن التوبةَ ليست مجرد لفظ يتردد على اللسان من غير التزام لمدلولها ، وإن مدلول التوبة هو الرجوع من المعصية إلى الطاعة ، ولا يكون ذلك إلا بتوفر شروطها وهي :
الإقلاع عن الذنب ؛ والندم على ارتكابه ؛ وأن يعزم عزماً جازماً على أن لا يعود إلى هذا الذنب مرة أخرى طول حياته ؛ وإذا كان الذنب الذي تاب منه يتعلق بحقوق المخلوق ؛ فإن كان هذا الحق مالاً وجب رده إليه إن كان باقياً ، أو ردُّ قيمته إن كان تالفاً ، وإن كان الحق غير مالي ؛ كأن استطال في عرضه بغيبة أو نميمة أو سب أو شتم - وجب عليه أن يدعو له ويثني عليه ، وإذا يمكن التحلل منه استحله ، وإذا خاف من إخباره بذلك ضرراً أكبر فلا يخبره ؛ قال النبي ﷺ :" مَن كَانَتْ له مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ مِن عِرْضِهِ أَوْ شيءٍ ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليَومَ ، قَبْلَ أَنْ لا يَكونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ ، إنْ كانَ له عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ منه بقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ ، وإنْ لَمْ تَكُنْ له حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عليه ".
واعلموا – رحمكم الله – أنه يجب على العبد أن يبادر بالتوبة ، فإنه لا يدري متى يحضره الأجل ، لأن الموت يمكن حضوره في كل لحظة ؛ فيحال بينه وبين التوبة ، وتفوته الفرصة فيندم حين لا ينفعه الندم ، وينتقل إلى الدار الآخرة مثقلاً بالذنوب حاملاً للأوزار .
ولقد حذرنا الله – سبحانه - من ذلك فقال :( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ )، وقال ﷺ :( إنَّ اللهَ يقبلُ توبةَ العبدِ ما لم يُغرغرْ ) أي : ما لم تحضره الوفاة .
اللهم إنا نسألك توبة نصوحاً تهدي بها قلوبنا وتشرح بها صدورنا وتغفر بها خطايانا...
اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لنا مغفرة من عندك وارحمنا ، إنك أنت الغفور الرحيم .
اللهم اغفر لنا خطأنا وجهلنا ، وإسرافنا في أمرنا ، وما أنت أعلم به منا ، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدِّنا وخطأنا وعمدنا ، وكل ذلك عندنا اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير ، والموت راحةً لنا من كل شر .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداءك أعداء الدين .
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا .
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم . ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
المرفقات
1730375051_التوبة طريق الفلاح.docx
أنشر تؤجر
تنبيه : يوجد تكرار في الخطبة الأولى فقرة ( والتوبة الصادق ...) يفضل حذف العبارة الأولى
تعديل التعليق