التوازن في حياة المسلم (عبدالله بن المبارك أنموذجًا).
عبدالله الغامدي
إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إلَيْهِ، ونعوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فلا مضلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أن لاَ إلَهَ إلا اللَّهُ وَحَدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} أما بعد:
قالَ الذهبيُّ عنه: "عالمُ زمانه، وإمام الأتقياء في وقته"، وقال عنه سفيان بن عيينة: "نظرتُ في أصحاب محمد وفي فلان؛ فما سبقوه إلا بالصحبة"، وقال عن سفيان الثوريُّ -وهو إمام النَّاس في العلم والعبادة-: "إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة مثل فلان، فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام!".
ذاك -أيُّها الكرام-: هو الإمام المبارك العالِمُ القدوة: عبد الله بن المبارك المروزيُّ؛ نسبةً لمدينة مرو.
مِنْ أعظم مزايا هذا الإمام أنَّه اجتمع فيه من المزايا ما تفرَّق في غيره؛ فكانَ أُنموذجًا لشخصيَّة المسلم المتكاملة، يقول عنه إسماعيل بن عيَّاش: "لا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير، إلا وقد جعلها في عبد الله بن المبارك"
وليستْ هذه شهادةً فرديَّةً مِنْ أحدِ الغالين المبالغين فيه، بل كانتْ هذه نظرةُ كثيرٍ مِنْ الناس في زمانه؛ حتى أنهم اجتمعوا مرة فقالوا: "تعالوا نعدُّ خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والفصاحة، والشعر، والزهد، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والشجاعة، والفروسية، والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه".
ولا شكَّ -أيُّها الكرام- أنَّ هذه الصِّفات مجتمعةً، ما كانتْ لتأتي -بعدَ فضلِ الله- إلا بمجاهدةٍ عظيمةٍ للنَّفس وسعيٍ حثيثٍ في تكميلها وترقيتها؛ حتى أصبحَ ابن المبارك كأنَّه أُمَّةٌ كاملةٌ في رجلٍ واحد:
وليسَ على الله بمستنكَرٍ *** أن يجمعَ العالَم في واحدِ!
أمَّا عن علم هذا الرجل؛ فيكفيك فيه قول الإمام أحمد -وهو الإمام أحمد- رحمه الله: "ما رأيتُ أطلبَ للعلم من ابن المبارك!"
وقد طوَّف الأرض كلَّها في طلب الحديث، وكان لا ينقطعُ عنْ العلم حتى بعد أن بلغَ فيه مبلغًا عظيمًا، حتى استغربَ بعض طلابه من حرصه عليه مع بلوغه فيه ما بلغ! فقال له: "إلى متى تكتب العلم؟ فقال: لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أكتبها بعد"!
وكانَ مِنْ ثمرةِ هذا الاستمرار وعدم الانقطاع عن طلبِ العلم؛ أنْ أصبحَ يُلقَّب بـ: "أمير المؤمنين في الحديث" -مع كونه عاشَ في زمن كبار المحدِّثين-
وبلغَ مِنْ اجتماع النَّاس وطلاب العلم عليه أنَّ هارون الرشيد قدم الرَّقَّةَ فاجتمع إليه الناس ثم دخل ابن المبارك، فانجفل الناس خلف ابن المبارك، وتقطَّعتْ النعال، وارتفعت الغبرة، فأشرفت أُمُّ ولدٍ لأمير المؤمنين من برج، فقالت: ما هذا؟ قالوا: عالم من أهل خراسان قَدِمَ. قالت: هذا -والله- الملك، لا ملك هارون!
ومع هذا العلم الغزير الواسع؛ فلم يكنْ ابن المبارك يستطيلُ على النَّاس بعلمه، أو يتكبَّرُ عليهم به؛ بل كانَ غايةً في الأدب والرفق وحسن التَّعليم؛ جاء: "أنَّ رجلًا عَطسَ عنده فلم يحمد الله؛ فقال: ماذا يقول العبد إذا عطس؟ فقال الرجل: الحمد لله! فقال: يرحمك الله" فعجب الناس من أدبه وحسن أسلوبه!
أمَّا عن شدّةِ ورعهِ واحتياطه لدينه؛ فينبيك عنه الحسنُ بنُ عرفة إذ يقول: "قال لي ابنُ المبارك: استعرتُ قلماً بأرض الشام، فذهب عليَّ أن أردَّه إلى صاحبه، فلمَّا قدمت مرو نظرتُ فإذا هو معي؛ فرجعتُ يا أبا عليٍّ، -الحسن بن عرفة- إلى أرض الشام، حتى رددته على صاحبه!".
ولم يكن ابن المبارك على عبادته وطلبه للعلم رجلًا فقيرًا عالةً على الآخرين يتكفَّفُ النَّاس بحُجّة التفرُّغ للعلم والعبادة، بل كان مع ذلك تاجرًا مِنْ كبار التُجَّار، فكانَ صاحبَ مالٍ وفيرٍ وثروةٍ واسعةٍ، لكنَّ هدفَه مِنْ المال كانَ شريفًا واضحًا، وغايتَه من التجارة كانت نبيلةً ظاهرة؛ ولذا لم يحرفه المال عن طاعة ربِّه بل كان عونًا له عليها؛ قال له الفضيلُ مرةً متعجِّبًا: "أنت تأمرنا بالزهد والتقلُّل والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع! كيف ذا؟ قال: يا أبا علي، إنما أفعل ذا لأصون وجهي، وأكرم عرضي، وأستعين به على طاعة ربي".
ولم يكنْ هذا الكلام مِنْ المبارك عن المال كلامًا نظريًّا يُخالفُ واقعَه، بل كان هذا حالُه مع المال حقيقةً؛ فقد كان يُفرِّق غالب ماله في كفاية العلماء، وتفريغ المحدِّثين، ونفع الفقراء والمساكين، وليسَ أدلَّ على ذلك مِنْ قصته العجيبة مع الحجيج؛ فقد "كان ابن المبارك، إذا كان وقتُ الحجِّ، اجتمع إليه إخوانه، من أهل مرو، فيقولون: نصحبُك يا أبا عبدالرحمن، فيقول لهم: هاتوا نفقاتكم، فيأخذ نفقاتهم، فيجعلها في صندوق، ويُقفل عليها، ثم يَكتري لهم، ويُخرجهم من مرو إلى بغداد، ولا يزال ينفق عليهم، ويُطعمهم الطعام، وأطيبَ الحلوى، ثم يُخرجهم من بغداد، بأحسن زِيٍّ، وأكملِ مروَّة، حتى يَصلوا إلى مدينة رسول الله -‘-، فإذا صاروا إلى المدينة، قال لكلِّ رجل منهم: ما أمرَك عيالُك، أن تشتريَ لهم من المدينة، من طُرَفها؟ فيقول: كذا، ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا وصلوا إلى مكة، وقضَوا حجَّهم من مكة، قال: ما أمرك عيالك، أن تشتري لهم متاعاً من مكة؟ فيقول: كذا وكذا، فيشتري لهم، ثم يُخرجهم من مكة؛ فلا يزال ينفق عليهم، إلى أن يَصيروا إلى مرو، فإذا صاروا إلى مرو، جصَّص أبوابهم ودورهم، فإذا كان بعدَ ثلاثة أيام، صنعَ لهم وليمة، وكساهم، فإذا أكلوا وشربوا، دعا بالصُّندوق، ففتحه، ودفع إلى كلِّ رجلٍ منهم صُرَّتَهُ، بعد أن كتب عليها اسمه".
وكانَ ابنُ المبارك مع عبادته وغناه، مِنْ أشجع النَّاس وأبسل الخلق؛ يُحدِّثك عن شيءٍ من ذلك عبدالله بن سنان إذ يقول: "كنت مع ابن المبارك بطرسوس، فصاح النَّاس: النفيرَ النفيرَ، قال: فخرج ابن المبارك، وخرج الناس، فلما اصطفَّ المسلمون، والعدوُّ، خرج رجلٌ من الروم، يطلب البراز، فخرج إليه مسلمٌ، فشد العلجُ على المسلم، فقتل المسلمَ، حتى قتل ستةً من المسلمين مبارزةً، فجعل يتبختر بين الصَّفَّين، يطلب المبارزة، لا يخرجُ إليه أحدٌ، قال: فالتفتُّ إلى ابن المبارك؛ فقال: يا عبدالله، إن حدث لي حدثُ الموت؛ فافعل كذا، قال: وحرَّك دابَّته، وخرج العلج، فعالج معه ساعة، فقتل العلجَ، وطلب المبارزةَ، فخرج إليه علجٌ آخر، فقتله، حتى قتلَ ستة من العلوج مبارزةً، وطلب البراز، فكأنَّهم كاعوا عنه، فازدحم إليه الناس، فنظرت، فإذا هو ابن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه، فمددته، فإذا هو هو، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يُشنِّع علينا! " -يعني ممَّنْ يفضحُنا ويكشفُ سترنا- فكانَ رحمه الله تقيًّا خفيًا يجتهدُ في كتم حسناته، ولكن يأبى اللهُ إلا إظهارَها ليكونَ قدوةً للنَّاس:
يُخفي محاسنه والله يُظهرها *** إنَّ الجميلَ إذا أخفيتَه ظهرا
ومِنْ عجيب ما يمرُّ بك في سيرة ابن المبارك، النيَّةُ التي نوى بها شُربَ ماءِ زمزم فقد جاء أنَّ: "ابن المبارك أتى زمزم، فاستقى شربة، ثم استقبل القبلة فقال: اللهم إن ابن أبي المؤمِّل، حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي ﷺ أنه قال: ماء زمزم لما شرب له وهذا أشربه لعطش القيامة، ثم شربه!".
وبعدَ هذه المسيرة العامرة المباركة؛ توفي ابن المبارك رحمه الله سنة 181ه، عن ثلاثٍ وستين سنة، قضاها في العلم والتعليم، والعبادة، وحماية ثغور المسلمين، ونفع الناس، وقضاء حوائج الخلق. وقد حدَّثَ بعض من شَهِدَ وفاته أنَّه فتح عينيه حينها، فضحك وقال: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) ثُمَّ فاضتْ روحه إلى باريها!
جمالُ ذي الأرضِ في الحياةِ وهم *** بعد المماتِ جمالُ الكُتْبِ والسِّيرِ
فاللهمَّ اغفر لابن المبارك وارحمه، واجمعنا به والنبيين والصالحين في جنات النعيم
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه غفور رحيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وذريته ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} أما بعد:
فأعظمُ درسٍ يمكنُ أن نخرجَ به من هذه السِّيرةِ المباركة لعبد الله بن المبارك -أيُّها الكِرام-: هو التَّوازنُ في الحياة، والسعي إلى غاية الكمال الإنسانيِّ الممكن.
وكثيرٌ مِنْ النَّاس تصوُّره عن نفسه وغايته مِنْ الحياة قاصر: فهو في ظنّه إمَّا أن يكونَ عابدًا زاهدًا لا حظَّ له من الدُّنيا وتحصيل العلم، أو تاجرًا كبيرًا لا نصيبَ له من العبادة والعلم، أو طالبَ علمٍ مقلاً من التكثُّرِ من العبادة وتحصيل المال.
وقليلٌ مَنْ النَّاس مَنْ يتصوُّر أنَّه يمكن أن يجمعَ قدرًا مِنْ ذلك كُلِّه -كما فعل ابن المبارك- لو استعانَ بربِّه، وجاهدَ نفسَه، وسعى بتدرُّج لهدفه مِنْ التوازن في الحياة، هذا الهدفُ العظيمُ الراجعُ في حقيقته إلى القاعدة الشرعيَّة النبويَّة العظيمة في الدِّين: "أعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه".
وليسَ المقصودُ أن يكونَ الإنسانُ في حياته كابن المبارك؛ فابنُ المبارك كانَ أنموذجًا صعبًا وحالةً فريدةً حتى في وقته وعلى رجال زمانه -وهُمْ مَنْ هم!-، لكنَّ المقصودَ أن يبدأ الإنسان في السير على خُطى ابن المبارك في سعيه للكمال طالبًا بذلك رضى الله، وكلٌّ بما استطاع وبما فتحَ به ربُّه عليه.
فأعطِ -أيُّها المبارك- لروحك حظَّها مِنْ العبادة، ولنفسك حظَّها من المال، ولعقلك حظَّه مِنْ العلم، ولجسدك حظَّه مِنْ الصَّحة، ولأهلك وأصدقائك ومَنْ حولك حظَّهم مِنْ مجالستهم والإنفاق عليهم وقضاء حوائجهم.
فاللهُ -عزَّ وجلَّ- يُحبُّ العبدَ المتَّزن الذي يسعى لأن يُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه بما يُوافق شرعه ودينه.
ولم أرَ في عيوبِ النَّاس شيئًا *** كنقصِ القادرين على التمامِ!
فاللهُمَّ ارزقنا الكمالَ الذي يُرضيك عنَّا، وأعنَّا على تكميل أنفسنا
واجعلنا مِنْ عبادك الداخلين عليك مِنْ كلِّ بابٍ أبواب الخير.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
المرفقات
1716491383_التوازن في الحياة وسيرة عبدالله بن المبارك.docx
1716491406_التوازن في الحياة وسيرة عبدالله بن المبارك.pdf