التهاجر
محمد بن إبراهيم النعيم
1439/05/29 - 2018/02/15 13:12PM
لقد أمر الله -تبارك وتعالى-المسلمين أن يكونوا متآلفين غير متهاجرين، تشيع فيهم روح المحبة والوئام، ولذلك حث على كل ما فيه تقوية لروح الإخاءِ بين الناس بإفشاء السلام والمصافحة وحسن الخلق والتهادي والتزاور وقضاء حوائج الناس حتى تبسم الرجل في وجه أخيه جعل الله ثوابه صدقة من الصدقات. وحذر من كل ما يؤول بالمسلمين إلى التهاجر فيما بينهم. فحذَّرَ من السَّبِّ والمعايرة وسوء المعاملة والغيبة والنميمة وسوء الظن والتجسس والتناجي بين اثنين بحضور ثالث، والقطيعة والتهاجر والتدابر والتشاحن.
وكثير من الناس يجهلون إثم التهاجر بين الناس، وأنه قد يصل إلى أن يكون كبيرة من كبائر الذنوب. إذ لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه أكثر من ثلاثة أيام، لما روته عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-قَالَ: (لا يَكُونُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ مُسْلِمًا فَوْقَ ثَلاثَةٍ، فَإِذَا لَقِيَهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ ثَلاثَ مِرَارٍ، كُلُّ ذَلِكَ لا يَرُدُّ عَلَيْهِ، فَقَدْ بَاءَ بِإِثْمِهِ) رواه أبو داود
وبين -صلى الله عليه وسلم-بأن المبادر إلى التصالح هو من سيفوز بالرتبة العليا والخيرية عند الله، لما رواه أبو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ –رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ) متفق عليه.
وإذا رد الآخر على السلام وقبل التصالح اشتركا في الأجر، وأما إذا لم يرد عليه، فاز الأول بالأجر وعُذر أمام الله تعالى، وباء الآخرُ بالإثم والعذاب.
فقد روى أبو هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوْقَ ثَلاثٍ، فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلاثٌ، فَلْيَلْقَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ فَقَدْ اشْتَرَكَا فِي الأَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، فَقَدْ بَاءَ بِالإِثْمِ، وَخَرَجَ الْمُسَلِّمُ مِنْ الْهِجْرَةِ- أي من إثم الهجران) رواه أبو داود.
ولهذا فإن إثم الهجر يزول بمجرد السلام، ومن سلم على صاحبه يريد التصالح فلم يرد عليه، ردت عليه الملائكة، لما رواه هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ –رضي الله عنه- قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ مُسْلِمًا فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، فَإِنْ كَانَ تَصَارَمَا فَوْقَ ثَلاثٍ، فَإِنَّهُمَا نَاكِبَانِ عَنْ الْحَقِّ مَا دَامَا عَلَى صُرَامِهِمَا، وَأَوَّلُهُمَا فَيْئًا فَسَبْقُهُ بِالْفَيْءِ كَفَّارَتُهُ، فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ سَلامَهُ، رَدَّتْ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ، وَرَدَّ عَلَى الآخَرِ الشَّيْطَانُ، فَإِنْ مَاتَا عَلَى صُرَامِهِمَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي الْجَنَّةِ أَبَدًا) رواه أحمد.
واعلموا -أيها الأخوة- أن المتهاجِرَيْن يُحرمون من مغفرة الله تعالى حين تعرض أعمال العباد على الله عز وجل كل اثنين وخميس، فعن أبي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- رفعه الى النبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ، فَيَغْفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلاَّ امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا) رواه مسلم.
وفي حديث آخر أن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)
فكم شهر وكم سنة أُخرت عنكم المغفرة يا متهاجرين يا محرومين، لأنه يقال كل اثنين وخميس: (أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا).
لو قيل لأحدنا: إن راتبه سيتم إيقافه لمدة شهر ماذا سيفعل؟ وماذا سيفعل لو قيل له: أن الراتب سيتوقف لمدة سنة، فماذا سيتخذ من إجراءات؟ فلا شك أن هذا الشخص سيفعل المستحيل، ويطالب وينادي ويوسط وجهاء الناس؛ لكي لا يوقف عنه راتبه.
إذن ما رأيكم -أيها الإخوة- فيمن يُرفعُ عمله كل أثنين وخميس فلا يُغفر له؛ فيُحرمُ المغفرة؛ فتوقف عنه المغفرة؛ لأنه متشاحن مع زميل له أو مع جار له؟ هل هناك أعظم من هذا الحرمان؟ ألا تبحث عمن يصلح ما بينك وبين خصمك حتى لا تحرم المغفرة؟
والهجر فوق ثلاثة أيام كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأنه توعد صاحبه بالنار، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه-قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ) رواه أبو داود.
قال النووي -رحمه الله تعالى-: " يحرم الهجر بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال بالنص، وتباح في الثلاث بالمفهوم، وإنما عفي عنه في ذلك؛ لأن الآدمي مجبول على الغضب، وسوء الخلق، فسومح بذلك القدر ليرجع ويزول ذلك العارض" أهـ.
ومن هجر أخاه سنة كاملة كان إثمه كإثم قاتل نفس مؤمنة، فما بالكم بمن هجر أخاه أو جاره لسنوات عديدة، وما زال مصرا على رأيه؟ فما مقدار عقابه يا ترى؟
فعَنْ أَبِي خِرَاشٍ السُّلَمِيِّ –رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ) رواه أبو داود.
وإذا وقع التهاجر بين الأقارب زاد الإثم، لأنهما جمعا بين اثم التهاجر واثم قطيعة الرحم.
فبادر أخي المسلم إلى التصالح مع أخيك المسلم، بادر إلى السلام عليه، ولا تقل هو الذي أخطأ في حقي، ولا تقل أنا أكبر منه، ولا تبحث عن مبررات، فالمسألة جنة أو نار، تواضع واصفح عما حصل، وادفن الماضي بما فيه، وكن سبَّاقًا إلى الخير؛ لتفوز بكامل الأجر، وإلا سيقال في حقك كل اثنين وخميس: (أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)، بل احمد الله تعالى أنه لم يأت أجلُك وأنت مخاصما وهاجرا لأحد المسلمين دون مبرر شرعي، ولو حصل ذلك لكنت من أهل النار، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- (لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ) رواه أبو داود.
نسأل الله أن يؤلف بين قلوبنا، ويجعلنا متحابين فيه، ويبعد عنا عوامل الفرقة والاختلاف، ويطهر قلوبنا من الغل والحقد والحسد، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل المؤمنين إخوة في الإيمان، شبههم بالبنيان، حثَّهم على ما تقوم به تلك الأخوة وتستمر مدى الزمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث لجميع الإنس والجان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان. أما بعد:
فقد علمنا أن هجر المسلم للمسلم لا يجوز أن يزيدَ على ثلاثة أيام، وأن المتهاجرين لا يُغفر لهم حين يُغفر لجميع المسلمين كل اثنين وخميس، ومن هجر أخاه سنة كاملة، ُكتب عليه عقاب كمن قتل نفسا مؤمنة، ومن مات وهو مخاصما لأخيه المسلم دخل النار، فَإِنْ مَاتَا عَلَى صُرَامِهِمَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي الْجَنَّةِ أَبَدًا.
أيها الأخوة في الله، ويختلف حكم الهجر باختلاف المهجور، فإن تعلق الهجر بالزوجة كان ذلك جائزا عند مخافة نشوزها، لقوله تعالى }وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ{، ولا يكون هجرها إلا في البيت، وقد هجر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض أزواجه شهرا كاملا، وإذا وقع بين الأهل والإخوان من المغاضبة، فيجوز الهجر فيه بترك بسط الوجه مثلا مع عدم هجر السلام والكلام، وقد حصل مثل هذا مع عائشة -رضي الله عنها- حيث قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي لأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى)، قَالَتْ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: (أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قُلْتِ: لا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ)، قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَهْجُرُ إِلاَّ اسْمَكَ) متفق عليه.
وإذا تعلق الهجر بالمسلم، فإنه يعد كبيرة من الكبائر إذا زاد على ثلاثة أيام مع عدم وجودِ مبرر شرعي لهذا الهجر كفسق أو نحوه، وإذا كان المهجور من ذوي الرحم فإنه كبيرة حتى وإن لم تبلغ المدةُ ثلاثةَ أيام؛ لأن الهجرَ هنا أُضيف إليه قطيعة رحم، أما هجر أهل البدع والأهواء فإنه مطلوب.
أيها الأخوة في الله
لقد أباح الله الكذب وهو محرم؛ لغرض الإصلاح بين الناس، وأجزل الله المثوبة لمن سعى في الإصلاح بين المتخاصمين شفقة بهؤلاء المتخاصمين أن يقعوا في الإثم العظيم. ويحرموا من مغفرة رب العالمين، فهل نبادر إلى ذلك قبل فوات الأوان؟
- اللهم ألّف على الخير قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش والفتن، ما ظهر منها وما بطن.
- اللهم إنا نعوذ بك من الشقاق والنفاق، وسوء الأخلاق
- اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت،
- اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا،
- اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا
- اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا،
23/8/1433هـ