التمــادي \ حميد بن خبيش
احمد ابوبكر
1437/05/12 - 2016/02/21 05:12AM
[align=justify]يحتكم المسلم خلال مقامه على هذه البسيطة إلى منهج رباني يحدد علاقته بخالقه وبني جنسه ثم سائر الموجودات، لذا شكلت العبادات والمعاملات والأخلاق منظومة متماسكة، يفضي كل عنصر فيها إلى الآخر في تناغم مذهل يضمن للجهد الإنساني حرثي الدنيا والآخرة، وإذا كان ابن آدم قد كُتب عليه حظه من المعصية والإثم، إلا أن باب التوبة المشرع دوما يستحث كل مسلم على المبادرة لاستعادة توازنه النفسي بالاستغفار والذكر، والإقبال على الطاعات التي تحرره من مغبة الوقوع مجددا في فخ المعصية، بيد أن هناك نفوسا يلذ لها ترك الحبل على غاربه، ويعز عليها مفارقة الأهواء والميول والنزوات انقيادا لضوابط الشرع الحكيم، فلا تجد بدا من الاحتكام إلى تأويل فاسد أو رأي سقيم أو قياس باطل يجيز لها التمادي في المعصية والإثم، ومن يستعرض أخبار الضالين وأحوالهم في الخطاب القرآني سيقف دون شك على شواهد عديدة لما يفضي إليه التمادي من تصرفات ومواقف عجيبة يستنكفها اللبيب!
يحيل التمادي في مدلوله اللغوي على السعي والإصرار لبلوغ الغاية من أمر أو فعل، وفي لسان العرب لابن منظور" تمادى فلان في غيه إذا لج فيه وأطال مدى غيه أي غايته، وأبى أن ينصرف عنه "، وبذلك يعكس التمادي مظهرا من مظاهر جنوح النفس إلى التحرر من القيم والقواعد الموجهة للسلوك، والتمرد على الضوابط التي تصون اعتدال النفس وسلامة الكيان، أما منشأ هذا الجنوح فمرده إلى سببين اثنين، أولهما يتعلق بما أودعه الله في النفوس من دافع الاستمتاع بملذات الحياة وشهواتها، قال تعالى(زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب) آل عمران:14، أما الثاني فذو صلة بما يوسوس به الشيطان من فساد الأحكام والتصورات كالتقليل من حجم المعصية وأثرها اغترارا بحلم الله وإمهاله، أو اتخاذ أفعال الغير مرجعا لتبرير اقتراف الإثم كما هو الحال في مجتمعاتنا اليوم!
إن الضوابط والحدود التي قررها الدين ليست مفروضة على النفس من الخارج، بل هي منسجمة مع رغبة الالتزام الفطرية التي تُشعر المرء بأن هناك قوة خالقة ينبغي الانصياع لإرادتها، غير أن في بعض النفوس انحرافا يدفعها للتحلل مما تعده إكراها بينما هو في الحقيقة تنظيم وترشيد، إن ما تفرضه الديانات السماوية، يقول الأستاذ محمد قطب، ليس هو الدين ولا العقيدة، ولا التزامات العقيدة، ولا القيم المرتبطة بالعقيدة، وإنما هو النهج الصحيح في كل هذا الأمور"، (دراسات في النفس الإنسانية، ص227)وأهم سمات النهج الصحيح في ديننا الحق هو الاعتدال في نشاط الجسم والروح، والانسجام بين متع الدنيا وحرث الآخرة، وتلك سمة تطمئن لها النفس السوية، وتضطرب لها النفس المعوجة التي ترى في الاعتدال والتنظيم تضييقا وإكراها،
وينشأ التمادي عند أبي حامد الغزالي في من جهل المرء بالدنيا المذمومة وما ينبغي أن يُجتنب منها، فكل ما كان باعثه الحظ العاجل دون الاستعانة على التقوى يدخل في نطاق الدنيا المذمومة، يقول الإمام الغزالي رحمه الله " إن القدر الذي لا بد منه من القوت والملبس والمسكن، إذا أخذه العبد من الدنيا للآخرة لم يكن من أبناء الدنيا، وكانت الدنيا في حقه مزرعة للآخرة، وإن أخذ ذلك لحظ النفس، وعلى قصد التنعم صار من أبناء الدنيا والراغبين في حظوظها"(المهذب من إحياءعلوم الدين، ج2، ص:128)، والمتمادي لا يزعم أن مراده من الاستغراق في اقتراف الآثام أو التنعم بالمباحات زيادة إقبال على الطاعات والعبادات، أوتحقيق متطلبات روحية بقدر ما يدعي استمتاعه بحظه من الدنيا حتى وإن جاوزه إلى السرف والظلم والطغيان،
أما عند ابن الجوزي فإن التمادي وإطلاق النفس في المعاصي تحديدا ينشأ من التلبيس على المرء فيما يتعلق بإدراك معاني الرحمة والعفو الإلهيين، فيقيم العبد على المعاصي ويتمادى في ارتكاب الآثام ولسان حاله يقول: الرب كريم والعفو واسع والرجاء من الدين!(تلبيس إبليس، ص:394)، بينما العاقل ينظر إلى جانب العذاب كما ينظر إلى جانب الرحمة، ويحرص على التوبة لأنها السبيل الحق إلى الرحمة مصداقا لقوله تعالى (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) طه: 82
من ثمار التمادي سلب حلاوة الطاعة، فلا يكون حظ المتمادي منها سوى تعب الجوارح، وفي أخبار الصالحين أن عابدا رأى في المنام أنه يحدث ربه فقال: أي رب كم أعصيك ولا تعاقبني، فجاء الرد: كم أعاقبك ولا تدري، أليس قد حرمتك لذة مناجاتي!
ومن ثماره كذلك أن يتوهم العقوبة نفعا فيُسر بالمال الحرام وظلم العباد، ويحسب استدراج الحق سبحانه له زيادة تشريف وحظوة دون سائر الخلق،
أما أعظم ثماره فهي ادعاء الربوبية ليبسط المتمادي كامل نفوذه، فلا يقف حائل دون تحقيق رغباته ونزواته، ولعل في خبر فرعون والنمرود وغيرهما من طغاة التاريخ تجليا لآفة التمادي، وما يمكن أن يفضي إليه الاستغراق في النعم واتباع الهوى والشهوات من تجريد للإنسان من سمو التكليف الإلهي بالاستخلاف والإعمار،
يرزح المجتمع الإسلامي المعاصر تحت وطأة اهتزاز قيمي وتفكك اجتماعي بفعل اللهاث المتزايد خلف الترفه والتنعم، حتى انطمست في النفوس حقيقة الدنيا كما صورها الخطاب القرآني، وناشئتنا أحوج ما تكون اليوم إلى تعريف بفقه حقيقة الدنيا، وما ينبغي أن يتسلح به المسلم من قيم الوسطية والاعتدال والقصد في طلب الحرث العاجل،
[/align]
يحيل التمادي في مدلوله اللغوي على السعي والإصرار لبلوغ الغاية من أمر أو فعل، وفي لسان العرب لابن منظور" تمادى فلان في غيه إذا لج فيه وأطال مدى غيه أي غايته، وأبى أن ينصرف عنه "، وبذلك يعكس التمادي مظهرا من مظاهر جنوح النفس إلى التحرر من القيم والقواعد الموجهة للسلوك، والتمرد على الضوابط التي تصون اعتدال النفس وسلامة الكيان، أما منشأ هذا الجنوح فمرده إلى سببين اثنين، أولهما يتعلق بما أودعه الله في النفوس من دافع الاستمتاع بملذات الحياة وشهواتها، قال تعالى(زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب) آل عمران:14، أما الثاني فذو صلة بما يوسوس به الشيطان من فساد الأحكام والتصورات كالتقليل من حجم المعصية وأثرها اغترارا بحلم الله وإمهاله، أو اتخاذ أفعال الغير مرجعا لتبرير اقتراف الإثم كما هو الحال في مجتمعاتنا اليوم!
إن الضوابط والحدود التي قررها الدين ليست مفروضة على النفس من الخارج، بل هي منسجمة مع رغبة الالتزام الفطرية التي تُشعر المرء بأن هناك قوة خالقة ينبغي الانصياع لإرادتها، غير أن في بعض النفوس انحرافا يدفعها للتحلل مما تعده إكراها بينما هو في الحقيقة تنظيم وترشيد، إن ما تفرضه الديانات السماوية، يقول الأستاذ محمد قطب، ليس هو الدين ولا العقيدة، ولا التزامات العقيدة، ولا القيم المرتبطة بالعقيدة، وإنما هو النهج الصحيح في كل هذا الأمور"، (دراسات في النفس الإنسانية، ص227)وأهم سمات النهج الصحيح في ديننا الحق هو الاعتدال في نشاط الجسم والروح، والانسجام بين متع الدنيا وحرث الآخرة، وتلك سمة تطمئن لها النفس السوية، وتضطرب لها النفس المعوجة التي ترى في الاعتدال والتنظيم تضييقا وإكراها،
وينشأ التمادي عند أبي حامد الغزالي في من جهل المرء بالدنيا المذمومة وما ينبغي أن يُجتنب منها، فكل ما كان باعثه الحظ العاجل دون الاستعانة على التقوى يدخل في نطاق الدنيا المذمومة، يقول الإمام الغزالي رحمه الله " إن القدر الذي لا بد منه من القوت والملبس والمسكن، إذا أخذه العبد من الدنيا للآخرة لم يكن من أبناء الدنيا، وكانت الدنيا في حقه مزرعة للآخرة، وإن أخذ ذلك لحظ النفس، وعلى قصد التنعم صار من أبناء الدنيا والراغبين في حظوظها"(المهذب من إحياءعلوم الدين، ج2، ص:128)، والمتمادي لا يزعم أن مراده من الاستغراق في اقتراف الآثام أو التنعم بالمباحات زيادة إقبال على الطاعات والعبادات، أوتحقيق متطلبات روحية بقدر ما يدعي استمتاعه بحظه من الدنيا حتى وإن جاوزه إلى السرف والظلم والطغيان،
أما عند ابن الجوزي فإن التمادي وإطلاق النفس في المعاصي تحديدا ينشأ من التلبيس على المرء فيما يتعلق بإدراك معاني الرحمة والعفو الإلهيين، فيقيم العبد على المعاصي ويتمادى في ارتكاب الآثام ولسان حاله يقول: الرب كريم والعفو واسع والرجاء من الدين!(تلبيس إبليس، ص:394)، بينما العاقل ينظر إلى جانب العذاب كما ينظر إلى جانب الرحمة، ويحرص على التوبة لأنها السبيل الحق إلى الرحمة مصداقا لقوله تعالى (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) طه: 82
من ثمار التمادي سلب حلاوة الطاعة، فلا يكون حظ المتمادي منها سوى تعب الجوارح، وفي أخبار الصالحين أن عابدا رأى في المنام أنه يحدث ربه فقال: أي رب كم أعصيك ولا تعاقبني، فجاء الرد: كم أعاقبك ولا تدري، أليس قد حرمتك لذة مناجاتي!
ومن ثماره كذلك أن يتوهم العقوبة نفعا فيُسر بالمال الحرام وظلم العباد، ويحسب استدراج الحق سبحانه له زيادة تشريف وحظوة دون سائر الخلق،
أما أعظم ثماره فهي ادعاء الربوبية ليبسط المتمادي كامل نفوذه، فلا يقف حائل دون تحقيق رغباته ونزواته، ولعل في خبر فرعون والنمرود وغيرهما من طغاة التاريخ تجليا لآفة التمادي، وما يمكن أن يفضي إليه الاستغراق في النعم واتباع الهوى والشهوات من تجريد للإنسان من سمو التكليف الإلهي بالاستخلاف والإعمار،
يرزح المجتمع الإسلامي المعاصر تحت وطأة اهتزاز قيمي وتفكك اجتماعي بفعل اللهاث المتزايد خلف الترفه والتنعم، حتى انطمست في النفوس حقيقة الدنيا كما صورها الخطاب القرآني، وناشئتنا أحوج ما تكون اليوم إلى تعريف بفقه حقيقة الدنيا، وما ينبغي أن يتسلح به المسلم من قيم الوسطية والاعتدال والقصد في طلب الحرث العاجل،
[/align]