التمسك بالقرآن في زمن التبدّل وزلزلة الثوابت
عبدالله القاضي
فهذه وصية من رسول الله ﷺ كأنه يوصينا بها اليوم:
قال ﷺ: « إنه من يعش منكم يرى بعدي اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور».
وقال ﷺ في حجة الوداع، أعظم خطبة خطبها النبي ﷺ: « وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله».
أيها المسلمون!
في الزمن الذي تتزلزل فيه الثوابت، وتتقلب فيه آراء الناس، ويكثر الخلاف بينهم، وتعصف عواصف الفتن فتَخفى معالم الصواب، تشتد حاجة الإنسان إلى ركن يتمسك به، ومعالم يهتدي به.
وهنا تأتي نعمة الله الكبرى: القرآن، القرآن الذي قال الله فيه: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾، وقال فيه: ﴿واتل ما أُوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته﴾، فالبشر تتبدل كلماتهم، وتتذبذب مواقفهم، فالذي يعلق نفسه بهم متعلق بعروة واهية، ومتمسك بحبل منقطع، أما كتاب الحق I فهو الميزان الذي لا يميل، والعروة الوثقى التي لا انفصام لها.
أيها المسلمون!
من طبيعة الحياة التغيّر، ولكن هذا التغير ينبغي ألا يمس الأصول الثوابت، فلا مانع شرعا من أن تتغير مظاهر الحياة وأشكالها ووسائلها: كان الناس يركبون الدواب فأصبحوا يركبون السيارات والطائرات، كان الناس يتواصلون برسائل البريد المكتوبة، فأصبحوا يتواصلون بوسائل تقنية مباشرة، كان الناس يتعلمون من أساتذتهم مواجهةً ومشافهةً فأصبحوا يتعلمون عن بعد، كل هذه وسائل يسّرها الله تعالى، والشرع المطهر لا ينكرها، ولكن الأمر الذي ينبغي ألا يمسه التغيير والتجديد هو الأصول:
فالعبودية لله تعالى والخضوع له، وإخلاص الدين له، والتحاكم إلى شرعه، أمر لا يجوز أن يكون مجالا للتغير والتجديد.
وطاعة النبي ﷺ وتلقّي الدين منه وترك الابتداع أصل ثابت لا يجوز أن يتغير أو يُمس.
واتخاذ الدنيا وسيلةً إلى عمارة الآخرة وممرا ودار ابتلاء هو تصوّر نهائي ثابت، لا يجوز أن يعاد فيه النظر أو يُطوّر.
وما أوجبه الله تعالى في كتابه أو على لسان رسوله ﷺ أو حرمه أو أباحه لا يجوز تغييره ولا الخروج عنه؛ لأنه تنزيل من العليم المحيط بما كان وما سيكون.
عباد الله!
الرؤية المادية الملحدة نحو الحياة رؤية تجنح إلى التجديد والتغيير في كل شيء، فليس هناك أصول ثابتة، بل كل شيء قابل للمراجعة والنقد، وقابل للصواب والخطأ، إن هذه النظرة تناسب التصور الملحد للحياة، الذي يرى أن الحياة كلها وُجدت صدفة، وأنها عبث لا غاية وراءها، وأنه ليس لها إله له حكمة وإرادة؛ فليس غريبا من هذه الرؤية الملحدة أن تضع كل شيء مجالا للتجديد، وأن تنتقل من النقيض إلى النقيض، ومن الضد إلى الضد.
أما نحن المسلمين فنعتقد أن الحياة يجب أن تشتمل على جوانب ثابتة وأخرى متغيرة متجددة، إن حركة الكون الذي نعيش فيه مثال لحركة الشريعة التي ندين بها: ألا ترون -أيها المسلمون- كيف يتحرك الكون؟ إنه يتحرك، ولكنها حركة في مسار ثابت، وفق قوانين ثابتة لا تتغير، وهكذا الشريعة الربانية، تتجدد، وتساير كل عصر، لكن بأصول ثابتة نهائية غير قابلة للتطوير، لأنها بالغة مبلغ الكمال، نازلة ممن أحاط بكل شيء رحمة وعلما.
تُرون يا عباد الله، ماذا لو كان الكون يتحرك حركة عمياء، لا قوانين تضبطه، ليس فيه قوانين وثوابت فيزيائية ولا كيميائية، المجرّات السماوية تسير بلا هدى، هل سيبقى هذا الكون صالحا للحياة؟
إن هذه الشكل من الحركة المنفلتة هو مثال لما تذهب إليه الفلسفات الملحدة، التي لا تؤمن بربٍّ له إرادة وحكمة وعلم، حركة بلا انضباط، إنها حركة تؤدي حتما إلى الفساد.
وصدق الحق تبارك وتعالى: ﴿ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
----
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون!
أعظم نعم الله علينا أن تكفّل لنا بحفظ الأصول التي يجب أن تبقى محفوظة، وألا تتغير، وذلك في كتابه العزيز، وإنه ليحق لنا أن نفرح كل الفرح بهذه النعمة الكبرى ﴿قل بفضل وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون﴾.
أيها المسلمون!
أراء الناس قد تتبدل، ومواقفهم قد تتغير، والرأي العام والذوق العام في مجتمعٍ ما قد ينقلب، والعادات والتقاليد قد تتغير من حسن إلى سيء، أو من سيئ إلى حسن، فربما يصبح المعروف عند بعضهم منكرا، ويعود المنكر معروفا، ويتحول الحق في نظر بعض الناس باطلا، وينقلب الباطل حقا، فرحم الله امرأ وطّن نفسه على التمسك بكتاب الله، والتحاكم إلى سنة رسول الله ﷺ، وطوبى لعبد جعل القرآن ميزانه فيما اختلف فيه الناس، فما دعا إليه القرآن دعا إليه، وما قال به القرآن قال به، وما أنكره القرآن أنكره.
﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذي يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا﴾.