التماس الرضا
شايع بن محمد الغبيشي
التماس الرضا
إنّ الحمدَ لله نَحْمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه ونعوذ بالله من شرور أنفسينا وسيئات أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مضل له ومن يضلل فلا هاديَ له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدُهُ ورسُولُهُ ــ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فاتقوا الله عبادَ الله حق التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
إخوة الإيمان كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضي الله عنهما أَنِ اكْتُبِي إِلَيَّ كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ، وَلَا تُكْثِرِي عَلَيَّ، فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ: سَلَامٌ عَلَيْكَ. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنِ التَمَسَ رِضَاءَ اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنِ التَمَسَ رِضَاءَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ» رواه الترمذي وصححه الألباني. وفي رواية ابن حبان: "من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله تعالى عنه وأرضى الناس عنه ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"
قال ابن رجب رحمه الله: فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب فهو تراب فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب؟ أم كيف يرضى التراب بسخط الملك الوهاب؟ إن هذا لشيء عجاب. قال تعالى: )واللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ) [التوبة:62].
عن عائشة قالت: فقدتُ رسولَ الله- صلى الله عليه وسلم - ذاتَ ليلةِ فلمستُ المسجدَ فإذا هو ساجد وقَدَماه منصوبتان وهو يقول: "أعوذُ برِضاكَ من سَخَطِكَ، وأعوذ بمعافاتِكَ من عُقوبَتِكَ، وأعوذُ بك منك، لا أُحصي ثناءَ عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسِك" رواه ابو داود
أعظم غايات العبد في هذه الحياة أن يفوز برضا الله عز وجل لأن من ظفر برضا الله فاز في الدنيا والآخرة وأعظم الفوز أن يفوز بالنظر إلى وجه الله فيحل عليه رضوانه، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ؟ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا) رواه البخاري
عبد الله إني أدعوك أن تجعل رضا الله غايتك العظمى ففي كل أمر تعزم عليه سائل نفسك هل هذا الأمر يرضي الله عز وجل أم يسخطه؟ فإذا كان يرضي الله فامضي فيه وإن كان يغضبه فاتركه التماساً لرضى الله عز وجل، وسيلقي في قلوب الخلق محبتك.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أما بعد:
أخي المسلم عبد الله حذاري ثم حذاري أن تسخط ربك جل وعلا التماساً لرضى الناس فإن النتيجة محسومة قد حسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "وَمَنِ التَمَسَ رِضَاءَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ " وبقوله: "ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"
إن من يلتمس رضا الناس بسخط الله يعاقب بعقوبات تفسد دنياه وأخراه منها:
_ أن يسخط الله عليه وأي عقوبة أعظم من ذلك
_ ومنها أن يتخلى الله عنه وأي عقوبة أشد من أن يتخلى عنك الله جل وعلا ويكلك إلى الخلق فيكله إلى الضياع والهلكة.
_ ومنها أن يسخط عليه من التمس رضاه من الناس فيعاقبه الله بعكس مقصوده، ويلقي له البغضة في قلوب الخلق ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله ما أسوأ مصير من قضى حياتها في مساخط الله ونفر من رضوان الله وكره أوامره سبحانه، تأمل مصيره عند مفارقة الحياة قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 27، 28]
ومهما فعل العبد ليكسب رضى الناس فلن يدرك ذلك، جاء رجل فقال للحسن البصري رحمه اللّه: يا أبا سعيد إنّ قوماً يحضرون مجلسك ليس بغيتهم الفائدة منك، ولا الأخذ عنك، إنما همهم تتبع سقط كلامك وتعنتك في السؤال ليعيبوك بذلك، فتبسم الحسن ثم قال: هوّن عليك يا ابن أخي فإني حدثت نفسي بسكنى الحنان، فطمعت وحدثت نفسي بمعانقة الحور الحسان، فطمعت وحدثت نفسي بمجاورة الرحمن، فطمعت وما حدثت نفسي قط بالسلامة من الناس، لأني قد علمت أنّ خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم لم يسلم منهم، كيف أحدث نفسي بالسلامة منهم. وأنشد بعضهم:
ضحكت فقالوا : ألا تحتشم * * * بكيت فقالوا: ألا تبتسم
بسمت فقالوا : يرائي بها * * * عبست فقالوا: بدا ما كتم
صمت فقالوا: كليل اللسان * * * نطقت فقالوا : كثير الكلم
حلمت فقالوا: صنيع الجبان * * * ولو كان مقتدراً لانتقم
بسلت فقالوا: لطيش به * * * وما كان مجترئاً لو حكم
يقولون: شذ إذ قلت لا * * * وإمعةً حين وافقتهم
فأيقنت أني مهما أرد * * * رضي الناس لابد من أن أذم
وليس معنا ذلك عباد الله الحرص على مخالفة الناس فالمؤمن يألف ويؤلف فعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يأْلَف ويُؤْلَف، ولا خير فيمن لا يأْلَف ولا يُؤْلَف" رواه أحمد وحسنه الألباني. وإنما المراد الحذر من طاعة المخلوق في معصية الخالق ومن رضى الخلق ولوكان في ذلك سخط للرب جل وعلا، اللهم إنا نعوذُ برِضاكَ من سَخَطِكَ، وبمعافاتِكَ من عُقوبَتِكَ، يا حي يا قيوم
المرفقات
1689283096_التماس الرضا 1.pdf