التلون في الدين .. الشيخ خالد بن سعود البليهد
الفريق العلمي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن التلون في الدين صفة مذمومة تدل على فساد الأصل وضعف البصيرة وقلة الورع الشرعي وهشاشة التدين وقلة الفقه لأمر الله.
وحقيقة التلون في دين الله أن يركب المرء كل فترة مذهبا مغايرا لما كان عليه في السابق ويغير رأيه في المسائل الكبار؛ فما كان حراما بالأمس يصبح حلالا اليوم، وما كان بدعة بالأمس يصبح سنة اليوم، وما كان كفرا بالأمس يصبح اليوم إسلاما، وما كان شركا بالأمس يصبح توحيدا اليوم.
وكل هذا التغير والتنقل في الدين مبناه على الحرص على حطام الدنيا وموافقة الجهال قال الفاروق عمر رضي الله عنه: "ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه ولا من فاسق بين فسقه ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أزلفه بلسانه ثم تأوله على غير تأويله". ودخل أبو مسعود على حذيفة فقال: أوصنا يا أبا عبد الله. فقال حذيفة: "أما جاءك اليقين؟". قال: بلى وربي. قال: "فإن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر وأن تنكر ما كنت تعرف وإياك والتلون فإن دين الله واحد". وقال عدي بن حاتم رضي الله عنه: "إنكم لن تزالوا بخير ما لم تعرفوا ما كنتم تنكرون وتنكروا ما كنتم تعرفون وما دام عالمكم يتكلم بينكم غير خائف". وقال إبراهيم النخعي: "كانوا يرون التلون في الدين مِن شك القلوب في الله". وقال الإمام مالك: "الداء العضال التنقل في الدين". وقال الإمام الشافعي:
ولا خير في ود امرئ متلون *** إذا الريح مالت مال حيث تميل
إن الباعث على التلون حقيقة هو اتباع الهوى، والنفس الأمارة بالسوء، والبحث عن الشهرة، والمحافظة على المصلحة، والسعي وراء المكانة، وموافقة صوت الشارع.
إن حقيقة التلون المذموم شرعا هو تغيير الموقف وليس تغيير الرأي في مسألة أو قضية أو نازلة؛ فلا حرج على العالم أن يغير فتواه واجتهاده في مسألة بعد زمان حسب اجتهاده وتحقيقه ونظره في الأدلة وفقه الأحوال وهذا يكون في الوسائل وليس في المقاصد وبشرط أن يكون هذا الاجتهاد جاريا على أصول أهل العلم فلا يذم الفقيه على تغير الفتوى ولا يعد هذا من التلون المذموم ولذلك لم يعب أئمة السلف على الفقهاء الذين غيروا آراءهم بناء على اجتهادهم المعتبر ولم يطعنوا في دينهم ويقدحوا في قصدهم، وقد غير الإمام الشافعي مذهبه في جملة من المسائل لما استقر في مصر وترك مذهبه القديم الذي وضعه في العراق، وقد سئل الإمام أحمد عن ذلك: "ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين أحب إليك أم التي عند المصريين؟ قال: عليك بالكتب التي وضعها بمصر فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها ثم رجع إلى مصر فأحكم ذلك". وكذلك تغير اجتهاد الإمام أحمد وغيره من الفقهاء في كثير من المسائل بناء على تحري الحق والبحث عن الدليل الصحيح وهذا يدل على إنصاف الأئمة وعدالتهم وتجردهم عن الهوى وبذلهم وسعهم في سبيل الوصول إلى حكم الله.
إن أسوأ صورة للتلون أن يطعن المتلون في صلاحية شريعة الله، أو ينتقص من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو يشكك في دواوين السنة، أو يتنكر لعقيدة أئمة السلف الصالح، أو يثني على التصوف وغيره من مذاهب أهل البدع، أو يصحح دين الفرق المارقة من الدين، أو يسوق لمشروع التغريب متجاهلا الشواهد على الحق الواردة في القرآن والسنة.
إن المتلون لا يوثق في دينه، ولا يكون إماما في العلم، ولا يأخذ الناس عنه لفقده الأمانة والورع، ولا عبرة بفصاحة لسانه وكثرة محفوظه وشهرته وكثرة أتباعه، وقد حذر السلف من فتنة علماء السوء قال سفيان الثوري: "كان يقال: تعوذوا بالله من فتنة العابد الجاهل ومن فتنة العالم الفاجر فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون".
إن الرسوخ في العلم والفقه في دين الله على طريقة السلف الصالح ينفي التلون والتذبذب في الدين، ولذلك لم نجد في التاريخ أهل العلم المشهود لهم بالإمامة وحسن الاتباع تلونوا في دين الله، وفي زماننا رأينا ثبات أهل العلم الكبار على الحق والسنة رغم كثرة المغريات وشدة الفتن. قال ابن تيمية: "وأما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده بل هم أعظم الناس صبرا على ذلك وإن امتحنوا بأنواع المحن وفتنوا بأنواع الفتن وهذا حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين".
ولقد وجدت التلون شائعا في طائفتين: الليبراليين والإخوان المسلمين فتجد أحدهم تارة يمدح شخصا أو مذهبا أو طائفة وبعد فترة إذا تغيرت المرحلة تجده يذم ما كان يمدحه وهذا مشهور من بعض رموزهم.
أسباب التلون في دين الله:
1- البدعة: فإن من نشأ على البدعة لم يكن راسخا في دينه، ولهذا يكثر تنقل أهل البدع بين المذاهب وعدم استقرارهم لضعف يقينهم وانحراف أصلهم قال عامر بن عبد الله: "ما ابتدع رجل بدعة إلا أتى غدا بما كان ينكره اليوم". وقال ابن تيمية: "أهل الكلام أكثر الناس انتقالا من قول إلى قول وجزما بالقول في موضع وجزما بنقيضه وتكفير قائله في موضع آخر وهذا دليل عدم اليقين". وقد رأيت أناسا في زماننا كانوا متشددين يميلون لمذهب الخوارج ثم قذفت بهم البدعة فتغيروا وتحولوا إلى ليبراليين من غلاة المرجئة يحترمون الإلحاد والعياذ بالله.
2- ضعف العلم: فإن ضعف العلم يورث ضعف البصيرة في الدين فيصبح المتلون لا يفرق بين الحق والباطل وتشتبه عليه الأمور وتتلاعب به الفتن.
3- سوء القصد: فإن من كان قصده سيئا لم يكن همه نصرة الدين واتباع رضا الله وتحري الحق وإنما كان همه طلب الدنيا وإرضاء الخلق واتباع الشهوات قال تعالى: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا).
4- اتباع الهوى: فإن من غلب عليه اتباع الهوى كان تصرفه وموقفه وقوله بغير برهان ولا حجة وإنما هواه قد أملى عليه هذا الباطل ولهذا قال الله تعالى: (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ). قال ابن عون: "إِذا غلب الهوى على القلب استحسن الرجل ما كان يستقبحه".
5- الرياء والسمعة: فإن من ضعف إخلاصه وغلب عليه الرياء وطلب السمعة تتبع الشهرة وتذبذبت مواقفه ولم يثبت على الحق.
6- صحبة أهل الباطل: فإن من صحب أهل الباطل ضعفت نيته وذهبت همته وزهد في اتباع الحق وآثر الباطل وأهله ونسي هم الآخرة.
7- حب الدنيا: فإن من فتن قلبه بحب الدنيا كانت حركته ومواقفه ودعوته في سبيل تحصيلها والحفاظ عليها ولو كان على حساب دينه وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مسلما ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا"(رواه مسلم.
8- التصدر لمناظرة أهل البدع ومخالطتهم: فإن كثرة الاشتغال بذلك والولع بجدال أهل الفتن يورث الشك في المسلمات ومرض القلب قال عمر بن عبد العزيز: "من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل"(وقد رأيت أناسا تساهلوا في مخالطة أهل البدع فزلت أقدامهم عن اتباع السنة.
وإن أخطر خطاب للداعية المتلون يستعمله في هدم عرى الدين أن يأتي على مسألة عظيمة قد فرغ منها الأئمة المتقدمون وجزموا في تحريمها ولم يتنازع فيها الصحابة رضي الله عنهم ولا يعرف فيها خلاف معتبر بين الفقهاء فيتشدق بملء فمه ويقول: لا أجد آية في كتاب الله تحرم هذا العمل ولا يظهر لي في السنة حديث يدل على منعه فيضع نفسه هذا المغرور في مصاف أئمة السلف وينقض ما عليه أهل القرون المفضلة ويعرض عن اتباع السنة ويخرج عن جادة الفقهاء.
وإن من أشهر علامات المتلون: التذبذب في المواقف والتناقض في الخطاب؛ فتارة يثني على علماء أهل السنة، وتارة يمدح رموز أهل البدع، وتارة تظهر الغيرة في خطابه، وتارة يميل للرخصة للمحرمات تحت شعار تحقيق المصلحة وفقه التيسير وتارة يقف مع العلماء الربانيين، وتارة يعزز موقف أهل الشهوات، وتارة ينصر الثورات ويحرض العامة ويشكك في الولاية وتارة يدافع عن الحكومة ويذم الثورات وينصح العامة بترك الفتنة وكل هذا تغير في المواقف وليس تغير في المبادئ. والكذب من أشهر علامات أهل التلون لفقدهم الصدق مع الله والصدق مع أنفسهم أما المؤمن الصادق فيعترف بتقصيره ويتراجع عن الباطل ويعلن توبته عن أي مذهب أو قول يخالف الكتاب والسنة ولو تخلى عنه جميع الناس قال تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
ومن سمات المتلون: عدم الوضوح في الخطاب، والمراوغة في الكلام؛ فيثير الشبهات وبنقد الثوابت وينشر الفوضى الفكرية بطريقة خفية تنطلي على كثير من العامة وتثير في نفوسهم جدلا وشكوكا بما نشأوا عليه من الحق، ويختلف الناس في فهم كلامه وتفسيره وإنما يسلك هذا المسلك؛ لأنه لا يستطيع أن يصرح بمذهبه في بلد نشأ على تعظيم التوحيد والسنة؛ فيقول هناك بدعة حسنة وبدعة سيئة كما ورد عن الفقهاء المتأخرين ويقول: في بدعة التصوف ليس كل التصوف مذموم بل يوجد فيه تصوف حسن ويسهل في هذا الأمر وهكذا يقول إن الخلاف بين السلفية والأشاعرة في باب الصفات خلاف سائغ عند العلماء اجتهدوا فيه جميعا لتنزيه الرب وكل مجتهد مصيب، ويقول: أيضا ليس للسلف مذهب مطرد في أصول السنة، وإنما هي آراء اجتهدوا فيها في مرحلة زمنية ولسنا ملزمين باتباعها، ويقول: قد تنازع الفقهاء في حكم الخروج على الحاكم ولا يثبت فيه إجماع، ويقول: ينبغي النظر برحمة إلى المثليين أهل الشذوذ ولم يثبت في الكتاب والسنة عقوبة خاصة فيهم، ويقول: لم يرد لفظ الاختلاط في الكتاب والسنة وإنما ورد لفظ الخلوة، ويقول: لم يصح دليل على تحريم المعازف وحكمها يختلف بحسب أحوالها.. وهكذا يتلاعب بالأصول ويستدل بالمتشابه ويضعف إجماعات أهل العلم، ويعتمد على كلام بعض المتأخرين، ويزخرف كلامه بالقصص والاستدلال العقلي؛ ليفتن الناس عن دينهم، ويصرفهم عن اتباع الحق، وإذا روجع المتلون في كلامه ونصح في الله راوغ وقال: لم أقصد الباطل وإنما أسأتم فهم كلامي.
ومن علامات المتلون: أن يغلب على مذهبه اتباع الرخص وشذوذات الفقهاء والاتكاء على الخلافيات، ولا يسلك منهجا منضبطا في الاختيار والفتوى، بل يتنقل بين المذاهب الفقهية ويلفق بين الأقوال على سبيل التشهي واتباع الهوى، ويتمايل في فتواه على حسب رغبة الجمهور ويجاري أهواءهم، ويتحايل على المحرمات ويلبسها لبوس الشرع، وقد حذر السلف من هذا المسلك المشين. قال الأوزاعي: "من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام". وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي: "وما من عالم إلا وله زلة ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه". وقال سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله".
ومن خالف منهجه الذي كان عليه من الحق واستباح ما كان يذمه وينهى عنه واتبع هواه افتضح أمره بين الناس ولم يقتدوا به قال الفضيل بن عياض: "لا يزال العبد مستورا حتى يرى قبيحه حسنا". والمؤمن الفطن البصير بدينه يميز أهل التلون ويعرف المتلونين ولا يأخذ دينه إلا من عالم يثق بعلمه وأمانته.
وأعظم ما يحمي المؤمن من التلون والتذبذب والتنقل بين المذاهب والأفكار الثبات على التوحيد والسنة ولزوم منهج السلف الصالح قال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ). وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا). قال الفاروق عمر رضي الله عنه: "استقاموا والله لله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعالب". وقال سفيان بن عبدالله الثقفي رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك. قال: "قل: آمنت بالله ثم استقم"(رواه مسلم). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك". فقلت: يا نبي الله آمنا بك وبما جئت به هل تخاف علينا. قال: "نعم إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء"(رواه الترمذي).