التقوى في الكتاب والسنة
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وذلك كما يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "أن يُطاعَ فلا يُعصَى، ويُذكرَ فلا يُنسَى، ويُشكرَ فلا يُكفَر". وبيَّن الله تعالى السببَ الداعيَ الموجِبَ لتقواه، من خلقه إيانا من نفسٍ واحدة فيعطفُ بعضُنا على بعض، وخلَقَ من أبينا آدمَ زوجَه حواءَ ليَأْنَسَ بها ويَسكنَ إليها ويُنسِل منها، وكذلك من الموجِب لتقواه تساؤلكم به وتعظيمكم إياه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
وهي وصية الله للأولين والآخرين كما ذكر الله ذلك وبين والمجازاة لمن قام بهذه الوصية بالثواب، والمعاقبة لمن أهملها وضيعها بأليم العذاب فقال سبحانه: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا}
وأمْرُ اللهِ بما يقتضيه الإيمان من تقوى الله من التقرب إليه بفعلِ الطاعات، والحذرِ من المعاصي والسيئات فقال جلَّ ذِكرُه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
فالمؤمن على الحقيقة ممتثل ما أُمِرَ به من التقوى {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فبتحقيق التقوى، تقوى عبودية المؤمن للرحمن {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ}، وذلك طريق الصدق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وسُلَّمُ الإحسان {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}، والمذكِّرُ بالله مما يمسُّ من عارضِ وسوسةِ الشيطان {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}، ومُعتصَمُ المتعلِّم، وبها يوفَّقُ للصوابِ ويُلهَم {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
عبادَ الله.. إن التحلي بالتقوى ليس بما يكون من الإنسان في خاصَّتِه، بل مع ذِكْرِ الله، يقوم بحقوقِ عباد الله من دعوةٍ الله وأمرٍ بمعروف، ونهيٍ عن منكر، ولينِ الكلام، في مخاطبة الأنام، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} والثواب عظيم {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} فيُصلحُ اللهُ الأعمالَ بحفظها عما يُفْسِدُها، وحفظِ ثوابها ومضاعفته، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أيضًا {ذُنُوبَكُمْ} التي هي السبب في هلاككم، فبالتقوى تستقيم الأمور، ويندفع كلُّ محذور.
وهكذا هم المتَّقون قد جعلوا الآخرة نَصْبَ أعينهم وقِبلةَ قلوبهم، واهتموا بالـمُقامِ بها، فاجتهدوا في الأعمال الصالحة وتكثيرِها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
وبين يدي يومِ القيامة أهوالٌ عِظامٌ يصدِّق بها المتقون {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}، وليوم الجزاء يُعِدُّون، فليسوا بالدنيا يغترُّون {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} فالمتقون هم الفائزون {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ومن عذاب النار ناجون {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}.
اللهم إنا نسألك التوفيق للبر والتقوى، ونسألك رضاك والفردوسَ الأعلى، والمغفرةَ والرحمةَ لنا وللمسلمين أجمعين، يا غفور يا رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد للهِ المولى، والشكر له على ما أسدى، أحمده سبحانه وأشكره، وأستعينه على تحقيق التقوى، وأصلي وأسلم على نبيِّنا محمدٍ المصطفى، وخليلِه المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين الأُلَى، وعلى من تبعهم بإحسان واقتفى، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، فهي وصية الله، ووصيةُ رسول الله ﷺ فبها أُمِر {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} وبها أَمَر، في الحضرِ والسفر، ففي الخُطَبِ يفتتحها ﷺ بالوصية بالتقوى، وإِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، وإذا سافر ﷺ قال: «اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى»، وفي كل مكان يتّقي اللهَ الإنسان قال ﷺ: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»، فأداء الحقوق والخلقُ الحسن من تقوى الله قال ﷺ: «اتَّقِ اللهَ.. فَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» وأمر ﷺ بالتقوى لصاحب الوِلاية فقال: «اتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا»، وأمر بها في كلِّ وِلاية: «إِنْ وُلِّيتَ أَمْرًا فَاتَّقِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَاعْدِلْ»، ولو في ولايةِ البيت ففي تعامل الرجل مع أولاده قال ﷺ: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ»، ومع النساء قال ﷺ: «فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ»، ومن النساء قال ﷺ: «فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ»، وفي الفتن قال ﷺ: «اتَّقِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَخُذْ مَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِخَاصَّتِكَ، وَإِيَّاكَ وَعَوَامَّهُمْ»، وفي سائر العبادات، ففي الصلاة قال ﷺ: «اتق الله أحسن صلاتك» وقال ﷺ: « مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ فاتق الله يا بن آدَمَ أَنْ يَطْلُبَكَ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذِمَّتِهِ»، وفي الدعوات وسائر المعاملات «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ» وفي الأمر بالمعروف ونهيه عن المنكر: ملبس الإنسان قال ﷺ: «ارْفَعْ إِزَارَكَ وَاتَّقِ اللهَ»، وفي فعل المعروف قال ﷺ: «اتَّقِ اللهَ وَلَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا»، وبالتقوى كان ﷺ يعظ كما قال: «اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ»، وبها يُصبَّرُ المسلمُ على ما يجد في دينه ودنياه، كان رجلٌ فَقِيرٌ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ كَثِيرُ الْعِيَالِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: «اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرْ» فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالُوا: مَا أَعْطَاكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: مَا أَعْطَانِي شَيْئًا وَقَالَ لِي: «اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرْ»، وأتى خَبَّابٌ رضي الله عنه رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ تَحْتَ شَجَرَةٍ، وَاضِعٌ يَدَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَدْعُو اللَّهَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَدْ خَشِينَا أَنْ يَرُدُّونَنَا عَنْ دِينِنَا، فَقَالَ ﷺ: «أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللَّهَ وَاصْبِرُوا، فَوَاللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ لَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَرْتَدُّ عَنْ دِينِهِ».
وبعد عباد الله.. فهذه التقوى أمرًا بها، وذكرًا لمحالِّها، وبعضِ ثمراتها، فكونوا بها متصفين، وعليها متواصين، خوفًا من الجليل، واستعدادًا ليوم الرحيل.
المرفقات
1691690924_التقوى في الكتاب والسنة.docx
1691690925_التقوى في الكتاب والسنة.pdf