التفكير الإبداعي.. أتحسبه بعيدًا وهو قريب؟! د. مولاي المصطفى البرجاوي
الفريق العلمي
التفكير الإبداعي.. أتحسبه بعيدًا وهو قريب؟!
التفكير.. متغير بلا نهاية، وعين على المستقبل!
إنَّ معظم الإنجازات العلميَّة والتكنولوجيَّة والعسكريَّة التيحققتها البشريَّة في القرن العشرين هي نتاجات أفكار المبدعين، ولكن العلم في الماضيكان يُصمم لعالم مستقر، أما الآن فإن مجتمعنا يعيش في عالم سريع التغيُّر والتلجلُج والاضطراب، ومليء بأصناف الأمراض، والحروب، وتحيط به تحدِّياتوطموحاتمحليَّة وعالميَّة، لعلَّ من أهمها الانفجارَ المعرفي والتطور التكنولوجي، والانفتاح علىالعالم نتيجة سرعة الاتصالات والمواصلات، حتى أصبح العالم قريةً صغيرة، على حدِّ تعبير "ماكلوهان"، كل ذلكيحتاج منا السرعة في تنمية عقليات مُفكِّرة قادرة على حلِّ المشكلات، وبطُرق نقديَّة إبداعيَّة، وتعتبر تنمية هذهالعقليَّات المفكرة مسؤولية كل مؤسسات الدولة، وعلى رأسها المؤسسات التعليميَّة، قطب رحى لمجالات الحياة كلها، وإن لم يتمَّ تضافر الدولة مع هذه الأخيرة، فإننا سنظلُّ نراوح مكاننا.
مدخل مهم للولوج:
بادئ ذي بَدء، أسوق مجموعة من الشواهد والأمثلة والآراء الدافعة إلى تطوير الطاقة الكامنة نحو الإبداع والابتكار، في وقت كَثُر فيه الإرجاف والانتقاص من قيمة الإنسان وفعاليته، وأصبحنا نبحث عن العالِم والمبدع والأديب والمثقف، مثلما نبحث عن الإبرة في كومة من القش!
من هنا تأتي أهميَّة ممارسة النقد الذاتي من دون توقُّف، وبإصرار من دون مللٍ ولا رحمة؛ لأن قوانين الكون أعوص وأعقد مما نتصوَّر، وكل ما نحصله من الكون هو في الواقع صورٌ ذهنيَّة فكريَّة لا أكثر، كما حصل مع جيل ما قبل "كوبيرنيكوس"، الذين استرخوا على ظهورهم في كرة أرضيَّة ثابتة هي مركز الكون، وكلُّ الكون يدور حول كوكب تافه؛ عفوًا حول هذا العملاق، إنه الإنسان الذي يختزن كلَّ مبتكراته في حيِّزٍ ضيِّق، لكن عوائق عِدة تحول دون إبرازها.
لكن كما قال القائل:
لاَ تَحْسَبِ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ
لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبْرَا
ليس العيب أن تسقط ولكن العيب أن تبقى حيث تسقط، واعلم أن البحر الهادئ لا ينشئ بحَّارًا ماهرًا،الحياة تحمل العديد من المتناقضات والأضداد: الضياء مع الظلام، العدل مع الظلم، المشكلات مع الحلول، وجود المشكلات أمرٌ طبيعي، ويدل على وجود عمل له خاصية التفاعل والاستمراريَّة والتجديد والنهوض، الحياة مليئة بالحجارة، فلا نجعلها تعثر مسيرتنا، بل الواجب جمعها لبناء مدرج وسُلَّم نحو النجاح!
لا تخشَ الفشل، واعلم أن الإنسان مهما طالت شهرته الآفاق في الإبداع والمعرفة العلميَّة والأدبيَّة والإنسانيَّة عامة، لا بد وأن تنغصه فترات حالكة، وهذا من طبيعة النقص التي تعتريه، وقديمًا قال العماد الأصفهاني: "إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابًا في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد لكان يستحسن، ولو قدَّم هذا لكان أفضل، ولو تُرك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العِبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر".
والمثال المتميِّز في هذا السياق: "أديسون"، جرَّب 1800 تجربة قبل أن يخترعَ المصباح الكهربائي، ويضيف "بيل غيتس": ما أن تحتوي الأخبار غير السارة، لا بصورتها السلبيَّة، بل كدليل على الحاجة إلى التغيير؛ فإنها لن تهزمك؛ إنك تتعلم منها، تفاءلوا بالخير تجدوه.
- لا خوف من التغيير والطريق نحو الجودة، والجودة ليست نتاج الصدفة - على حدِّ تعبير "John Ruskin"- بل تأتي دائمًا نتيجة الجهد الذكي، هي الإرادة لإنتاج شيءٍ متفوق.
- الحياة حُبْلى وستلد العجائب، إذا كنا نعتقد أن جودة التعليم وميزانيَّة البحث العلمي مكلفة، فدعونا نفكِّر بتكلفة الجهل والتخلُّف عن مستجدات العصر!
- يقول ابن قتيبة: "من أراد أن يكون عالمًا، فليطلب فنًّا واحدًا"؛ أي: تخصُّصًا واحدًا، لكن لو فتحت خيالك العلمي الخصب على توجُّهات علميَّة عِدة، لكان أفضل، والنموذج البارع والشاهد التاريخي في هذا الباب ابن خلدون، وابن رشد، وقِسْ على هذه المرحلة لو حركت بُوصْلتك إلى توجُّه علميٍّ غير تخصُّصك، لكنت عُرْضة للفناء: كالسمكة التي يتم انتشالها من البحر إلى البر؛ ولكن الحيطةَ الحيطة، حذاري من التطاول على تخصُّصٍ غير تخصصك؛ الأيام دول!
- يقول الكواكبي: "الحكيم من يبتهج بالمصائب ليقطف منها الفوائد".
الحكيم أمير نفسه، لا تكن حاطبَ ليلٍ، إياك والعملَ في جُزر منعزلة، بل أَخْذ وعطاء.
- التعليم هو صُلب عمليَّة تنمية الإنسان، والمعرفة هي أداة التعليم المأمول، وكلاهما - التعليم والمعرفة - ليسا سلعًا تُستورد وتستخدم شأنها شأن السيارات أو الملابس أو الأطعمة، بل هما مرتبطان عضويًّا بثقافة و بِنَى مؤسسيَّة وأنشطة لا بد أن تغرسَ في واقعٍ مجتمعيٍّ بَشَريٍّ مُحدد، وتُرْوى وتُرعى؛ حتى تنمو متلائمة مع هذا الواقع وتصير قابلة للعطاء المقبول والمرحَّب به من أبناء هذا الواقع، وهذا لا يعني أن يبقوا قابعين في شرانق مغلقة عليهم، بل أخْذ وعطاء، وأن تطغى الثانية على الأولى[1]؛
فرداءة التعليم هو سرُّ التخلُّف التنموي والاقتصادي والعسكري الذي لا يُرقِّع فَتْقه بناءُ المطارات الضخمة، وطُرق السيارات السريعة، أو أسواق ممتازة أو بيوت فاخرة!
لَيْسَ الْيَتِيمُ الَّذِي قَدْ مَاتَ وَالِدُهُ
بَلِ الْيَتِيمُ يَتِيمُ الْعِلْمِ وَالأَدَبِ
مِن هنا لا يصح في المقابل إطلاق العنان لكلِّ ما هو وارد بعُجَره وبُجَره، يقول أحمد فراج الإعلامي اللبناني : "إسرائيل أخذت من روسيا العلماء، وأخذنا نحن العربَ منها الراقصات"! شتان بين الثرى والثريَّا! شتان بين شمس الضحى ونور السُّهى! شتان بين الدافع للإبداع والمفرمل له! وما أروع قول أحد الشعراء:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ السَّيْفَ يَنْقُصُ قَدْرُهُ
إِذَا قُلْتَ إِنَّ السَّيْفَ أَمْضَى مِنَ العَصَا
- المقاصد لها أحكام الوسائل، وليس شعار الميكافيلليَّة "الغاية تبرِّر الوسيلة"، الذي تبنَّته الصِّهْيَونيَّة النصرانيَّة الأمريكيَّة؛ لقمع كلِّ إبداعٍ مماثل لها، والعراق المثال الصارخ في هذا الباب، الذي تقدَّم بخطًى حثيثة في مجال صنع نخبة من العلماء، فدمَّرتها الآلة الحربيَّة لدول الحلفاء؛ بدعوى وجود أسلحة الدمار الشامل!
ولكن إذا تهيَّجت العواطف أصبحت مساحة العقل ضيِّقة، وبالتالي يضيق التفكير، ومِن ثَمَّ الإبداع!
يقول "برتراند راسل" : "كانت اليابان دولة متخلفة اقتصاديًّا، ولم تكن تشعر أبدًا أنها مُتخلفة ثقافيًّا"، ويقول "مهاتير محمد" - رئيس ماليزيا السابق الذي حقَّقت بلاده أرقامًا مذهلة في الاقتصاد والسياسة والاجتماع - في الجلسة الافتتاحيَّة لمؤتمر منظمة العالم الإسلامي الذي عُقِد في "كوالالمبور" عاصمة ماليزيا: "إنه ينبغي علينا - نحن المسلمين - أن نوازن بين دراستنا للعلوم الدينيَّة والعلوم الحديثة والرياضيَّات؛ إذ لن يكون مقبولاً دينيًّا على أيِّ نحوٍ أن يظلَّ المسلمون هم الأكثرَ تخلفًا وفقرًا بين شعوب الأرض، بينما صحيح الدِّين والإسلام تحديدًا هو حافز أكيد، وداع إلى اكتساب المعرفة والترقِّي في الحياة، وهذا لن يتأتَّى للمسلمين إلاَّ بإزالة كلِّ ما عَلق بالإسلام والمسلمين من جهل وخرافات وخُزَعْبلات".
من هنا؛ فالمشكل يكمن في فقدان الثقة، والعزم على الركون والثبات على ما هو مألوف، والخوف من التغيير، والاستشهاد بما كان متداولاً عند الأقدمين: "فالذي تعرفه خير من الذي تتعرف عليه"، ولله در الشافعي إذ يقول:
نَعِيبُ زَمَانَنَا وَالعَيْبُ فِينَا
وَمَا لِزَمَانِنَا عَيْبٌ سِوَانَا
وَنَهْجُو ذَا الزَّمَانَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ
وَلَوْ نَطَقَ الزَّمَانُ لَنَا هَجَانَا
وَلَيْسَ الذِّئْبُ يَأْكُلُ لَحْمَ ذِئْبٍ
وَيَأْكُلُ بَعْضُنَا بَعْضًا عَيَانَا
إن نظرةً سريعة إلى الواقع القائم في العالم العربي والإسلامي كفيلة بأن تجعل الدم يجفُّ في العروق، حيث التسلُّط، ومنع أيِّ شكلٍ من أشكال الابتكار، رغم أن بعضها يتمسَّح بمسوح الحريَّة، يقول جبرا إبراهيم جبرا: "الإبداع لا يأتلف مع الخوف؛ إذ كلما كتبت عبارة، خِفت وفكَّرتُ في شطبها؛ فإن كتابتك لا تستحق أن تقرأ، يجب على العربي أن يهيئ لنفسه ذلك المناخ الذي يمنع عنه الخوف، فيستطيع أن يقول ما يراه بحريَّة، وإلا فإن تفكيرنا سيظلُّ من الدرجة الثانية[2].
حذارِ من الانخداع بالغرب واتخاذه قدوةً في هذا المجال، خاصة في هذا العصر الذي يلفظ آخر أنفاسه كوهجة الشمس قبل الغروب؛ لقد ضاعت فيه الحريَّة بمفهومها الصحيح؛ فسياسة الكيل بمكيالين وازدواجيَّة المعايير والمصالح فوق كلِّ اعتبار أقصت كلَّ مبادئ الحريَّة والديمقراطيَّة التي يتبجَّحون بها؛ يقول "ونستون تشرشل" رئيس وزراء بريطانيا في الحرب العالمية الثانية: "الديمقراطية هي أسوأ نظام ما لم يطبَّق على الجميع".
ممنوع حتى التشكيك في الْمَحْرَقة، وإلا شتى صنوف العذاب، فأين حريَّة التعبير، والإبداع، والابتكار؟! أم الأمر حلال لهم حرام علينا؟!
واعلم أخي القارئ الكريم أن البحر يسع الجميع أن يسبح فيه، والسوق واسع، أي بضاعةٍ تدخلها فيه ستجد زبائن يشترونها، فلا تتردد في الإبداع والابتكار والتجديد، ولا تلتفت إلى الانهزاميين أصحاب الرُّؤى المثبِّطة، وضَعْ نصب عينيك شعارًا: "لا شيء مستحيل، فقط المطلوب تحديد الهدف والمسار والإصرار على الوصول، ومن سار على الدرب وصل"، ولا تكن إمَّعة؛ فكثيرًا ما نسمع: لدي رغبة في النجاح والإبداع، لكن سَرعان ما يصطدم ذلك كله بصخرة الواقع اصطدامًا قد لا تجتمع أشلاؤه، أو تلتئم أطرافه، رحم الله الشاعر إذ يقول:
أَعْمَى يَقُودُ بَصِيرًا لاَ أَبَا لَكُمُ
قَدْ ضَلَّ مَنْ كَانَتِ الْعُمْيَانُ تَهْدِيهِ
صحيح أن الواقع مُرٌّ ومليء بالأشواك، لكن لا بد من التثبُّت، ولا تنخدع بما يقرأ ويسمع، يقول الشاعر:
وَلاَ تَحْكُمْ بَأَوَّلِ مَا تَرَاهُ
فَأَوَّلُ طَالِعِ فَجْرٍ كَذَوْبُ
نعم، لا بد من التثبُّت وعدم التسرُّع والاستسلام؛ لأن الناس في هذا الزمان لهم أغراض وأهداف براغماتية وآنيَّة وأنانية، خاصة بعدما ماج العالم بعضه فوق بعض، واضطرب والتبس الحق بالباطل؛ فاليقظةَ اليقظةَ، والتبصُّرَ التبصُّر!
إن الأفكار الانهزاميَّة تجعل الميدان - عفوًا الحقل - مهددًا بأن يتحوَّل إلى أرض يَبَاب لا تعطي زرعًا ولا عُشْبًا، وتصير عبئًا على مَن يعيشون على ظهرها، هذا ما سطرته أنامل الغدر الأمريكي في العراق: مِن قتل العلماء وتصفيتهم، وما تسعى إليه الدول العظمى جاهدة؛ لتبقى الدول المتخلفة عَالةً عليها، وكلُّنا يتذكَّر مقولة "روديار كيبلينغ": "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا".
يقول "أمبرطو إيكو" الروائي والباحث الإيطالي: "الحضارة الغربيَّة لم تعد لحظة تاريخيَّة ولا منطقة جغرافيَّة، إنما آلة تدور لكي تصرع الجميع، حتى القائمين عليها".
لكن لو استحضرنا فكرة العقل الجمعي والإرادة، لن نلتفت إلى هراء هؤلاء، ورحم الله ابن القَيِّم إذ يقول: "الظبي أشد سعيًا من الكلب، لكنه إذا أحس به التفت، فيضعف سعيه فيدركه الكلب ويأخذه".
إياكم، إياكم أن تلتفتوا لصيحة ناعق أو حديث شامت أو هذيان مخذل؛ فهو هباء لا يملك مقاومة الرياح، فالأرض فاسحةٌ وواسعة، إنما تضيق على أصحاب الهِمم الدنيئة!
عنيت- كما قال أحمد أمين- أن أصف ما حولي مؤثرًا في نفسي، ونفسي متأثرة ومؤثرة بمَن حولي بكل شموخ المعزة، بكل صفات المحبَّة، بكل أوسمة التقدير، بكل سمات الاحترام، أنقل لكم بعض الأفكار عن التفكير الإبداعي، وأؤكِّد أنه ما لم يتمَّ التصويب وإعادة التصويب، وإعادة التشكيل والتنهيج للذهنيَّة المهزومة والفاقدة للأمل في النهوض، فسنبقى نراوح مكاننا ونقطع أحذيتنا ونستبدلها، ونظن أننا نقطع المسافات صوب أهدافنا؛ لذلك فالمشكلة كل المشكلة في ذهنيّتنا، في الوسائل التي تبني شبكة علاقاتنا الاجتماعيَّة ونسيجنا الثقافي، أو في أفكارنا التي تنتج عالم أشيائنا؛ أي: تنتج وتكرِّس واقعنا الذي نحن فيه.
فمن الضروري أن نعرف ما هو الفكر والتفكير؟ ما هي الموهبة؟ وما هو الإبداع؟ ومن هوالشخص الموهوب؟ فإن معرفتنا لذلك هي الخطوة الأولى في عملية البحثعن الموهبة والإبداع، ثم إن المواهب والإبداع صفات لا تقوم بذاتها، ولا بد من وجودشخص تقوم به، وهذا يستدعي معرفة ما هو التفكير الإبداعي أو الابتكاري؟ من هو الشخص المبدع؟ وما هي جوانب الإبداع فيه؟وكيف نبحث عنها؟ وما الوقت المناسب لاستكشافها؟ هل هي المرحلة الابتدائيَّة، أم مرحلةالروضة، أم غيرها من المراحل؟ ثم ما هي الأدوات المناسبة التي تساعدنا في عمليةالبحث والاستكشاف؟ ما هي النظريات المكتشفة للإبداع ومعيقاته؟ ما هي آليات طُرق بعث الإبداع في النفس البشرية؟ كلها فعلاً إشكالات تستدعي نقاشات ضخمة، وحلقات دراسيَّة مهمة.
تعريف الفكر:
مَن يرجع إلى قواميس اللغة والدراسات المنطقيَّة والعلميَّة التي عرَّفت الفكر وتحدَّثت عنه، يجد أن للفكر تحديدًا واضحًا وتعريفًا دقيقًا في هذه الدراسات والعلوم، ومن المفيد هنا أن نعرض عدَّة تعاريف للفكر كما وردت لبعض أعلام الفكر والعلم واللغة، قال الراغب الأصفهاني: "الفكرة قوَّة مطرقة للعلم إلى المعلوم، وال