التفكُّر

عبدالله بن رجا الروقي
1435/04/20 - 2014/02/20 17:27PM
خطبة التفكر


أما بعد فإن التفكر فيما ينفع ويقرب إلى الله من أهم المطالب الدينية ، لأنه عبادة من العبادات بل هو من أجل عبادات القلب وأنفعها له، وهو من صفات أولياء الله.
والمقصود بالتفكر هو تكرار نظر القلب فيما أمر الله بالتفكر فيه ليثمر ذلك زيادة الإيمان واليقين
ولذلك فالتفكر وسيلة للعمل، وسبب للفهم ، بل إن حياة المرء وسعادته تبع لأفكاره، قال ابن سعدي - رحمه الله -: (واعلم أن حياتك تبع لأفكارك، فإن كانت أفكارا فيما يعود عليك نفعه في دين أو دنيا، فحياتك طيبة سعيدة وإلا فالأمر بالعكس)ا.ه
والتفكر أصل الطاعات ومبدؤها، فأصل كل طاعة إنما هي الفكرة، وكذلك المعصية ، فإن العزائم والإرادات مسبوقة بالتفكر فيها ، فمن كان تفكره في طاعة الله لم يجد الشيطان عليه سبيلا
وهذا دليل على عظيم مقام التفكر فيما يرضي الله ، ولولم يكن له فائدة إلا أنه يشغل النفس عن الأفكار الرديئة والخواطر السيئة لكفى بها فائدة.

ومن فوائد التفكر أنه يذهب الغفلة عن المرء ويجلب الحياة لقلبه، قال بعض السلف: (الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية).
وكان السلف من الصحابة - رضي الله عنهم - فمن بعدهم أهل تفكر واعتبار ، وقد جاءت الآثار عنهم بهذا فقد سئلت أم الدرداء - رضي الله عنها - عن أفضل عبادة أبي الدرداء - رضي الله عنه - قالت (التفكر والاعتبار).
وقال الحسن - رحمه الله -: (تفكر ساعة خير من قيام ليلة) وقال أيضا (أفضل العمل الورع والتفكر) وقال عامر بن قيس - رحمه الله -: (سمعت غير واحد من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يقولون: إن ضياء الإيمان التفكر).

عباد الله:
لقد حثت آيات كثيرة في القرآن العظيم على التفكر، ومدح الله - عز وجل - المتصفين بهذه الصفة في كتابه.
فأشرف أنواع التفكر هو التفكر في كتاب الله وجاء التعبير عنه في غالب القرآن بالتدبر:
قال تعالى ﴿ افلم يدبروا القول ﴾ وقال تعالى ﴿ كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ﴾ وقال تعالى ﴿ وأنزلنا إليك الذّكر لتبيّن للنّاس ما نزّل إليهم ولعلّهم يتفكّرون ﴾
قال ابن القيم - رحمه الله -: " فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين، ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه، فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر ومر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة، ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم "ا.ه
وقد كان السلف يقرأون القرآن قراءة تدبر ولهذا
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لاتهذوا القرآن هذا الشعر ولا تنثروه نثر الدقل وقفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب لا يكن هم احدكم آخر السورة)

وهذا التابعي الجليل مطرف بن عبد الله بن الشخّير - رحمه الله - يقول : ( إني لأستلقي من الليل على فراشي فأتدبر القرآن، وأعرض عملي على عمل أهل الجنة، فإذا أعمالهم شديدة،
﴿ كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ﴾ ﴿ يبيتون لربهم سجدا وقياما ﴾
﴿ أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما ﴾ فلا أراني فيهم، فأعرض نفسي على هذه الآية ﴿ ما سلككم في سقر ﴾ فأرى القوم مكذبين.
وأمر بهذه الآية ﴿ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ﴾ فأرجو أن أكون أنا وأنتم يا إخوتاه منهم ).
ومن التفكر التفكر في مخلوقات الله كالسماء والأرض والليل والنهار فقد مدح الله - عز وجل - الذين يذكرونه قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض. قال تعالى ﴿ الّذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكّرون في خلق السّماوات والأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النّار ﴾

ومن التفكر التفكر في الدنيا ، فالدنيا دار ممر للآخرة لا دار مقر، قال تعالى: ﴿ إنّما مثل الحياة الدّنيا كماء أنزلناه من السّماء فاختلط به نبات الأرض ممّا يأكل النّاس والأنعام حتّى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّيّنت وظنّ أهلها أنّهم قادرون عليهآ أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لّم تغن بالأمس كذلك نفصّل الآيات لقوم يتفكّرون ﴾
وقال تعالى:
﴿ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون* في الدنيا والآخرة ﴾
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها).
وقال قتادة: (لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة فتعرفون فضل الآخرة على الدنيا).
وقال أيضا: (من تفكر في الدنيا والآخرة عرف فضل إحداهما على الأخرى، وعرف أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء، وأن الآخرة دار بقاء ثم دار جزاء).
والآيات في بيان حقيقة الدنيا وسرعة زوالها والتحذير من الاغترار بها كثيرة ، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أزهد الناس في الدنيا،وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لابن عمر - رضي الله عنهما -: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ».
ومن التفكر التفكر في أحوال الآخرة، كالحشر والنشر والجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه، وما أعد فيهما لأعدائه. فإن ماجاء في القرآن والسنة من ذلك يبعث الخوف من الله في القلب
ويحيي الرجاء فيه فتنكفّ إرادة الشر في العبد وتنبعث إرادة الخير فيه بإذن الله.
اللهم صل وسلم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الخطبة الثانية:
أما بعد فمن التفكر التفكر في خلق الانسان فقد ندب سبحانه الى التفكر والنظر فيه في مواضع من كتابه كقوله تعالى ﴿ فلينظر الإنسان مم خلق ﴾ وقوله تعالى ﴿ وفي أنفسكم أفلا تبصرون ﴾ وقال تعالى ﴿ يايها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الارحام ما نشاء الى اجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا اشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد الى ارذل العمر لكيلا يعلم من بعدعلم شيئا ﴾

معاشر المسلمين: إن التفكر أمر مندوب إليه،
ولكن ليس كل أحد يعتبر ويتفكر، وليس كل من تفكر أدرك المعنى المقصود .
فعلى المسلم أن يجتهد في التدبر والتفكر ليزداد إيمانه ويعظم إيقانه ، قال تعالى عن كتابه: ﴿ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ﴾
أي لو تدبروه، لدلهم على كل خير، ولحذرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبين لهم الطريق الموصلة إلى الله، وإلى جنته ومكملاتها ومفسداتها، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء تحذر، ولعرفهم بربهم، وأسمائه وصفاته وإحسانه، ولشوقهم إلى الثواب الجزيل، ورهبهم من العقاب الوبيل.[ ابن سعدي ]

وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته وآياته الدالة على ربوبيته وألوهيته، وما له من صفات الكمال والجلال، فقال تعالى: ﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ﴾
اللهم اجعلنا ممن يتفكر ويتدبر في كتابك ومخلوقاتك ، وانفعنا بذلك ياجواد ياكريم.
المشاهدات 2969 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا