التفاؤل والتشاؤم

عبد الله بن علي الطريف
1436/01/20 - 2014/11/13 19:28PM
التفاؤل والتشاؤم 21/1/1436ه
أيها الإخوة: إذا سرح الناظر طرفه في أحوال المسلمين اليوم قال: إن المسلمين اليوم يعيشون مِحَنًا ورزايَا، وفتنًا وبلايا، لهم في كل أرضٍ أرملةٌ وقتيل، وفي كل ركنٍ بكاءٌ وعَويل، وفي كل صِقعٍ مُطارَدٌ وأسير، صورٌ من الذلِّ والهوان والفُرقة والطائفية والإقصاء، دماءٌ وأشلاء، وتسلُّطٌ من الأعداء، وكأن الناظرَ لا يرى دماءً سوى دمائِنا، ولا جراحًا سوى جراحاتنا، زاغَت الأبصار، وبلغَت القلوبُ الحناجِر، وظنَّ ظانُّون بالله الظنُونَ.
ثم يقول هذا القائل: هل بعد هذه الأحزان من أفراح؟! وهل بعد هذه المضائق من مخارج؟! وهل وراء هذه الآلام من آمال؟! وهل في طيَّات هذه المِحَن من مِنَح؟! ومتى يلُوحُ نورُ الإصلاح؟!
يقول المُستبشِر حَسَنُ الظن بربه: نعم، ثم نعم..
وهل يكون انتظار الفرج إلا في الأزمات؟!
وهل يُطلَبُ حسنُ الظن إلا في المُلِمَّات؟! يَقُولُ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا في الحديث القدسي: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ، رواه ابن حبان وصححه الألباني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وفي رواية: فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ.
والمؤمنون قال الله فيهم: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) الأحزاب: 22 وقال في آخرين: (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) الفتح: 12 وقال تعالى: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) فصلت: 23.
وعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: والذي لا إله غيره؛ ما أُعطِي عبدٌ مؤمنٌ شيئًا خيرًا من حُسن الظنِّ بالله، وَاَلَّذِي لا إلَهَ غَيْرُهُ؛ لا يُحسِن عبدٌ بالله -عز وجل- الظنَّ إلا أَعْطَاهُ اللهُ -عز وجل- ظنَّه؛ وَذَلِكَ بِأَنَّ الْخَيْرَ فِي يَدِهِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ.
... وفي الحديث الصحيح: إِذَا تَمَنَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَكْثِرْ؛ فَإِنَّمَا يَسْأَلُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
أيها الإخوة: ما دامت أمتُنا شاهدة على الأمم فهي باقيةٌ ما بقِيت الحاجةُ إلى الشهادةِ، وما دامت رسالتُنا هي الخاتمة فهي باقيةٌ إلى آخرِ الدهر، وفي تاريخ الأمة مئاتُ العُظماء بل آلافٌ.. وآلاف قد وُلِدوا وسوف يُولَد أمثالُهم وأمثالُهم -بإذن الله-، وهذه سنة الله.
بل ها هي أحداث ومُستجِدَّات، ونوازِل ومُتغيِّرات تحدث في الأمة، ظنَّ أصحابُها أنهم مانِعَتُهم حُصونُهم، فأتاهم الأمرُ من حيث لم يحتسِبوا، سُدَّت عليهم المخارج، وضاقَت عليهم الحِيَل.
أيها الإخوة: أحسِنوا الظنَّ بربكم، فكلما ازداد التحدِّي ازداد اليقين، ولا يرى الجمالَ إلا الجميل، ومن كانت نفسُه بغير جمال فلن يرى في الوجود شيئًا جميلاً...
والكون ليس محدودًا بما تراه عيناك، ولكن ما يراه قلبُك وفكرُك؛ فجفِّف دمعَك، واجبُر كسرَك، وارفع رأسَك؛ فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، فإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. ولن يغلب عسرٌ يسرين.
مشى المُعافَى بن سليمان مع صاحبٍ له، فالتفتَ إليه صاحبُه عابسًا مُتبرِّمًا وقال: ما أشدَّ برد هذا اليوم!! فقال له المُعافَى: وهل استدفأتَ الآن؟! قال: لا. قال: فماذا استفدتَ من الذم؟! لو ذكرتَ اللهَ لكان خيرًا لك.
المهزومُ من هزمَته نفسُه، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،: "إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ" أي (أشدهم هلاكا) رواه مسلم. وقال الخطابي معناه لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساويهم ويقول فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم أي أسوأ حالا منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أنه خير منهم..
ومن أجل هذا أمرَ دينُنا بالتفاؤل، ونهى عن التشاؤم؛ بل إن نبينا محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحبُّ التفاؤل ويُعجِبُه الفأل، ويُعجِبُه أن يسمع: يا نجيح، ويا راشد؛ لأن التفاؤلَ كلُ ما أدخل على الإنسان سرورًا وبهجةً وانشراحًا مما يدفعُ إلى العمل، ويفتحُ أبوابَ الأمل، وتنطلِقُ معه النفوس.
يقول ابن بطَّال: جعل الله من فِطَرِ الناس: محبةَ الكلمة الطيبة والأُنس بها، كما جعل فيهم الارتياحَ بالمنظر الأنيق والماء الصافي، وإن كان لا يملكه ولا يشربُه.
الفألُ حُسن ظنٍّ بالله وتعلُّقٌ برجائه، التفاؤل استعانةٌ بالموجود لتحصيل المفقود، وهو تقويةٌ للعزم، وباعثٌ على الجِدّ، ومعونةٌ على الظَّفَر.
التفاؤل يقلِبُ الدار الضيقةَ قصرًا، والقلةَ غِنًى، وهل يشعُر بسعَة الدنيا من كان حِذاؤه ضيِّقًا؟!
المتفائل يسقط من أجل أن ينهض، ويُهزَم من أجل أن ينتصر، وينام من أجل أن يستيقظ، ومن جدَّ وجَد، ومن زرعَ حصَد.
المتفائل لا تُزعزِعُ يقينَه المصائب، ولا تفُلُّ عزيمتَه الفواجِع، ولا تُضعِفُ إيمانَه الحوادث، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ. رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني.
ولهذا قيل: نفسُ المرء مثل غرفته إن شاء فتح النوافذ فدخل النور والضياء والهواء والعليل، وإن شاء أغلقها فبقِيَ في الظلام.
المتفائل أيها الإخوة: ينظرُ إلى الحل، والمتشائم ينظرُ في المشكلة، المتفائل مُجِدٌّ على الدوام لا يعرفُ الإحباطَ والضررَ، يرى الحياةَ حقًّا له وحقًّا للآخرين، والمتشائم جلاَّد نفسه يرى غيرَه أسعدَ منه، ثم هو يريدُ أن يكون أسعدَ من الآخرين، وهل مثلُ هذا يُحقِّقُ السعادة؟!
المتفائل يرى ضوءًا لا يراه الآخرون، والمتشائم يعمَى أن يرى الضوءَ الذي أمام ناظرَيْه، المتفائل مستفيدٌ من ماضيه، مُتحمِّسٌ لحاضره، مُستشرفٌ لمُستقبَلِه، والمتشائم أسيرٌ لماضيه، مُحبَطٌ من حاضره، هليعٌ على مُستقبَلِه.
المتفائل يطلُبُ المعاذير والمخارج لسلامة طوِيَّته وانشراح صدره، والمتشائم يشتغِلُ بالعيوب ويحشُرُ نفسَه في المضائق لظُلمة باطنه.
المتشائم يحسَبُ كل صيحةٍ عليه، يجوعُ وهو شبعان، ويفتقِر وهو غني: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) البقرة: 268.
المتشائم يذكُر النعَمَ المفقودة ويعمَى عن النعَم الموجودة.
أيها الأحبة: ليست محطة وصول ولكنها مسيرةُ الحياة كلها، بالمال تشتري السرير ولكنك لا تشتري النوم، وتشتري الساعة ولكنك لا تشتري الوقت، وتشتري المنزل ولكنك لا تشتري الراحةَ والسعادةَ.
كتبَ عمرُ بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: أما بعد: فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعتَ أن ترضى وإلا فاصبِر. رواه البيهقي والطبراني في الكبير.
أيها الأحبة: المتفائل لا يُنكِر الواقع، ولا يستهينُ بالمُشكِلات، ولا يُهمِلُ الأسباب، ولا أخذَ الحزم من الأمور والاحتياط في المسالك، ولكن الله -عز وجل- لقِسطه جعل الفرحَ والسرورَ وراحةَ النفس وسكينتها في الرضا واليقين، وجعل الغمَّ والحَزَن في السخَط والشك.
فلا تُفسِد -حفِظَك الله- حاضِرك حُزنًا على ماضيك؛ فالتفاؤل في المُستقبل هو الشاهدُ على صحة العقل وصفاء النفس.
ورأسُ التفاؤل الاتصالُ بالعليِّ الأعلى، فالصلاة تفاؤل، وذكرُ الله تفاؤل، والدعاءُ تفاؤل، يُحيطُ بذلك: حُسنُ الظن بالله -عز شأنُه-: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) النساء: 104 (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) آل عمران: 139
بارك لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: المؤمنُ ذو اليقين والرضا يعلمُ أن الله ما منعَه إلا ليُعطِيَه، ولا ابتلاه إلا ليُعافِيَه ويُثيبَه، ولا امتحنَه إلا ليصطفِيَه.. والمؤمن لا يعلم أين الخير، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "مصيبةٌ تُقبِلُ بها على الله خيرٌ من نعمةٍ تُنسيكَ رضا الله".
واعلم أن المرء ربما يفشَلُ إذا خاطَرَ وأقدم، ولكن من المُؤكَّد أنه سوف يفشَل إذا لم يُقدِم، وأعظمُ الفشل أن لا تعمل.. وقال بعض أهل العلم: "المُشكلات والمِحَن لم تأتِ لتُهلِك الناس؛ بل لتمتحِن صبرَهم وإيمانَهم وعملَهم، والأجرُ عند ربك مربوطٌ بالعمل والاجتهاد وليس بالنتائج والثمار، وقاعدةُ التوازن: اعمل لدنياك كأنك تعيشُ أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموتُ غدًا".
وإذا ضاقَ صدرُك وجَشِمَ عليك همُّك فالزَم التسبيح؛ فقد قال الله لنبيه وحبيبه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) الحجر: 97- 99 وقال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) التوبة: 129.
أحبتي: إن التفاؤل الحق هو التصديقُ بوعد الله سبحانه يقول عز من قائل: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) النور: 55. ويقول: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) الحج: 40، 41.
ملخصة من خطبة للشيخ صالح ابن حميد حفظه الله
المشاهدات 2524 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا