التفاؤل

الخطيب المفوه
1433/02/05 - 2011/12/30 07:51AM

التفاؤل
خطبة ألقيت في جامع أبي عبيدة بحي الشفا
ألقاها : د / سعد بن عبدالعزيز الدريهم .
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لله ، نحمدُه ونستعينه ونستغفره ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله ؛ فلا مضلَّ له ، ومن يضللْ ؛ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعدُ : فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد e، وشرَّ الأمور مُحـدثاتُها ، وكلَّ محـدثةٍ بدعــةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أتدرون أَيُّهَا الأحبة في الله ، من هم العظماء ؟ ومن هم الرجال الذين يغيرون مسار الحياة ؟ ويرسمون للبشرية نهجاً يأخذ بها نحو السعادة ، ويريحها في أمر المعاش والمعاد ؟
أولئك أيها الجمع الكريم ، هم من ينظرون إلى الحياة نظرة ملؤها التفاؤل والبشر ، ولا يكتفون بذلك بل يبذرون التفاؤل في النفوس ، ويجعلون من التفاؤل سبيلاً تعبر عليه قوافل البشر ..
ما أجمل التفاؤل ! وما أعظم أثره على النفوس ! إنه لا نجاح للنفوس دون تفاؤل ؛ وعلى هذا فالنجاح والتفاؤل وجهان لعملة واحد ، ويمكن أن نقول كذلك : الفشل والتشاؤم قرينان حيثما حل أحدهما فالآخر في الأثر ؛ فلنروي أرضنا أيها الجمع الكريم ، بالتفاؤل لنحصد نتاجه نجاحاً وفلاحاً ؛ ولنخرج من بين ظهرانينا أولئك القوم الذين أضحى اليأس والقنوط والتشاؤم علامة بارزة في تفكيرهم ؛ فأصبحوا يسقون الأمة الخبال ويروُّونها الفشل ؛ فأضحت الأمة نتيجة لذلك تتجرع غصص المثبطات وآلام التقهقر ..
إطلاق النفس على سجيتها وجعل التفاؤل قريناً لها ؛ منهج قويم لدى المصلحين بداية من أنبياء الله ورسله وانتهاء بآخر داعية يصارع الباطل ويقارعه ؛ وإنك لتعجب أيها المحب ، وأنت تتلو قصص الأنبياء والرسل الوارد في كتاب ربنا من تلك المساحة الواسعة من التفاؤل التي يُرْكِضُون فيها خيولهم ؛ بل إن التفاؤل منهم ينبثق في ذروة المثبطات وطابور اليأس المحدق بهم ؛ لعلك تطلع على قصة النبي يعقوب u المسطرة في سورة يوسف u ، فتجد أن هذا العبد الصالح يفقده ولده يوسف فتمتلئ نفسه بالحزن عليه ؛ حتى ابيضت عيناه من كثرة البكاء ؛ ليفقد بعد زمن ابنه الآخر ؛ فيُخَيِّم الحزن عليه ويأخذ بكل زاوية من جسمه ؛ ليقول بعد ذلك : ) عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيْعاً ( ، بل إن رصيده من البِشْرِ والتفاؤل ليتعدى ذلك ؛ ليوصي بنيه بعدم اليأس من روح الله ؛ لأن اليأس والقنوط من روح الله ورحمته من أخلاق الكافرين ) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ القَومُ الكَافِرُونَ( ؛ إنه لا أجمل ولا أسمى من أن تكون متصالحاً مع نفسك ؛ تغذيها البشر وتسقيها التفاؤل ، وهذا كما أسلفت منهج المُوَفَّقِين ، وهو منهج أعظمهم توفيقاً r ؛ وإنك لو تصفحت سنته r ستقف ولا ريب على عجيب من أمر التفاؤل والأمل ، وقد كان تفاؤله بأبي هو وأمي r خيرَ حافز لأعظم حركة تصحيحية شهدها العالم في تاريخه القريب والبعيد؛ يخرج r من بلده ويُطْرَدُ وَتَدُعُّهُ القبائل دعّاً ، ويسلطون عليه سفهاءهم لأذيته ؛ فتُدْمَى أقدامه الشريفة ، وفي ساعة من أشد الساعات حرجاً في حياته يأتيه ملك الجبال يستأذنه في إهلاك تلك الأمة التي فعلت بنبيها هذه الأفاعيل الشنيعة ؛ ليقول : لا ، فلعـل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لايشرك به شيئاً ، ما أطيبك يا أبا القاسم ! وما أعظم هذا القلب الذي تحمله ! إنه لا أزكى ولا أطهر من هذا القلب ؛ فلعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ! تفاؤل عريض ونظرة متحفزة للمستقبل بكل أريحية وخير ، وقد كان ما تفاءل به ؛ فلقد خرج من تلك الأصلاب الكافرة نسمات مسلمة وحدت الله ونشرت دينه في العالمين ، ولن نقف عند هذا المثال ، بل سنعززه بآخر أكثر إشراقاً وأصدع بالأمر من سابقه ؛ لقد أتاه الصَّحب يشكون ما يلقون من أذية الكفار ، وقد كان أذىً بلغ مداه في العربدة والسفاهه ؛ ليطلبوا النصرة من رسول الله ، وقد كان النبي r متوسداً برده في ظلال الكعبة ، وكأني به r يرسم خارطة المستقبل بمداد التفاؤل ؛ ليجلس فيعطيهم درساً في وجوب الصبر ؛ لأن الصبر هو الوقود الحقيقي لسيرورة دواليب التفاؤل ؛ ثم يقول: « وليُتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه » الحديث رواه البخاري ؛ رجل مُضَيقٌ عليه في مكة لا يملك من أمره شيء ؛ يبشر بالأمن التام في الأرض ، إنه لا أعجب من التفاؤل تحقيقاً للنتائج بإذن الله ؛ وقد كان هذا الأمر ؛ فسار الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله ؛ وذِكْرُ الأمن بين هاتين المنطقتين صنعاء وحضرموت ؛ لأنها منطقة مخوفة ؛ حتى في زمننا هذا ، فقل أن يسلم راكب بينهما ..
والتفاؤل أيها الجمع الكريم ، هو حسن ظن بالله ، والتشاؤم سوء ظن بالله ؛ فمن تفاءل فقد أحسن الظن بالله ، ومن تشاءم فقد أساء الظن بربه ؛ فليضع أحدكم نفسه حيث شاء ؛ في محلة الظن الحسن أو في منزلة الظن السيئ ، وكلٌّ سَيُلَقَّى ما ظن إن خيراً وإن شراً ، ولا يظلم ربك أحداً . يقول النبي r في الحديث القدسي : « يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ؛ فليظن عبدي بي ما شاء » ، واستطراداً نقول أيها الجمع الكريم : إن من ظن بالله مغفرةَ الذنوب والعتقَ من النيران ؛ كان له ذلك؛ لأن الله سبحانه قادر على إنفاذ ذلك ، وإن يئس وقنط من مغفرة الله ورحمته ؛ بوأه الله منازل الخاسرين الكافرين ، ولكنه أيها الأحبة تفاؤل مشروط بالعمل ، وإلا كان وهماً ومنًى لا تسمن ولا تغني من جوع ..
ولو حركنا أيها الجمع الكريم ، رسل التفاؤل من حولنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ؛ لا أخالها إلا سترد بصيود سمان ستجعلنا على خطوات ثابتة في مسيرنا ، وقد كان النبي r يبعث بتلك الرسل فتغنم ؛ فإن رأى ما يعجب تفاءل ومضى ؛ لقد رأى إبلاً ، وهو في طريق الهجرة ، فسأل عنها فقيل : لرجل من أسلم ؛ فالتفت إلى أبي بكر فقال : سلمتَ ، وفي غزوة الحديبية ، كان المفاوضَ من الكفار سهيلٌ ؛ فقال النبي r : سهل أمرنا ، وهكذا كان النبي r يسخِّر بالتفاؤل ما استصعب من أمره ؛ فكان أمره سهلاً يسيراً ، بل لقد كان r يغير الأسماء تفاؤلاً بتغيير مدلولها ؛ وكان الصحابة يستجيبون ثقة بمحبة النبي r لهم الخير ، ومرة أراد أن يغير اسم أحدهم من حَزَنٍ إلى سهل ؛ فأبى ذلك الصحابي ، وقال : لا أغير اسماً سمانيه أبي ؛ فيقول حفيد ذلك الرجل ، وهو سعيد بن المسيب بن حزن : لم تزل الحزونة فينا منذ ذلك ..
فلنمض أيها الجمع الكريم على خطى النبي r تفاؤلاً وبشراً ، فلعلنا أن ننال خيراً ولعلنا ندفع بذلك شراً ، وقد قيل : تفاءلوا بالخير تجدوه ، وأصدق منه قول ربنا الجليل سبحانه وتعالى : )إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا( ، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ..
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه ، أحمده سبحانه وأشكره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسله ، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فأيها الأحبة في الله ، إن من أساسيات التفاؤل الثقة بالله والرضا بقضاء الله وقدره ، وفلسفةُ ذلك أن الإنسان إذا وثق بربه ، ورضي بكل ما جاء منه صَفَتْ نفسه ؛ فأضحت ذات شفافية وصفاء ، وهي في تلك المنزلة تنظر للعالم من خلال تلك النفس النظيفة الشفافة ، ولا أظنها ترى وهي كذلك إلاَّ كلَّ أمرٍ حسن خيِّرٍ ، ومن هنا ينبعث التفاؤل ؛ لذا كانت أكثرَ القلوب طهراً أكثرُها تفاؤلاً ، أما النفوس المظلمة بأحقادها ؛ فلا ينبعث من مشكاتها إلا التشاؤم ..
وما دمت نفسك أيها الفاضل ، قد شرعت في التفاؤل وأخذت بأسبابه، فلا تستعجل رزقاً ، ولا تستبطئ نصراً ، ولا تقلق على أمر خاص أو عام ، بل اجعل الأمور تجري في أعنتها ؛ لأن العاقبة إلى خير ، ولن يأتيك من تفاؤلك إلا النجاح والفلاح ، بل حتى الأمور السيئة يجب أن تكون مرقاة للتفاؤل ؛ فلقـد سُبَّتِ الحـمـى عند النبي r فنهى عن ذلك ، وقال : « لا تسبي الحمى » ؛ ولماذا يا رسول الله ؟ لأنها تهذّب النفس وتغفر الذنوب، تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد ، ولا بد أن تعوا أيها الموفقون ، أن حسن الظن بالله من حسن عبادة الله ، يقول النبي r: « إن حسن الظن بالله من حسن عبادة الله » ، ونحن أيها الأحبة ، ربما مارسنا التفاؤل طلباً للأجر واقتداء ، وليتنا نعممه في أحوالنا كلها ؛ فنحن إذا انفتلنا من صلاة الاستسقاء قلبنا الأردية تفاؤلاً بنزول الغيث من السماء، وتشبهاً بنبينا محمد r ؛ فلنتفاءل أيها الأحبة ، ولنجعل كل من حولنا يتفاءلون ، ولنسبغ حياة التفاؤل على ربوعنا ، وربنا سبحانه كريم وقادر ، وهو عند ظنوننا ؛ فلنكن أصحاب ظنون حسنة ؛ لنظن بربنا أن يؤمننا في أوطاننا ، وأن يقمع أعداءنا ، ولنظن بربنا الخيرات ، وتنزل الرحمات ، ولنظن بربنا العز والتمكين لدينه وللمسلمين ، ولنظن بربنا تفريج الكرب وتنفيس الكرب ، بل وكل أمر حسن ..
اللهم أنت الله ...
المرفقات

التفاؤل.doc

التفاؤل.doc

المشاهدات 3462 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا